غرد الرئيس الروسي السابق ديمتري ميدفيديف على حسابه الشخصي على تويتر في الأول من أغسطس/آب 2022 يتهم السلطات الكازاخستانية بارتكاب إبادة جماعية ضد الروس، وينادي بوجوب إعادة أراضي كازاخستان (وكذلك أراضي جورجيا)، مؤكدًا أن بلاده “تستعد لاتخاذ الخطوة التالية لإعادة حدود وطننا”، مشيرًا إلى أن شمال كازاخستان سيكون المحطة التالية للكريملين.
التغريدة أحدثت جدلًا كبيرًا ورغم أنها أزيلت بعد 9 دقائق فقط من نشرها، فإن البعض استطاع تصويرها وإعادة بثها على منصات التواصل الاجتماعي، وفي اليوم التالي خرج مساعد ميدفيديف، أوليج أوسيبوف، ليقول إن حساب الرئيس السابق تم اختراقه وأن التغريدة لم تكن له.
وبعيدًا عن حقيقة اختراق حساب ميدفيديف ومصداقية تغريدته، فإنها تتماشى مع الخطاب الإعلامي والسياسي الروسي إزاء نور سلطان في الآونة الأخيرة، الذي خيمت عليه خطوط الكراهية والاستهداف، لا سيما بعد الموقف الرسمي لكازاخستان إزاء الحرب الأوكرانية، وهو ما تلقفه الشارع الكازاخستاني والنخبة الحاكمة هناك بالتحفيز التام وإعلان الاستعداد لكل السيناريوهات.
ثمة مؤشرات شهدتها الساحة خلال الآونة الأخيرة تشير إلى تغريد كازاخستان خارج السرب الروسي بشكل واضح، وأن هناك نية حقيقية نحو التخلي عن ستار فلاديمير بوتين الحديدي الذي قبعت خلفه نور سلطان لسنوات عدة، في إطار التموضعات الجديدة التي تواجهها خريطة آسيا الوسطى مؤخرًا التي تحولت إلى ساحة للتنافس بين موسكو وبكين وآخرين، وهو ما قد يدفع روسيا إلى الدفاع عن عمقها الأمني وجذورها التاريخية في تلك البقعة الإستراتيجية من القارة.. فهل تواجه كازاخستان مصير أوكرانيا مجددًا؟
Great signs in Kazakhstan with Pres. Tokayev:
1. ?? decided to uphold Western sanctions against??.
2. In front of Putin??, Tokayev said?? won’t recognize DNR/LNR.
3. Yesterday spoke Kazakh, not Russian, in meeting with Azeri ?? President.
4. Now flags supporting?? in Karaganda?? pic.twitter.com/YYySEJu8lI
— Jason Jay Smart (@officejjsmart) August 27, 2022
خارج السرب
كشفت كواليس مشاركة رئيس كازاخستان، قاسم جومارات توكاييف، في منتدى سانت بطرسبرغ الاقتصادي الذي عقد في موسكو يونيو/حزيران الماضي، عن حجم الفجوة الهائلة بين موسكو ونور سلطان التي تزايدت بشكل كبير خلال الشهرين الماضيين تحديدًا.
توكاييف أعلن صراحة أن بلاده لن تعترف بالجمهوريتين المنفصلتين عن أوكرانيا التي اعترفت بهما روسيا: لوغانسك ودونيتسك، لافتًا أن هذا الموقف ينسحب على تايوان وكوسوفو وأوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، مبررًا ذلك بقراءته للمبدأين الدوليين، وحدة أراضي الدولة وحق الشعوب في تقرير المصير.
هذا الموقف كانت وزارة الخارجية الكازاخية قد أعلنته في فبراير/شباط الماضي حين أعلنت حيادها في النزاع بأوكرانيا، مؤكدة عدم نيتها الاعتراف بالجمهوريتين الانفصاليتين، رغم الضغوط التي مارستها موسكو لإثنائها عن هذا الموقف بحكم تشابكات المصالح المعقدة بين البلدين التي سيتم التطرق إليها لاحقًا.
