كانت كل المؤشرات قبل عامين من الآن تذهب باتجاه نهاية اللواء المتقاعد خليفة حفتر سياسيًا، وإزاحته عن المشهد الليبي وابتعاده بشكل كامل عن الملعب السلطوي خلال المرحلة القادمة، بعدما فشل في إحكام سيطرته على مفردات العملية، ما عظم من نفوذ حكومة الوفاق الوطني بقيادة فايز السراج وقتها، وجعله يسقط نسبيًا من قائمة أولويات القوى الداعمة له خارجيًا وعلى رأسها مصر والإمارات.
منذ ذلك الوقت ظهرت بعض الأسماء الأخرى البديلة لأداء المهمة التي فشل فيها الجنرال، تلك الأسماء تم التوافق عليها في ضوء مخرجات الحوار الذي اضطرت إليه ليبيا بعد إعادة تشكيل خريطة الصراع والنفوذ، وكان من أبرز المرشحين: رئيس البرلمان عقيلة صالح، وعبد الحميد الدبيبة، ثم فتحي باشاغا، فيما خرج حفتر من دائرة الاهتمام إلى حد كبير.
اليوم تغيرت الكثير من قواعد اللعبة، فالبدلاء لم يكونوا على قدر المسؤولية، والأوضاع تفاقمت سوءًا، وبدت البلاد على مشارف حرب أهلية جراء النزاع والصراع بين النخبة السياسية المختارة دوليًا، ولم يجد الجنرال المتقاعد فرصة مواتية كتلك لإعادة تصدره للمشهد مرة أخرى، آملًا في استعادة نفوذه المفقود والتأكيد على أنه لاعب مهم لا يمكن الاستغناء عنه، آنيًا ومستقبلًا.
وبينما تحيا طرابلس واحدة من أشرس معاركها الدامية بين القوات الموالية لرئيس الحكومة المكلف من برلمان طبرق، باشاغا، والقوات التابعة لرئيس حكومة الوحدة الوطنية، الدبيبة، التي أسفرت عن سقوط أكثر من 30 قتيلًا ومئات الجرحى، كان حفتر يغرد منفردًا على مسرح آخر، حين ارتدى بزته المدنية وتوجه في زيارة عاجلة للجنوب حيث مدينة الكفرة، وهناك أطلق عددًا من التصريحات المثيرة للجدل لما تضمنته من توجيه رسائل وتحذيرات أثارت قلق البعض من نشوب حرب جديدة خاصة بعدما طالب الشعب بتحطيم ما أسماه “أصنام الساسة”.. فعلى ماذا يراهن حفتر لعودته للأضواء مرة أخرى؟
خطاب شعبوي وتحريض علني
تبنى حفتر خلال لقائه بشيوخ وزعماء الجنوب خطابًا شعبويًا خالصًا، مشددًا فيه على أهمية الجيش والتأكيد على دوره في حلحلة الأزمة وفرض السيطرة، قائلًا: “لم نبنِ الجيش الوطني ليقف متفرجًا على ليبيا العزيزة يجرها العابثون إلى الهاوية”، مضيفًا “الشعب والجيش يد واحدة قادرة على تحطيم أصنام الساسة”.
وغازل الجنرال أهل الكفرة حين اتهم كل الحكومات السابقة بتجاهل مطالب الإقليم وأنها لم تعطه حقه الذي يستحقه، وأنه قد آن الأوان لينل سكان الجنوب كل حقوقهم، منوهًا أن “من حق الكفرة وكل المدن الليبية أن تحظى بالرعاية الصحية اللائقة وأفضل مستويات التعليم والتأهيل والخدمات العامة”.
وشن القائد المتقاعد هجومه على كل النخب السياسية الحاليّة، متهمًا إياها بالفساد والعمل لصالح أجنداتها الخاصة، على حساب الشعب الليبي، موضحًا أن “تضحيات الليبيين لم تكن يومًا من أجل أن تنعم جهة من الفاسدين بحياة الترف بالمال العام ويعيش المواطن الشريف تحت خطوط الفقر.. من حق الليبيين أن يتساءلوا أين تذهب أموال بلادهم، فلم يدفع الشهداء أرواحهم ليصبح الوطن غنيمة”.
