أشارت عملية اقتحام أنصار الزعيم الشيعي مقتدى الصدر للقصر الجمهوري في بغداد صباح الإثنين، إلى دخول العملية السياسية في العراق مرحلة الحلول المتطرفة، فالخطوة الصدرية جاءت عبر بيان أصدره الصدر، أوضح فيه اعتزاله العمل السياسي نهائيًا، وهي خطوة تم تفسيرها على أنها جاءت كردة فعل مباشرة على البيان الذي أصدره المرجع الشيعي كاظم الحائري في قم أمس الأول، الذي طالب فيه مقلديه باتباع المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، كما أعلن اعتزاله العمل المرجعي بسبب المرض وتقدم العمر.
وعلى الرغم من أن التاريخ المرجعي الشيعي لم يشهد مثل الخطوة التي أقدم عليها الحائري، خصوصًا أن المرجع لا يفقد هذه الصفة إلا بحالتين: الأولى هي الوفاة والثاني فقدانه أحد أسباب التقليد، فإن خطوة الحائري يمكن اعتبارها نقلة نوعية أقدمت عليها إيران من أجل نزع كل مصادر الشرعية التي يتمتع بها الصدر، وتحديدًا على مستوى الأتباع، إذ ينبغي الإشارة إلى أن والد الصدر السيد محمد صادق الصدر الذي تم اغتياله عام 1999، كان قد أوصى أتباعه بتقليد الحائري بعد وفاته.
ردة فعل الصدر كانت واضحة على خطوة الحائري، فقد قال في تغريدة له على حسابه بموقع تويتر: “يظن الكثيرون بمن فيهم السيد الحائري أن هذه القيادة جاءت بفضلهم أو بأمرهم، كلا، إن ذلك بفضل ربي أولًا ومن فضل والدي محمد صادق الصدر الذي لم يتخلَّ عن العراق وشعبه”، وهي دلالة واضحة من الصدر للحائري الذي يقيم في إيران منذ مدة طويلة، بل إنه أصبح الممثل الشرعي للمرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي داخل الفصائل المسلحة الموالية لإيران، وتعمل وفق الفتاوى التي تصدر منه، وتحديدًا خلال فترة الحرب على تنظيم “داعش” أو في أثناء التظاهرات الاحتجاجية التي شهدتها بغداد والمحافظات في أكتوبر/تشرين الأول 2019.
هناك تمايز واضح بين الصدر وقيادات الفصائل الولائية فيما يتعلق بالنظرة إلى إيران
هذا النزاع المرجعي بين الصدر والحائري كشف عمق الأزمة الحاليّة بين النجف وقم، وهو صراع تاريخي بين أطروحتين مهمتين، أولًا ما هي المرجعية الشرعية في العالم الشيعي، وثانيًا بين ولاية الفقيه والولاية الحسبية، وهي ثنائية حاول الصدر مرارًا التأكيد عليها، لأنها توفر له مساحة واسعة للمناورة أمام إيران، وهو ما ترفضه إيران بالمقابل، إذ قدم الصدر تفسيرًا واضحًا لها في تغريدته الأخيرة عندما قال: “النجف هي المقر الأكبر للمرجعية كما هو الحال دومًا”.
خلاف مرجعي صدري فصائلي
مما لا يخفى على أحد أن أسباب الخلاف بين الصدر والفصائل الموالية لإيران قديمة وعديدة أيضًا، فالصدر ينظر إلى هذه الفصائل على أنها كانت جزءًا من قواعد التيار الصدري، انشقت عن “جيش المهدي” الذي كان يتزعمه الصدر سابقًا، ورغم ادعاء أغلب هذه الفصائل ارتباطها بوالده السيد محمد صادق الصدر، فإن الصدر بقي رافضًا أن تتقاسم الفصائل معه مصدر هذه الشرعية.
كما أن أحد أسباب الخلاف يتعلق بالقوة الاقتصادية والسياسية التي بنتها الفصائل الموالية لإيران في مرحلة ما بعد داعش، وأصبحت موازية من حيث القوة والمكانة والتأثير لسرايا السلام التابعة للصدر، والنقطة الثالثة والمهمة تتعلق بمهمة الصدر الجديدة، وهي تشكيل عملية سياسية جديدة تعكس رؤيته للعراق الجديد بملامح صدرية واضحة.