وبالتوازي مع ذلك، أعلنت كازاخستان أنها لن تنتهك العقوبات الغربية ضد روسيا، كما جاء على لسان توكاييف “العقوبات هي عقوبات، علاوة على ذلك، نتلقى إخطارات بالعقوبات الثانوية من الغرب”، فيما أعلن النائب الأول لرئيس الإدارة الرئاسية في كازاخستان، تيمور سليمانوف، أن بلاده “لن تساعد روسيا في الالتفاف على العقوبات”.
جاءت الحرب الروسية الأوكرانية لتعيد حسابات نور سلطان، إذ بدأت مخاوف الكازاخستانيين من ملاقاة مصير جيرانهم الأوكرانيين، وهو ما يتطلب تبني سياسة حمائية جديدة، تُخرج الدولة من ربقة العباءة السوفيتية هربًا من أي أطماع من الممكن أن تقود البلاد إلى نفس المصير
ووصل التحدي الكازاخي إلى إرسال نور سلطان مساعدات إنسانية إلى أوكرانيا وحافظت على الاتصال بالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، كما تم حظر الدعاية العسكرية الروسية في الأماكن العامة في البلاد، وتم إلغاء موكب يوم النصر الروسي السنوي في 9 مايو/آيار، وفوق ذلك منحت السلطات هناك الموافقة الرسمية لتظاهرة مناهضة للحرب في كبرى المدن.
التوتر الحاليّ ليس وليد اليوم، فتباعد المسافات بين البلدين يعود إلى قرابة 8 سنوات حين بدأ الرئيس الروسي يلوح بعدم أحقية الكازاخستانيين في أراضيهم، وأنها منحة من الاتحاد السوفيتي، ولعل تصريحاته التي أدلى بها في معرض حديث جمعه مع شباب بلاده في 2014، حين قال إن الرئيس الكازاخستاني (السابق) نورسلطان نزاربايف “زعيم كفء للغاية، وفعل شيئًا فريدًا، لقد أنشأ دولة على أرض لم تكن فيها دولة موجودة على الإطلاق”، وأضاف “لم يكن لدى الكازاخ دولة”، تعكس هذا التوجه وتوثقه بشكل واضح وإن لم يتم الإعلان عن ذلك رسميًا.
هذا التصريح استفز نزاربايف بصورة كبيرة فيما شن الإعلام الكازاخي هجومًا عنيفًا على موسكو، ما دفع الكرملين إلى تقديم اعتذار غير مباشر قال فيه إنه جرى تحريف تصريحات بوتين، ورغم الاعتذار فإن الاحتقان كان اللغة السائدة بين البلدين، وهو ما تعزز أكثر عقب اتهام الشارع الروسي للسلطات الكازاخستانية بإهانة الناطقين باللغة الروسية وتعرض بعض أبناء القومية الروسية في البلاد إلى الإهانة، مستنكرين ما وصفوه “صمت الأوساط الرسمية” في كازاخستان إزاء تلك الظاهرة.
الموقف الكازاخي الراهن غير المتوقع من الإعلام الروسي وبعض المحسوبين على الكرملين من نواب ونخبويين، دفع إلى تبني خطاب موحد يستهدف نور سلطان بشكل مباشر وعلني، وهو تحول يعكس التغيير الكبير الذي انتاب دفة العلاقات بين البلدين رغم الأجواء الإيجابية الجيدة التي كانت تخيم عليها قبيل انطلاق الحرب الأوكرانية فبراير/شباط الماضي.
منعطف حاد
مثلت الحرب الروسية الأوكرانية مرحلة مفصلية في مسيرة العلاقة بين روسيا وكازاخستان، فقبل شهر واحد فقط من اندلاع تلك الحرب طلبت السلطات الكازاخية المساعدة الأمنية من منظمة معاهدة الأمن الجماعي التي تقودها روسيا، للتصدي للاحتجاجات الخطيرة التي شهدتها البلاد ووصلت إلى ألما آتا، أكبر مدن كازاخستان، وبالفعل أرسلت المساعدات التي أجهضت تلك المناوشات وأعادت الاستقرار للشارع الكازاخي مرة أخرى.
