يوم 8 مايو/أيار 2021، خرج الرئيس عبد المجيد تبون على الجزائريين قائلًا: “جودة العلاقات مع فرنسا لن تتأتّى دون مراعاة التاريخ ومعالجة ملفات الذاكرة، التي لا يمكن بأي حال أن يتم التنازل عنها مهما كانت المسوغات”، وأكد تبون بمناسبة الذكرى الـ76 لمجازر 8 مايو/أيار 1945، أن المستقبل الواعد في توطيد وتثمين أواصر العلاقة بين الأمم يجب أن يكون أساسه صلبًا خاليًا من أي شوائب.
لم يكن كلام تبون حينها صدفة، فما إن يتكلم مسؤول جزائري عن العلاقات مع فرنسا حتى يتطرق لملف الذاكرة، فالجزائر تتمسك بمطلب التسوية الشاملة لملف الذاكرة، القائمة على اعتراف فرنسا النهائي والشامل بجرائمها في حق الشعب الجزائري وتقديم الاعتذار والتعويضات العادلة عنها.
وغالبًا ما يؤكد المسؤولون في الجزائر أن بلادهم لن تنسى ملف الذاكرة الوطنية، خاصة مع تعلقها بالاعتذار عن الجرائم المرتكبة بحق الجزائريين والتفجيرات النووية في رڤان وملف الأرشيف وقضية المفقودين إبان الفترة الاستعمارية.
بعد نحو سنة وثلاثة أشهر زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الجزائر، فتغير الكلام وتغيرت معه اللهجة، فقد وصفت الرئاسة الجزائرية في بيان مشترك مع الرئاسة الفرنسية في ختام زيارة ماكرون، العلاقات التي تربط البلدين بـ”الإنسانية الاستثنائية التي توحدهما”.
ثمّن البيان الذي حمل اسم “إعلان الجزائر من أجل شراكة متجددة بين الجزائر وفرنسا”، انتماء البلدين “لنفس الفضاء الجغرافي المتوسطي وتقاربهما السياسي وكذا تكاملهما الاقتصادي لبناء علاقة إستراتيجية تقوم على أسس الثقة المتبادلة والحوار المتجدد”.
فرنسا تحقق المطلوب دون اعتذار
وصل ماكرون إلى الجزائر نهاية الأسبوع الماضي، وكان يخيل للجزائريين أن تبون سيضغط عليه حتى يعتذر من “الأمة الجزائرية” التي أنكر وجودها قبل نحو سنة من الآن، خاصة أن فرنسا جاءت تستجدي الغاز الجزائري والتعاون الأمني والاقتصادي معها.
لم يفعل ماكرون ذلك واكتفى بدعوة الجزائريين كعادته إلى تجاوز الذاكرة التاريخية الاستعمارية مع بلاده والتطلع للمستقبل، قائلًا: “لم نختر تاريخنا ولكننا ورثناه ولا يجب أن يكون عائقًا أمامنا للمضي في علاقاتنا مع الجزائر قدمًا”، مشددًا على ضرورة طي صفحة الماضي وفتح صفحة جديدة.
عوض الاعتراف والاعتذار، فضل ماكرون رمي الكرة في ملعب المؤرخين، من خلال تشكيل لجنة فرنسية جزائرية مشتركة لدراسة الأرشيف في الفترة الاستعمارية والثورة التحريرية، وسبق لماكرون، أن كلف المؤرخ الفرنسي بنجامين ستورا المولود في الجزائر، بإعداد تقرير عن ملف الذاكرة، لكن التقرير الذي أعده في يناير/كانون الثاني لم يتضمن أي توصية بتقديم اعتذار للجزائر.
بالنظر إلى جملة ما تم الاتفاق عليه، نرى أن ماكرون خرج منتصرًا رغم التهديد والوعيد الصادر عن السلطات الجزائرية قبل انطلاق الزيارة
لم يعتذر الرئيس الفرنسي، لكنه حصل على ما يريد وأكثر، إذ أضاف إلى جدول زيارته “إعلان الجزائر” وفيه تم تأكيد قرار البلدين “تدشين حقبة جديدة من العلاقات الشاملة التي تجمعهما، عبر إرساء أسس شراكة متجددة، التي يتم تجسيدها من خلال نهج ملموس وبناء موجه نحو المشاريع المستقبلية وفئة الشباب، بما يسمح بتحرير إمكانات تعاونهما وبما يتماشى مع تطلعات شعبيهما”.
