ترجمة وتحرير: نون بوست
تبطئ الصين الإنتاج وهي المعروفة بكونها “مصنع العالم” بعد أصبحت من ضحايا موجة الجفاف التي أجبرت أجزاء كثيرة من البلاد على الإغلاق. لا تأبه موجات الحرارة العالمية للسلطة الاستبدادية، حيث تسبب الجفاف جنوب الصين في تبخّر مياه الأنهار بينما تكافح الدولة التي تعتمد على الطاقة الكهرومائية من أجل توليد الكهرباء.
إن التحديات التي تواجهها الصين تسلط الضوء على قضية ملحة إلى حد كبير: كيف يمكن للبلدان حماية هندستها المعمارية وبنيتها التحتية من تغيّر المناخ؟ في عصر الصدمات المفاجئة والكوارث المناخية، لا تستطيع الاقتصادات الصمود باتباع القواعد القديمة – ومن شأن التكيف من أجل المرونة أن يساعدها على تقليل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون أيضًا.
دفعت موجة الجفاف التي ضربت الجزر البريطانية هذا الشهر شركات توزيع المياه إلى فرض حظر على استعمال خراطيم المياه في أجزاء كبيرة من البلاد. كانت هذه الأخبار سيئة بالنسبة لعمال الحدائق بينما كانت جيدة إلى حد ما بالنسبة للمزارعين الذين كانوا يواجهون خسائر فادحة في المحصول. وكما أشرت في مقال سابق لمجلة “فورين بوليسي“، تسبب الجفاف القاري في انخفاض منسوب مياه نهر الراين إلى درجة تجعل مرور سفن الشحن عبره صعبًا أو مستحيلًا مما سيضر بالصناعة الألمانية.
لكن ما سبق من حالات الطوارئ نتيجة الجفاف لا يضاهي الضرر الذي يلحقه الجفاف بالصين حاليًا. فقد انخفضت سعة خزانات الطاقة الكهرومائية بمقدار النصف بينما الطلب على الكهرباء آخذ في الارتفاع في ظل إقبال الناس على استخدام المكيفات الهوائية. ولا يتوقف الأمر عند راحة المواطن أو حتى سبل عيش المزارعين. إن موجة الحر شديدة الخطورة لدرجة أنها تسببت في جفاف أجزاء من نهر اليانغتسي وتدمير كل من صناعة التصنيع والشحن. وقد لجأت السلطات إلى إجراءات يائسة بضخ حوالي مليار متر مكعب من المياه في نهر اليانغتسي واستخدام تقنيات الاستمطار لري المحاصيل. وعبر الحدود في باكستان، تسببت الفيضانات العنيفة في مقتل أكثر من 1000 شخص هذا الشهر وتشريد مئات الآلاف من الأشخاص، بينما تسببت في دمار لا يوصف في المجتمعات المحلية.
إن التطرف المناخي ليس ظاهرة جديدة. وتمتد أساطير الفيضانات العظيمة عبر أوراسيا بدءا من سفينة نوح وصولا إلى ترويض يو العظيم للمياه العنيفة، بينما شكلت موجات الجفاف والزلازل مجرى الأنهار والتاريخ. ولكن المهندسين المعماريين والمصممين كانوا قادرين على الأقل على اتخاذ معايير تاريخية. فقد توقعت أمستردام حدوث فيضانات، وتوقعت اليابان حدوث الزلازل، وتوقعت أستراليا حدوث موجات الجفاف.
يتم بناء ما يسمى بالمنازل السلبية في جميع أنحاء العالم الآن، وهي منازل عادية يميزها فقط كفاءتها القصوى في استخدام الطاقة. ولا تتطلب تدفئة أو تبريدًا تقريبًا
وفي الوقت الراهن، مع اكتظاظ البلدان بالسكان أكثر من أي وقت مضى وتغير المناخ الذي يؤدي إلى تفاقم الظواهر المناخية المتطرفة، بات يتعين على العالم تعديل هندسته المعمارية وبنيته التحتية لمواجهة الظواهر غير المتوقعة. وجعل المباني والمدن وحتى الزراعة مقاومة للطقس القاسي أمر لا غنى عنه لزيادة فرص التعايش مع تغير المناخ – مع تقليل الانبعاثات وتوقع مستقبل أقل كارثية للبشرية.