لكن جاءت الحرب لتعيد حسابات نور سلطان، إذ بدأت مخاوف الكازاخستانيين من ملاقاة مصير جيرانهم الأوكرانيين، وهو ما يتطلب تبني سياسة حمائية جديدة، تُخرج الدولة من ربقة العباءة السوفيتية هربًا من أي أطماع من الممكن أن تقود البلاد إلى نفس المصير، وهو ما كشفته الصحفية الأمريكية شيلبي هوليداي، الصحفية في جريدة “وول ستريت جورنال” وشبكة “بلومبيرغ” حين قالت:
“لقد غيرت الحرب في أوكرانيا أيضًا طريقة تفكير كازاخستان بشأن أمنها. ففي يناير/كانون الثاني الماضي، عندما اندلعت الاحتجاجات العنيفة المناهضة للحكومة في كازاخستان، دعا توكاييف القوات الروسية لاستعادة النظام. ولكن الآن بعد أن غزت روسيا دولة سوفيتية سابقة وجارتها، يعيد المسؤولون الكازاخستانيون التفكير في إستراتيجيتهم. ولم تكتف كازخستان بزيادة إنفاقها الدفاعي، بل وافقت على تعزيز التعاون العسكري مع الصين، وفقًا لوزارة الدفاع الصينية، كما أبرمت صفقة مع تركيا، العضو في الناتو، لإنتاج طائرات دون طيار هجومية بشكل مشترك. واستقبلت كازاخستان أيضًا زوارًا من الولايات المتحدة، بما في ذلك قائد عسكري أمريكي كبير”.
تصريحات هوليداي تناغمت بشكل كبير مع ما نقله صديقها في نفس الصحيفة، إيفان غيرشكوفيتش، المتخصص في الشأن السوفيتي، عن مسؤول كازاخستاني رفض ذكر اسمه، بأن الدولة الكازاخستانية زادت من حجم إنفاقها الدفاعي الأشهر الأخيرة، بجانب تعزيز علاقتها وتعاونها العسكري مع دول الناتو، لافتًا في تقرير له إلى أن كازاخستان ستزيد ميزانيتها الدفاعية هذا العام بـ918 مليون دولار، ما نسبته 1.5 ضعف ميزانية العام الماضي، وأن الجزء الأكبر من تلك الميزانية سيخصص لتعزيز الاحتياطات العسكرية، ترقبًا لأي مستجدات تطفو على السطح في ظل توتر العلاقات مع الجار الروسي وطموحاته الجيوسياسية خارج أوكرانيا.
خطاب روسي عنصري
لم تكن تصريحات بوتين في 2014 المحطة الوحيدة في ارتفاع منسوب التوتر في مؤشر العلاقات الروسية الكازاخستانية، إذ شهدت الساحة خلال السنوات الأخيرة موجات متتالية من التصريحات العدائية التي حملت خطابًا عنصريًا يتعامل مع كازاخستان كأنها ليست دولة حسبما جاء على لسان الرئيس الروسي نفسه.
إضافة إلى ذلك فإن تغريدة ميدفيديف رغم إزالتها لاحقًا ونفي صحتها، تعكس توقعات الصقور في المجتمع الروسي إزاء الجار الكازاخي، وتتماشى تمامًا مع الحوار السياسي الحاليّ داخل روسيا، حيث اعتياد سماع انتقادات مماثلة وهجوم قاسٍ لكازاخستان من المسؤولين الروس، ناهيك بالتطرف الذي وصل إليه غير المسؤولين، وهو ما لم يكن في السابق.
في حديث تليفزيوني له في ديسمبر/كانون الأول 2020 خرج النائب الروسي فياتشيسلاف نيكونوف، بتصريح صادم حين قال: “كازاخستان ببساطة لم تكن موجودة، وشمال كازاخستان لم تكن مأهولة بالسكان على الإطلاق. وكازاخستان اليوم هي هدية عظيمة من روسيا والاتحاد السوفيتي”.
التصريح رغم قسوته، قوبل بتفسير أكثر ضراوة من عضو المجلس السياسي المركزي لحزب روسيا الموحدة الحاكم، النائب إيفجيني فيودوروف، الذي حاول تفسير المقصود بـ”هدية عظيمة من روسيا”، حيث وصف المجموعة العرقية الاسمية لكازاخستان، الكازاخستانيون، باسم “نيتشبرودي” وتعني “المتشردون والمتسولون” أو “القمامة” أو “المشردون الذين يتوسلون الصدقات” ممن ليسهم الحق في أرضهم، وتابع نصًا “انزع الدستور الكازاخستاني من أراضي كازاخستان والقوانين الكازاخستانية من أراضي كازاخستان! ما أتحدث عنه الآن هو مطالبة إقليمية مباشرة، مطالبة مباشرة ومتميزة بالإقليم”.