تم الاتفاق على إنشاء “مجلس أعلى للتعاون” على مستوى رئيسي البلدين، “من أجل تعميق وصياغة الاستجابات الملائمة والمتبادلة للقضايا الثنائية والإقليمية والدولية ذات الاهتمام المشترك، في روح من الثقة والاحترام المتبادلين”، رغم الاختلاف التام في وجهات النظر في العديد من المسائل الإقليمية.
أما على المستوى الأمني، فقد حقق ماكرون المطلوب، حيث تم تنظيم اجتماع رفيع المستوى جمع قادة أجهزة الأمن من الجانبين بما فيها الجيش “لأول مرة منذ الاستقلال”، وقد انبثقت عنه قرارات مشتركة على أن يتكرر الاجتماع كلما دعت الحاجة لذلك.
يعتبر هذا الأمر إنجازًا في حد ذاته، ففرنسا تضررت كثيرًا نتيجة ضعفت التعاون الأمني مع الجزائر سواء على مستوى شمال إفريقيا والبحر المتوسط أم على مستوى منطقة الساحل والصحراء التي تكبدت فيها باريس خسائر كبرى.
الجزائر تقابل فرنسا بالاحضان!! pic.twitter.com/zLtWsOGOci
— ???????♀️ (@Gzl67779269) August 28, 2022
حتى في مسألة التأشيرات خرج ماكرون منتصرًا أيضًا، فقد دافع عن توجه بلاده بمنح تأشيرات انتقائية، مع التأكيد على الانخراط في تحديد الحلول الملموسة والعملية التي من شأنها الاستجابة لطموحات كل من فرنسا والجزائر، وهو ما يرفضه عموم الجزائريين، وسبق أن قلصت باريس عدد التأشيرات الممنوحة للجزائريين إلى النصف.
في الجانب الاقتصادي، بعدما كانت فرنسا تعمل على المحافظة على نشاط شركاتها التي تم استهدافها بعد الحراك، فتح لها نظام تبون هذه المرة أبواب البلاد على مصراعيها للاستثمار والتحكم في السوق أكثر تحت عنوان “زيادة الاستثمارات والحفاظ على الوظائف”، خاصة أن تبون يخشى ارتفاع نسبة البطالة في حال التضييق أكثر على الشركات الفرنسية العاملة في بلاده التي توظف عشرات آلاف الشباب.
رجع ماكرون إلى بلاده بعد ثلاثة أيام قضاها إلى جانب الجزائريين، محققًا أبرز الأهداف التي جاء من أجلها، وأهمها تأكيد نفوذ باريس في الجزائر والحصول على ثقة النظام الجزائري مجددًا، ما سيفتح لفرنسا الطريق في منطقة الساحل وشمال إفريقيا.
نسيان الماضي
بالنظر إلى جملة ما تم الاتفاق عليه، نرى أن ماكرون خرج منتصرًا رغم التهديد والوعيد الصادر عن السلطات الجزائرية قبل انطلاق الزيارة التي امتدت لثلاثة أيام، ما مثّل صدمة لعموم الجزائريين يمكن رصدها في التعليقات المصاحبة لنشر “إعلان الجزائر”.
يرى العديد من الجزائريين على غرار دناية خالد أن الإعلان الموقع بين البلدين لا يعكس طموح الجزائريين والجزائريات ويناقض الخطاب الرسمي الجزائري للسنوات المنصرمة، إذ شدّدت قيادة البلاد في الفترة الماضية على ضرورة اعتذار فرنسا وتسوية ملف الذاكرة لتحسين العلاقات بين البلدين لكن ذلك لم يحصل.