في سنة 2014، عندما كنت زميلة زائرة في كلية غرين تمبلتون بجامعة أكسفورد، أجريت محادثة رائعة مع زميل زائر آخر كان يجلس بجواري في قاعة الطعام. كان هذا الأكاديمي مهندسًا يعمل على تطوير طرق جديدة لبناء المنازل على ركائز متينة والطريقة التي يجب أن تبنى بها المنازل في العديد من المدن لأن تغير المناخ يؤدي إلى ارتفاع منسوب مياه البحر وبالتالي حدوث المزيد من الفيضانات.
بنيت المنازل على ركائز متينة لأجيال من قبل الفلبينيين وغيرهم من مواطني جنوب شرق آسيا المقيمين في الأراضي المنخفضة، ولكن في الوقت الحاضر تحتاج الدول الأوروبية بدورها إلى هذه الركائز، وكذلك الحال بالنسبة للساحل الشرقي للولايات المتحدة وربما الساحل الغربي.
في ميامي، يدفع السكان الأثرياء بالفعل للمهندسين المعماريين لبناء منازلهم على علو طابق واحد فوق سطح الأرض. وقد أنشأت بلدة كريستيانستاد السويدية المنخفضة بالمثل متحفها الطبيعي على ركائز متينة، ولكنه كان مكلفًا. وقد كان الأكاديمي الهندسي يعمل على نماذج من شأنها أن تسمح بإنشاء المباني على ركائز على نطاق واسع.
يتمثل الخيار الآخر في العيش بالقرب من المياه نفسها وتكييف المباني معها: قضت كل من أمستردام وروتردام وهولندا حوالي عقدا من الزمان في بناء أحياء عائمة. وتبني كوبنهاغن بدورها ما يسمى بـ “شوارع العاصفة” – وهي شوارع محدبة ستسمح لمياه الفيضانات السريعة بالتدفق نحو الميناء.
ينتظر الزراعة العمودية مستقبل تجاري مشرق مع تأثير التغيرات المناخية على الزراعة التقليدية
تعمل العاصمة الدنماركية أيضًا على إنشاء ما يسميه مخططو المدن بالحدائق الجيبية والحدائق الغارقة التي يمكن أن تكون بمثابة خزانات لمياه الفيضانات، حتى أنها تعمل على حي متكيف مع المناخ. هذه الهندسة المعمارية المبتكرة مريحة للعين؛ ولك أن تتخيل حدائق خالية من الخرسانة تغطيها الأشجار والمرتفعات الخضراء التي يصادف أنها مناسبة للعمل كخزان للمياه. المستقبل مشرق، كما يقولون في كوبنهاغن.
في المقابل، لن يتمكن الباكستانيون الذين يعيشون على أقل من دولار واحد في اليوم من امتلاك منازل قائمة على ركائز متينة أو أحياء عائمة على الطراز الهولندي. ولن تكون الأحياء المتكيفة مع المناخ مفيدة كثيرا لمساعدة القرن الأفريقي الذي يعاني الجفاف بشكل دائم، ومن الواضح أنها لن تفعل شيئًا لمنع انخفاض منسوب المياه على طول نهر اليانغتسي أو نهر الراين. بعبارة أخرى، لا تتعلق الهندسة المعمارية بالتعايش مع المشكلة فحسب بل المساعدة في حلّها أيضًا.
هذا ما يحدث بالفعل، وإن لم يكن بالسرعة الكافية. يتم بناء ما يسمى بالمنازل السلبية في جميع أنحاء العالم الآن، وهي منازل عادية تمامًا لعائلة واحدة أو لعدة عائلات يميزها فقط كفاءتها القصوى في استخدام الطاقة. ومع أن تكلفة بنائها أكثر بقليل من المنازل والمكاتب العادية، إلا أنها لا تتطلب تدفئة أو تبريدًا تقريبًا. لذلك لك أن تتخيل ما يمكن أن تحققه هذه المنازل في دول الخليج العربي أو في الولايات المتحدة، حيث يؤدي تكييف الهواء إلى إطلاق تيار كبير وثابت من ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي (117 مليون طن متري في الولايات المتحدة وحدها).