ولو تم الربط بين تصريحات يودوروف، ومن قبله نيكونوف في 2020، وتصريحات بوتين في 2014، يلاحظ أن تغريدة ميدفيديف 2022 – حتى إن تم حذفها بعد دقائق – لم تكن خارج السرب، وأنها استمرارًا لتلك المنهجية العدائية الجديدة في الخطاب السياسي والإعلامي الروسي إزاء كازاخستان.
أوراق ضغط
يرى الباحث تيمور عمروف، الزميل في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، أن روسيا لديها من الأدوات ما يمكنها استخدامها كأوراق ضغط ضد كازاخستان، بما يذكرها بالخسائر التي يمكن أن تتكبدها مقابل تدهور العلاقات مع موسكو، وعلى رأسها سلاح النفط الذي يمثل الضلع الأكبر في الاقتصاد الكازاخستاني.
ويشير عمروف في مقال له إلى أن 80% من الصادرات النفطية لكازاخستان تمر عبر الأراضي الروسية من خلال اتحاد خط أنابيب بحر قزوين (CPC) الذي تعد روسيا أكبر مساهم فيه (31%)، لافتًا أن قطاع النفط والغاز بوجه عام يمثل أكثر من 40% من عائدات الدولة الكازاخستانية، وعليه يمكن لموسكو الضغط بقوة من خلال قطع هذا المصدر الرئيسي للدخل عن كازاخستان.
النفط ليس أداة الضغط الوحيدة، فهناك أيضًا ملف الأمن الغذائي الذي تشكل روسيا أحد أعمدته الرئيسية، إذ تعتمد كازاخستان اعتمادًا كبيرًا على الواردات الغذائية من الروس لا سيما زيت الطهي والسكر والحليب، كما تعد الدولة الروسية المصدر الرئيسي للبتروكيماويات والحديد والأسمدة لكازاخستان، فضلًا عن قطع غيار السيارات المستوردة، وبشكل تمثل روسيا خمس إجمالي التجارة الخارجية لجارتها الآسيوية، بينما يمر أكثر من نصف تدفقات الشحن في كازاخستان عبر الأراضي الروسية.
وبحسب مركز معلومات وتحليلات النفط والغاز “ريفينيتيف إيكون”، فإن كازاخستان تصدر عبر الموانئ الروسية، أوست لوجا ونوفوروسيسك، نحو 20% من إجمالي حجم صادراتها النفطية للأسواق الخارجية، التي بلغت العام الماضي فقط 13.3 مليون طن، ما يعني أنه في حال غلق هذا المنفذ فإن الخسائر ستكون فادحة على الجانب الكازاخستاني.
هناك ضغوط أخرى لا تقل أهمية، تتعلق بالجانب العسكري والأمني، وتهديد النظام الحاكم في كازاخستان، ولعل الدور الذي قامت به موسكو لدعم نظام توكاييف يناير/كانون الثاني الماضي، ووأد الاحتجاجات الشعبية التي كان يمكنها الإطاحة بهذا النظام، دليل بارز على ورقة الضغط الأمنية والسياسية التي يمكن استخدامها إذا ما تطلب الأمر.
مأزق السيناريو الأوكراني
تمثل كازاخستان القوى الكبرى اقتصاديًا في آسيا الوسطى، إذ تمتلك ثروات هائلة من المعادن والنفط والغاز، تشكل في مجملها 60% من إجمالي ناتج المنطقة وفق التقديرات الرسمية، إذ يبلغ احتياطها من النفط الخام 30 مليار برميل، كما تعد أكبر دولة غير ساحلية في العالم، إذ تفوق مساحتها الإجمالية 2.7 مليون كيلومتر مربع، غير أنها لا تملك موانئ خاصة بها ما دفعها للاعتماد على روسيا لتصدير شحناتها وصادراتها.