بدورها تقول مريم مبروكي: “لما رئيس دولة ينفي وجود دولة قبل فترته الاستعمارية ويضرب بتاريخها وحضارتها عرض الحائط ثم يستقبل بالأحضان من قادتها وتفرش له حبال الود والتعاون على كل الأصعدة دونما اعتذار منه عما بدر منه ومن دولته في تاريخه الاستعماري، فعليه نستنتج أن قادة تلك الدولة لم يرضعوا حليب الرجولة والكرامة سابقًا ووجب عليهم اقتناؤه عاجلًا حتى لا تدوسنا باقي الأمم”.
يأمل نظام تبون من خلال المصالحة مع فرنسا في مواصلة سياسة الخروج من “الانطواء” الذي عُرفت به بلاده في العقود الأخيرة
من جهته قال خالد مريمش: “باختصار في هذه اتفاقيات، فرنسا القائدة والجزائر مقادة وأهم من ذلك أين هو الاعتذار عن الاستعمار والإجرام طوال 132 سنة، اعتذار أمام العالم كله كان سيضع الجزائر في موقف قوة، ضف إلى ذلك التعويضات التي ستنهك خزينة فرنسا، للأسف كنا ننتظر موقفًا وقرارات ترتقي لمصاف رجالات الجزائر الزعماء كهواري بومدين والبشير الإبراهيمي والعربي التبسي”.
يرى هؤلاء وغيرهم من الجزائريين أن رئيس البلاد عبد المجيد تبون نسي نهاية الأسبوع الماضي جرائم الاستعمار الفرنسي التي أقر بها الفرنسيون أنفسهم وحارب البعض منهم إلى جانب الجزائر ضد بلادهم التي تفننت في القتل والتعذيب وانتهاك الحرامات.
رغم مرور قرابة نصف قرن على الاستقلال، لم ينس الجزائريون جرائم الاحتلال الفرنسي المقترفة في بلادهم خلال حقبة قرن ونصف من الاستعمار، ما جعل العلاقات بين البلدين تشهد اضطرابات عديدة، خاصة أن فرنسا تخشى توجه السلطات الجزائرية بضغط من المجتمع المدني إلى تجريم الاستعمار الفرنسي وما ينجر عنه من تبعات قانونية على فرنسا.
براغماتية النظام الجزائري؟
يبدو أن النظام الجزائر الحاليّ لا ينوي التطرق لملف الذاكرة، ذلك أنه يعلم أن النظام الفرنسي لن يعتذر عما بدر من سلطات بلاده الاستعمار في حق الجزائريين من انتهاكات ومجازر وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
أمام ذلك، اختار تبون الدفع بعلاقات بلاده مع فرنسا التي تعد من أبرز المستثمرين في الجزائر، حتى لا يترك الملعب لصالح قوى أخرى تنافسه في التقرب من النظام الفرنسي، فتبون يخشى أن تصعد باريس أكثر ويُقطع حبل الود بينهما لصالح المغرب.
يا فرنسا مبروك عليك الجزاير رجعت ليك
???? ??❤️?? pic.twitter.com/JT0KBe7aSD— محمد ابو آدم (@g9xcsspJ9g55Tw0) August 25, 2022
يأمل نظام تبون من خلال المصالحة مع فرنسا في مواصلة سياسة الخروج من “الانطواء” الذي عُرفت به بلاده في العقود الأخيرة، إذ اختارت الجزائر خلال فترة حكم عبد العزيز بوتفليقة الانكفاء على الذات والانعزال عن العالم الخارجي، لأسباب عديدة.
ويسعى النظام الجزائري الحاليّ منذ وصول تبون لقصر الرئاسة إلى العودة بالبلاد إلى سابق عهدها، إذ كانت لها مكانة إقليمية كبرى، وتعمل الجزائر على أن يكون بيدها الحل والربط في منطقة المغرب العربي وفي منطقة الساحل والصحراء، مستغلة إمكاناتها الكبيرة وحاجة دول المنطقة إلى الدعم.
يأمل نظام تبون من خلال هذه الإستراتيجية في الحد من حركة المغرب خارجيًّا، خاصة أن العلاقة بين البلدين تتسم بالتوتر في أغلب الأحيان والصراع على النفوذ ومن يتزعم المنطقة، ويخشى النظام الجزائري إن بقي على صمته أن يزداد نفوذ الجارة الغربية وتخسر الجزائر مكانتها الإقليمية بصفة نهائية.