ربما لا يعلم البعض أن نظرية الجاذبية المنسوبة إلى العالم الإنجليزي إسحاق نيوتن (1643-1727)، والتي حقق من خلالها شهرته الفائقة، سبقه إليها عالم مسلم، كان له الفضل في إثبات أن الأشياء تتجه للأسفل عند السقوط، أو كما يُعرَف علميًّا بـ”الجاذبية”، ووضع لذلك قانونًا خاصًّا وفق معطيات تتعلق بحركة الأجسام، وهو العالم محمد بن الحسين الخراساني، المعروف بـ”أبو جعفر الخازن”.
ولد أبو جعفر في خراسان بفارس، وإن كان يعود بجذوره إلى مملكة سبأ، جنوب غرب شبه الجزيرة العربية، وقد اختلف المؤرخون في تاريخ ميلاده تحديدًا، لكن الأرجح من أقوال الثقات أنه ولد في القرن العاشر الميلادي، وبدقّة أكثر في عام 900، وعاش معظم سنوات حياته الممتدة إلى قرابة 6 عقود كاملة في خدمة العلم والعلماء.
له إسهامات عظيمة في علوم الفلك والنجوم، فهو صاحب عدة نظريات في شكل الكون وتركيبه، كما وضع تفسيرًا لحركات الكواكب في تقدُّمها وتباعُدها، وقدّم شرحًا لبعض آلات الرصد الفلكية أهمها آلة قياس ارتفاع الشمس، هذا بخلاف إنجازاته الهائلة في الرياضيات والحساب، وفي هذا التقرير من ملف “أعمدة منسية”، نلقي الضوء أكثر على هذا العالم الذي تناساه المؤرخون بينما خلّدته أعماله وإسهاماته.. فماذا نعرف عن الخازن الذي سبق نيوتن وآخرين؟
العالم الدبلوماسي
بعيدًا عن اختلافات المؤرخين حول مكان ولادته وتاريخها، إلا أن الراجح أنه ولد في عهد الدولة البويهية التي حكمت فارس والعراق بين عامَي 943 و1062، حيث كان على صلة وثيقة بالوزير الكاتب ابن العميد، وزير ركن الدولة، آنذاك، والذي أنزله منه منزلة عظيمة لما كان يتمتّع به من حضور وذكاء خارق.
وكان الوزير الركن من أبرز المؤمنين بالعلم والداعمين للعلماء، فكان حاضنتهم الأهم وسندهم الأقوى، وما كان هناك عالم إلا وقدّم له يد العون، إذ كان يحكم قبضته على مدن الري وأصفهان وهمذان في فارس، حتى بعد تمدُّد نفوذ الدولة إلى العراق أَولَى علماء بغداد أهمية ومكانة عظيمة.
يُنسب إليه الفضل في وضع طرق لتحديد بدايات الأشهر والسنة الهجرية عبر قراءاته المختلفة لحركات النجوم.
ونظرًا إلى الجهود التي قدمها الخازن في مجال الفلك وحركات النجوم تحديدًا، عُيّن أمينًا للخزانة في عهد الأمير الساماني منصور بن نوح الأول (961-976)، ثم وزيرًا في نيسابور، وعزز من قربه من الوزير العميد الذي آمن به وبقدراته الهائلة، ليست العلمية وحدها بل الدبلوماسية كذلك، لما يتمتع به من فطنة وبلاغة وحضور قوي، فعيّنه مبعوثًا للبويهيين خلال مفاوضات السلام التي أقاموها مع السامانيين.
الأجواء المؤهّلة التي عاش فيها الخازن، والدعم الذي لاقاه من وزيره العميد، جعلاه يفضّل البقاء إلى جواره في مدينة الري (منطقة تاريخية جنوب شرق طهران) على الترحال والسفر كعهد معظم علماء ذلك الوقت، وفرّغ جهوده ووقته في البحث والتأليف، متخصّصًا في علوم الفلك والنجوم والرياضيات، ليبدع فيها أيما إبداع، حتى بات واحدًا من أقطابها العظام ممّن يُشار له بالبنان حتى اليوم.
مُكتشف الجاذبية ومبتكر الإسطرلاب
سبق الخازن علوم عصره في علم الفلك، فكانت له إسهامات عظيمة في هذا العلم، وربما يعود إليه الفضل في إثبات أن الأجسام تتجه نحو الأسفل عند سقوطها، وهي القاعدة التي ارتكز عليها إسحاق نيوتن في اكتشافه لقانون الجاذبية، ومن ثم يعتبره البعض أول مكتشف لهذا القانون قبل العالم الإنجليزي بقرابة 800 عام.
كما أنه استطاع أن يقدّم رؤية مغايرة تمامًا تفسّر حركة الكواكب في تقاربها وتباعدها، وذلك في كتابه “المدخل الكبير إلى علم النجوم”، والذي طوّر فيه نموذجًا لحركة الشمس مع دائرة الأرض كمركز لها، حيث تكون حركتها موحَّدة فيما يتعلق بنقطة لا تتطابق مع مركز الأرض، وهو الاكتشاف الذي يتقاطع مع قانون الجاذبية، والذي استند إليه أنصار اعتباره مكتشف القانون الأول.