وتحتل تلك الدولة الشريط الأطول حدوديًا مع روسيا التي تعتبرها عمقها الأمني من الناحية الشمالية، لذا فهي تمثل أهمية كبرى على رادار موسكو في تقييماته الإقليمية والدولية، الأمنية والاقتصادية، ولعل هذا هو السبب الرئيسي وراء حالة الجدل التي أثارها التوتر الأخير في العلاقات في ظل حاجة كلا البلدين لبعضهما البعض.
الأشهر الأخيرة تحديدًا تصاعدت نبرة الخطاب الشعبوي الذي يطالب بضم كازاخستان أو على الأقل الجزء الشمالي منها للسيادة الروسية، أسوة بما حدث مع شبه جزيرة القرم وشرق أوكرانيا وأوسيتيا الجنوبية في جورجيا، خاصة أن هناك أقليات روسية تصل في بعضها إلى 22% من التركيبة الديموغرافية الكازاخية، ما يساعد على سرعة الاندماج من جانب وتعزيز هذا التوجه إن تُرجم إلى خطوات ملموسة من جانب آخر.
وجد النظام في كازاخستان في تلك الأجواء الملبدة بغيوم الاضطرابات والفوضى والمتخمة بذرات حرب الاستقطابات بين القوى العظمة، فرصته المنتظرة للخروج نسبيًا عن العباءة الروسية، والبحث عن تموضع جديد عبر التوازن في العلاقات مع روسيا من جانب والغرب من جانب آخر، وهو ما يتفهمه الروس جيدًا
موسكو الآن بين مطرقة التورط في تكرار سيناريو أوكرانيا مرة أخرى والتوغل داخل الأراضي الكازاخستانية مدفوعة بشعارات حماية الأمن القومي لا سيما بعد التقارب الواضح بين نور سلطان والغرب، وسندان إثارة مخاوف الأنظمة الحليفة الأخرى التي ربما تجد في هذا التوجه الروسي الجديد تهديدًا مباشرًا لها بما يثير مخاوفها بشأن العلاقات مع موسكو مستقبلًا، الأمر الذي يزيد من العزلة الروسية الدولية ويسيء إلى صورتها الخارجية كدولة تتلذذ بالاعتداء على سيادة الدول الأخرى، ما يمكن أن يوقعها تحت طائلة المزيد من العقوبات الغربية.
يعلم بوتين أن أوراق الضغط التي يملكها من شأنها إضعاف موقف النظام الحاليّ لكازاخستان، لكنها في الوقت ذاته ربما تزيد من شعبية الرئيس والحكومة معًا، حيث سيتم تصدير توكاييف بوصفه الرئيس المستقل الذي رفض الضغوط الروسية وأنه عكس خطى سلفه نزار باييف، ما يعزز من حضوره الداخلي وربما يدفعه إلى توثيق عرى التعاون والتحالف مع أوروبا والولايات المتحدة.
يتضح مما سبق أن كازاخستان ماضية قدمًا في طريق مغاير نسبيًا لما عليه بيلاروسيا التي تتشابك علاقاتها مع روسيا بشكل قوي، ربما يكون الأكثر تناغمًا بين دول المنطقة، لكنها في الوقت ذاته مقيدة بضوابط وحسابات خاصة تجعل من علاقتها بموسكو مسألة غاية في الأهمية لا يمكن الانقلاب عليها بين ليلة وضحاها، وهو ما تؤكده تصريحات النخب الحاكمة بأن التوترات السياسية وتباين وجهات النظر في بعض الملفات لن يعوق التعاون بين البلدين.
ربما وجد النظام في كازاخستان في تلك الأجواء الملبدة بغيوم الاضطرابات والفوضى والمتخمة بذرات حرب الاستقطابات بين القوى العظمة، فرصته المنتظرة للخروج نسبيًا عن العباءة الروسية، والبحث عن تموضع جديد عبر التوازن في العلاقات مع روسيا من جانب والغرب من جانب آخر، وهو ما يتفهمه الروس جيدًا، ويتم التعامل معه نسبيًا عبر التزام الهدوء وتجنب التصعيد بيما يفقد موسكو واحدًا من أبرز حلفائها في المنطقة، لكن ومع ذلك فالسيناريوهات جميعها على طاولة الاحتمالات، بما فيها السيناريو الأوكراني، يتوقف ذلك على المساحة التي يقف عليها توكاييف وقدرته على المناورة وحجم المرونة لدى الجانب الروسي في استيعاب تلك المتغيرات.