تسعى الشركات والأفراد المتحمسون في أماكن أخرى إلى الزراعة المائية والزراعة النباتية القائمة على الماء، التي يمكن القيام بها عموديًا ولا تتطلب أي تربة. ومع أن إنشاءها أكثر تكلفة من المزارع التقليدية، إلا أنها تتطلب مساحة أقل بكثير. يجذب هذا القطاع المزدهر دعما كبيرا، فما بين 2019 و2020 تضاعف الاستثمار فيه في الولايات المتحدة إلى ما يقارب مليار دولار. وقد استثمرت خبيرة الطبخ الأمريكية مارثا ستيوارت في الشركة الناشئة “آب هارفست” التي تبني 11 مزرعة مائية في أبالاتشيا. كما أن المغني جاستن تيمبرليك والممثلة ناتالي بورتمان من بين المستثمرين في مزرعة “بوري” التي تعد أكبر مزرعة مائية في الولايات المتحدة.
الطقس القاسي اليوم الذي يدمر الكوكب يجعل من تعديل هندسته المعمارية وبنيته التحتية ضرورة أخلاقية ولوجستية.
ينتظر الزراعة العمودية مستقبل تجاري مشرق مع تأثير التغيرات المناخية على الزراعة التقليدية. حيال هذا الشأن، قال ديف تشابمان، مزارع النباتات العضوية في ولاية فيرمونت، لصحيفة نيويورك تايمز العام الماضي: “نمو إنتاج الزراعة المائية لا يعزى إلى كونها توفر طعامًا صحيًا، بل بسبب المال”، مضيفا “إن أي شخص يقدم هذا كمصدر طعام من أجل الناس أو كحل صديق للبيئة ليس سوى كاذب”. لكن توسع الزراعة المائية سيسمح أيضًا للبلدان بإعادة تشجير المزيد من الأراضي وبالتالي امتصاص المزيد من انبعاثات الكربون.
في أماكن أخرى بات عدد متزايد من الشركات والمؤسسات يعتمد على زراعة أسطح المباني أو ما يسمى بالأسطح الخضراء؛ حيث تمنح الأسطح العاملين في المكاتب والزائرين فرصة نادرة لتجربة الطبيعة، كما أنها تمتص الحرارة ومياه العواصف، وتساعد المباني على تقليل استهلاك الطاقة، وتعزيز التنوع البيولوجي. وحتى حكومة الولايات المتحدة، التي بالكاد يُعرف عنها الابتكار البيئي، لديها الآن أسطح خضراء في بعض المباني بما في ذلك مكتب بريد جون دبليو ماكورماك في بوسطن، ومبنى دار القضاء، حيث توضح مصلحة الحدائق الوطنية أن سطحه “يمكن الوصول إليه من قبل مستخدمي المبنى، كما يمكن رؤيته من العديد من طوابق المبنى بسبب موقعه، مما يوفر منظرًا رائعًا لشاغلي المكاتب للنظر عليه”.
تخيّل لو أن الحكومة الصينية أطلقت خطة إستراتيجية للزراعة المائية. سيخسر عدد أقل من المزارعين سبل عيشهم عندما يضرب الطقس القاسي مرة أخرى، وستكون الأحداث المناخية القاسية أقل احتمالًا لأنه يمكن زراعة الأرض المتاحة بأشجار تمتص ثاني أكسيد الكربون. ستكون الصين أكثر قدرة على إطعام سكانها عن طريق الزراعة المائية، ولن تحتاج إلى شراء الأراضي الخصبة من البلدان الأفريقية.
تخيّل لو أن جميع المنازل الجديدة والمباني المكتبية مبنية على طراز المنزل السلبي، وهو ما لن يعترض عليه أحد بالتأكيد لأنه يقلل من فواتير الطاقة. وتخيل لو أن هذه المباني أكثر قدرة على تحمل الفيضانات أيضًا. وتخيّل لو أن جميع المكاتب والمؤسسات زرعت أسطحًا خضراء مما سيسمح لها بالمثل بخفض فواتير الطاقة مع زيادة جاذبيتها للموظفين والزوار.
لا ينبغي للعالم أن يتخيل، بل يجب على الشركات والمؤسسات والأفراد المضي قدمًا في تحقيق ذلك. كان الخيال مسموحًا به منذ عقد مضى من الزمان، أما اليوم فإن الطقس القاسي الذي يدمر الكوكب يجعل من تعديل هندسته المعمارية وبنيته التحتية ضرورة أخلاقية ولوجستية.
المصدر: فورين بوليسي