يضاف إلى ذلك، أن هناك تمايزًا واضحًا بين الصدر وقيادات الفصائل الولائية فيما يتعلق بالنظرة إلى إيران، فالصدر ورغم إدراكه بأن إيران تشكل عمقًا إستراتيجيًا للشيعة في العراق، ولا يجوز الوصول معها إلى نقطة قطيعة نهائية، فإنه يعتقد بضرورة أن تكون هناك هوية “شيعية عراقية” متمايزة عن “الهوية الشيعية الإيرانية”، ما جعله يحتفظ بخطوط واضحة عن إيران سياسيًا وفقهيًا.
أما قيادات الفصائل الموالية لإيران فإنها تعتقد بالولاء للمرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، وأن العراق جزء من “أم القرى” في طهران، حيث تقام ولاية الفقيه العادل نيابة عن الإمام الغائب، ولا يوجد تمايز بين هوية شيعية عراقية أو إيرانية، طالما أن الاعتقاد الفقهي واحد، وهو ما أكده الحائري في بيانه الأخير.
إذ تتمثل القناعات السياسية والأمنية التي تتحكم برؤية كل من الصدر وقيادات الفصائل الموالية لإيران، في أن العملية السياسية العراقية لم تعد تحتمل بقاء كلا الطرفين، فكلاهما يحمل ذات القناعات السلبية عن الآخر، الصدر لا يريد أن يتبنى عملية سياسية في ظل وجود الفصائل، وقيادات الفصائل الموالية لإيران لا تريد أن تلقي سلاحها، لأن عندها ستكون لقمة سائغة للصدر، وبين هاتين الرؤيتين ما زالت أغلب التوقعات تشير إلى أن ماراثون تشكيل الحكومة الجديدة سيطول في ظل الانسداد السياسي الحاليّ.
أين تقف إيران؟
تبدو إيران كأنها بدأت تجر الصدر لمعادلة صفرية، عبر إجباره على التصعيد غير المنضبط، وإذا كانت خطوة الصدر المتمثلة بتعليق عمل اللجنة المشرفة على الاحتجاجات دون أن يكون هناك توجيه عام لها، حتى إن كان بصورة غير مباشرة، فإن الزخم الجماهيري الذي يمتلكه الصدر قد ينعكس عليه سلبًا، فعلى الرغم من اكتساب الحراك الصدري خبرة كبيرة في العمل التعبوي، تبقى هناك ثغرات يمكن أن تعمل عليها إيران، وتحديدًا في مدى قدرتها على تحويل العمل الثوري إلى عمل فوضوي، قد يظهر الحراك الصدري بالنهاية بلا أهداف واضحة، إلا تعطيل مسار العملية السياسية.
الفاعل الإيراني هو الآخر أصبح لا يملك مزيدًا من الحلول
فخطوة الحائري لا تخلو من كونها محاولة إيرانية لخلق حالة صدمة داخل جماهير التيار الصدري، أو بمعنى أدق تفكيك التيار من الداخل، وعلى الرغم من أن التيار الصدري أظهر اليوم ردة فعل موحدة، تمثلت بالتمسك بالصدر ومرجعية آل الصدر، فإن هذا لا يمنع من القول بأن إيران لن تتخلى عن فكرة استفزاز الصدر أكثر، بل إن الخطوة الأخيرة قد تكون رسالة واضحة للصدر، بأن التمسك بخياراته السياسية، قد يجعله أمام مزيد من المفاجآت الإيرانية في المرحلة المقبلة.
كما يمكن القول بأن الفاعل الإيراني هو الآخر أصبح لا يملك مزيدًا من الحلول، فرغم الدبلوماسية الهادئة التي اعتمدها حيال الصدر خلال الفترة الماضية، فإنه أصبح على عجلة من أمره لإنهاء الانسداد السياسي الحاليّ في العراق، قبل الوصول لأي تفاهمات إقليمية ودولية في الأيام المقبلة، خصوصًا على مسار المحادثات النووية الجارية في فيينا، فكل الخيارات أصبحت متاحة أمام إيران لإيقاف الصدر، بل والأكثر من ذلك قد لا ترفض إيران جر الصدر لمواجهة محدودة، إذا ما كانت النتيجة تتمثل بتدمير كل أوراق الضغط التي يتمتع بها اليوم.