القراءة الأولية لتلك التصريحات تذهب في اتجاه رغبة ملحة لدى الجنرال الذي غابت عنه الأضواء خلال العامين الماضيين في العودة للمشهد من الباب الكبير
كما وجه رسالة إنذار وتحذير لكل القوى السياسية حين خاطبها بقوله “على القوى الوطنية الحية أن تعيد تنظيم نفسها وتجمع شتاتها لقلب الموازين لصالح الشعب.. علينا شعبًا وجيشًا أن نتدارك الموقف قبل فوات الأوان”، معتبرًا أن الحل الحاسم يبقى “بيد الشعب الذي عليه أن يقود المشهد بنفسه ليسترد حقوقه ويبني دولته”.
وكما بدأ خطابه انتهى، عازفًا على وتر الجيش ودعمه للشارع واستجابته للإرادة الشعبية، مُنهيًا حديثه بخطاب عاطفي وجهه للجنوبيين قائلًا: “جيشكم يعدكم أيها الليبيون الشرفاء بأنه إلى جانبكم اليوم وغدًا”، معيدًا التأكيد مرة أخرى على أنه “على الليبيين ألا ينتظروا من طبقة سياسية أو جهة أجنبية أن ترفع عنه المعاناة”.
القراءة الأولية لتلك التصريحات تذهب في اتجاه رغبة ملحة لدى الجنرال الذي غابت عنه الأضواء خلال العامين الماضيين في العودة للمشهد من الباب الكبير، عبر تصريحات شعبوية يغازل من خلالها القبائل والتيارات والقوى، مصدرًا نفسه لاعبًا وطنيًا بعيدًا عن النخب الفاسدة التي تتناحر على السلطة.
إرهاصات العودة
لم تكن زيارة الكفرة المؤشر الوحيد على مساعي الجنرال للعودة للمشهد مرة أخرى، فمنذ غيابه عن الساحة إثر فشله في اقتحام طرابلس 2019 وما نجم عنه من تفاهمات، إقليمية ودولية، أبعدته رسميًا عن دائرة الضوء وحسابات المرحلة القادمة، لم يتوان حفتر عن الاقتراب من خط التواجد، مستغلًا ما لديه من أوراق ضغط على رأسها ميليشياته والنفط الذي يهيمن على قطاع كبير منه.
واستند الجنرال لسياسة “اللعب على كل الأحبال” لتحقيق طموحه السياسي، فالاستعانة بالبدائل ليست مسوغًا نهائيًا لخروجه من الملعب بشكل قاطع، فهناك وقت بدل ضائع، تخضع فيه تلك البدائل للاختبار والتقييم، وما إذا كانت قادرة على تقديم ما لم يقدمه حفتر.
وعليه وضع الرجل عدة سيناريوهات متناقضة أحيانًا تبقيه داخل المسرح، حتى إن لم يكن طرفًا أساسيًا، فعقد بعض التحالفات والتفاهمات مع التيارين المتصارعين، فبينما هو داعم على طول الخط لباشاغا الذي يعتبره ذراعه السياسية للعودة بعد تكليفه برئاسة الحكومة من برلمان الشرق، إذ به يفتح خط اتصال آخر مع خصمه الدبيبة.
الأيام الماضية شهدت لقاءت واجتماعات عقدها ممثلو حفتر والدبيبة لعل أبرزها الاجتماع الذي احتضنه مطار معيتيقة الدولي بالعاصمة طرابلس بين رئيس الأركان العامة بحكومة الوحدة الوطنية الفريق محمد الحداد، ورئيس أركان قوات القيادة العامة عبد الرزاق الناظوري، الذي يأتي كما ذهب البعض في إطار المشاورات العسكرية لتوحيد المؤسسة العسكرية وإخراج المرتزقة من البلاد، بجانب محاولة إنهاء صفقة الطيار عامر الجقم، المقرب من حفتر، الذي تم أسره بعد إسقاط طائرته في حرب طرابلس 2019، مقابل إطلاق سراح مجموعة من الليبيين المعتقلين في سجون حفتر، إضافة إلى العميد يحيى الأسطى عمر، الذي تم أسره عام 2016 بمدينة درنة.
أحد مخرجات هذا التناغم بين حفتر والدبيبة كان تغيير رئيس ومجلس إدارة المؤسسة الوطنية للنفط في ليبيا، حين تولى رئاسة المؤسسة الأهم في البلاد والمورد الأكبر لضح المال وصاحبة النفوذ والقادرة على ترجيح كفة أي فصيل يهيمن عليها، فرحات بن قدارة، المقرب من الجنرال، الذي أعلن بعد تنصيبه بأيام قليلة استمرار تدفق النفط وتصديره مؤكدًا أنه سيتعامل مع الحكومتين “الدبيبة وباشاغا”.