كما يُنسب إليه الفضل في وضع طرق لتحديد بدايات الأشهر والسنة الهجرية عبر قراءاته المختلفة لحركات النجوم، هذا بجانب بعض المسائل الأخرى في علم التواريخ وتحديدها، كما قدّم تصورًا مختلفًا لشكل العالم والكرة الأرضية بصفة عامة، وهو التصور الذي يحظى بأهمية كبيرة للمهتمين بعلوم الفلك في العالم حتى اليوم.
تمكّن من حل المعادلات التكعيبية حلًّا هندسيًّا مبتكرًا بواسطة قطوع الخروط، كما درسَ مسائل التعدد في الحساب وألّف بها عدة كتب.
وفي هذا المسار ذاته له أطروحة جغرافية مختلفة مرحليًّا عن المتعارَف عليه في ذلك الوقت، حيث رسم لـ 2402 منطقة حول العالم خطوط الطول والعرض لها، وتنوّعت بين مدن وجبال وبحار وأنهار وجزر، كما قدّم خرائط جغرافية عامة بشكل أدق عمّا قدمها العالم الإغريقي المعروف بطليموس.
وللخازن إسهامات جليلة في مجال آلات الرصد الفلكية، حيث وضع شروحات خاصة لها ولطبيعة عملها، ومن أهمها آلة قياس ارتفاع الشمس، وفي كتابه “الآلات العجيبة الرصدية” ابتكر حلقة محيطها 13 قدمًا و8 أذرع، وهي أصغر من الحلقة التي استخدمها السابقون عليه، وقد حقّق بواسطتها -بمساعدة بعض العلماء- انحراف دائرة البروج.
ويُرجع البعض ابتكار الإسطرلاب للخازن، وهو جهاز يستخدمه علماء الفلك والمنجّمون لتحديد مواقع القمر والنجوم والشمس والكواكب والتنبؤ بها، كما يُستخدَم في رسم خطوط الطول ودوائر العرض، ورغم فقدان هذا الابتكار إلا أن العديد من علماء الغرب والشرق أشاروا إليه في كتاباتهم، وهناك بعض المؤلفات التي تثبت ذلك في إحدى مكتبات الهند وفي متحف الفن الإسلامي في برلين.
المعادلات التكعيبية والمثلثات
وتتواصل إسهامات أبو جعفر من الفلك إلى الرياضيات، إذ تمكّن من حل المعادلات التكعيبية حلًّا هندسيًّا مبتكرًا بواسطة قطوع الخروط، كما درس مسائل التعدد في الحساب وألّف بها عدة كتب، كما كان له حضور قوي في حلحلة بعض المسائل الخاصة بحساب المتوازيات، ولذا يعتبره البعض قد سبق علماء الرياضيات التاريخيين، وعلى رأسهم بيكر وديكارت.
وكانت له إنجازات هامة في مشكلة القياس المتساوي، وأثبت حضوره القوي في بعض المسائل الحسابية الرياضية التي كانت محل جدال في ذلك الوقت، منها إثبات غير مباشر بالتناقض كأحد أبرز قضايا الإثبات الرياضي، هذا بخلاف ما قدّمه في مجال خصائص المثلثات القائمة الزاوية، وهو ما وثّقه حرفيًّا في كتابه “رسالة في المثلثات القائمة الزوايا”.
وأثرى الخازن المكتبة العالمية بأمّهات الكتب في الفلك والرياضيات، أبرزها “زيج الصفائح” المصنَّف كواحد من أبرز ما كُتبَ في الفلك وحركة النجوم في التاريخ، رغم التحفظات الذي أبداها عليه ابن عراق في رسالته “رسالة تصحيح زيج الصفائح” التي كتبها إلى أبي الريحان البيروني عام 430هـ، وكتاب “المسائل العددية”، “شرح كتاب إقليدس”، “شكل القطوع”، “الآلات العجيبة الرصدية”، “سر العالمين”، “المدخل الكبير إلى علم النجوم”، وكتاب “الأبعاد والأجرام”.
وبعد رحلة حافلة بالعطاء، عاش خلالها في كنف العلم والعلماء، وأسهم بما قدّمه عبر عدة سنوات في تحقيق طفرة كبيرة في علوم الفلك وحركة النجوم والكواكب وتحديد المواقيت والتواريخ واستطلاع السنين والأشهر، بجانب الإسهامات الرياضية العظيمة، توفي أبو جعفر الخازن نحو سنة 960، تاركًا خلفه إرثًا علميًّا عظيمًا كان حائط الصد أمام تجاهله التاريخي وتسطيح سيرته وغيابه عن منصات التناول الإعلامي والتاريخي.