التزام حفتر الصمت إزاء التطورات في طرابلس والتوقف نسبيًا عن دعم حليفيه، التقليدي باشاغا والبرغماتي الدبيبة، فيما يعزف هو منفردًا على وتر الشعبوية في مغازلة القبائل والقوى الأخرى في الوسط والجنوب، يعكس نية مبيتة لدى الجنرال في توظيف المشهد لحسابه الشخصي، كونه الأقوى حاليًّا بين المتصارعين الثلاث لما يمتلكه من ميليشيات عسكرية قادرة على صنع الفارق إذا ما ضعف منافسوه جراء المناوشات المستمرة بينهما التي تفقدهما الزخم الشعبي وتسحب بساط الشرعية من تحت أقدامهما.
مخاوف من إعلان حرب
تصريحات حفتر أقلقت العديد من المراقبين ممن أبدوا تخوفهم من حرب جديدة ربما يلجأ إليها الجنرال لاستعادة بريقه مرة أخرى، خاصة بعد الانتقادات الحادة الموجهة إلى باشاغا، والتخوف من تنامي نفوذ الدبيبة بما يؤهله لاستعادة زمام الأمور مرة أخرى، إذ يعي الجنرال جيدًا أن تقوية شوكة رئيس حكومة الوحدة الوطنية لن تكون في صالحه مطلقًا رغم التفاهمات البينية التي جرت مؤخرًا.
العقيد الليبي سعيد الفارسي، يرى أن زيارة حفتر للكفرة تهدف في المقام الأول إلى بحثه عن مؤيدين له في الجنوب بعدما فقد شعبيته ودوره السياسي في الشرق، وأن فشل حكومة باشاغا دفعه لإعادة ترتيب الأوراق مرة أخرى للظهور على الساحة أكثر قوة وحضورًا ونفوذًا، مضيفًا في تصريحاته لـ”عربي 21” “لا حل أمام حفتر إلا الحرب من أجل السيطرة على كل التراب الليبي، وهو جاد في ذلك حال توافرت الفرصة له، لذا فإن الحرب قادمة لكنها مؤجلة الآن ويسعى حفتر ومؤيدوه في الخارج إلى كسر عظام خصومه في الداخل لإفساح الطريق أمامه”.
وعن الرأي الذي يفسر تلك الزيارة بأنها من باب “المماحكة السياسية” للجنرال ومحاولته لفت الأنظار إليه بتصريحات جوفاء بعيدة تمامًا عن الجدية، أكد الأكاديمي الليبي عماد الهصك، أن تصريحات حفتر لا بد أن تؤخذ على محمل الجد بشكل كبير، فالوضع بعد حرب طرابلس الأخيرة التي قطعت شعرة معاوية بين الفرقاء الليبيين، بات مرشحًا للمزيد من المواجهات العسكرية، محذرًا من أن كل طرف سيضطر لاستخدام ما يمتلكه من أوراق ضغط ونفوذ داخلي وخارجي لتحقيق أهدافه الخاصة.
وتوقع الأكاديمي الليبي زيارة مماثلة لحفتر لمدينة سبها في الجنوب، للتأكيد على سيطرته الكاملة على الجنوب والشرق، وهو ما سيمنحه ثقلًا كبيرًا ربما يجبر القوى الخارجية على إعادة النظر في التعامل معه كرقم صعب في المشهد خلال المرحلة المقبلة، فالرسالة الأبرز التي يود الجنرال إيصالها أنه ما زال موجودًا على الساحة وأنه ازداد قوة عما كان عليه قبل عامين.
المشهد الليبي الآن بات مفتوحًا على الاحتمالات كافة، والفوضى التي شهدتها البلاد في ظل نزاع النفوذ والسلطة بين الحكومتين، ربما يصب في صالح قوى أخرى، على رأسها حفتر وربما رئيس البرلمان، وهو ما قد يسيل لعاب الطامعين في السلطة، ويدفعهم نحو اللهث خلف إرسال رسائل النفوذ والسيطرة وإثبات الذات، ولو كان ذلك على حساب الأمن والاستقرار الليبي.. فهل ينجح حفتر في توظيف المشهد لصالحه ويقنع الداخل والخارج بضرورة وجوده خلال المرحلة المقبلة رغم الإخفاقات والخسائر المتتالية التي مني بها مؤخرًا؟