في الآونة الأخيرة، اختلفت طبيعة المسلسلات والأفلام الفلسطينية، فقد باتت تخاطب العالم الغربي بطريقته، وتستعرض حياة الفلسطيني الباحث عن الاستقرار والجنسية، بدلًا من حياة المقاوم المطارَد من قبل الاحتلال الإسرائيلي، وكلا النمطَين من الأعمال الفنية مشبعة بالألم والقهر والمعاناة، لوجود حواجز وعراقيل في الوطن وخارجه.
عرضت منصة نتفليكس المسلسل التلفزيوني الكوميدي Mo، من بطولة محمد عامر، ليحكي قصة لاجئ فلسطيني يعيش في مدينة هيوستن بولاية تكساس الأمريكية، ضمن سلسلة من الصراعات اليومية للحصول على إثبات هوية له، وذلك في 8 حلقات متصلة تحمل في مضمون كل واحدة منها موضوعًا معيّنًا.
وبعد مرور الحلقة الأولى، يدرك من تابع مسلسل “رامي” المصري قبل سنوات قليلة أنه نسخة فلسطينية عنه، تحكي يوميات شاب عربي يعيش في أمريكا بكل التناقضات والعلاقة المرتبكة بالوطن والدين والثقافة، مع أنهم لا يعرفون وطنًا إلا أمريكا التي كبروا وترعرعوا فيها بعيدًا عن المجتمعات العربية.
ما حكاية “مو” اللاجئ الفلسطيني في هيوستن؟
يتناول المسلسل الحياة اليومية لشاب فلسطيني لاجئ اسمه محمد، ينادونه في أمريكا “مو” وفي البيت “حمودي”، لديه عائلة مكونة من أمّ لعبت دورها الفنانة الفلسطينية فرح بسيسو، ونجحت في تجسيد دور الأمّ المغتربة التي تحافظ على العادات والتقاليد رغم غربتها، وتبقى طيلة الوقت تحاوط أبناءها خشية الوقوع في “المحرمات”، كما للبطل أخ يعاني اضطراب التوحد، وشقيقة تمردت وتزوجت رجلًا كنديًّا للحصول على جنسيته، أما الأب فقد وافته المنية منذ زمن.
عاشت عائلة “مو” في الكويت، لكن بعد الغزو العراقي اضطروا للذهاب إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ورغم وصولهم منذ 20 عامًا، لكنهم لم يحصلوا بعد على وضع قانوني يمكّنهم من العيش بشكل طبيعي.
اضطر “مو”، كونه الابن الأكبر، لعائلته العمل بطرق غير شرعية لإعالة أسرته، فتارة يتجول في سيارته لبيع بضائع ذات الماركات العالمية المضروبة (المزيّفة)، وتارة أخرى يعمل “دي جي” في نادي تعرٍّ، دون أن يشعر عائلته بأنه يعاني دومًا ويُظهر أن الأمور بخير.
يقول بطل المسلسل محمد عامر، في مقابلة له، إن هذا العمل كتبه على مدار 9 سنوات، وهذه المرة الأولى التي يعرض فيها مسلسلًا متقنًا يحكي حياة فلسطيني بشكل كوميدي.
ومع أن البطل، وهو محمد عامر، طيلة الوقت يهتمّ بعائلته وأصدقائه وصديقته المكسيكية، إلا أنه في حالة صراع مع نفسه حين يواجه مواقف تحتّم عليه التعامل معها، فيدخل في حيرة ما بين ثقافته ودينه الإسلامي ومجتمعه الأمريكي الذي يعيش فيه.
تفاعل فلسطينيون كثر مع المسلسل الكوميدي، واعتبروه واقعيًّا يشبه حياتهم الاجتماعية في أمريكا وأوروبا، وسعيهم كلاجئين للحصول على جنسية أجنبية، فقد تميّز عن غيره من الأعمال الفلسطينية التي تعرض، حيث إنه بعيد عن تراجيديا البكاء على الماضي والأرض التي سُلبت بالقوة، عدا عن أنه يسلّط الضوء على الجيل الثاني من فلسطينيي الشتات، ومحاولة اندماجهم مع المجتمعات الغربية العنصرية.
يقول بطل المسلسل عامر، في مقابلة له، إن هذا العمل كتبه على مدار 9 سنوات، وهذه المرة الأولى التي يعرض فيها مسلسلًا متقنًا يحكي حياة فلسطيني بشكل كوميدي، خاصة أنه صنعه من حياته كلاجئ نشأ في حي إليف بهيوستن، يضمّ الكثير من الأعراق والجنسيات المختلفة.
النقّاد ما بين مؤيد ومعارض لمسلسل Mo
اختلف النقّاد حول أهداف المسلسل الفلسطيني، منهم اعتبره يحتوي على أفكار مسمومة كونه يعرَض عبر منصة نتفليكس، المعروفة بدعمها للرواية الإسرائيلية، وآخرون اعتبروه يعكس الواقع الاجتماعي للاجئ في أمريكا، وكيف يحاول التمسك بدينه وعاداته أمام مغريات الحياة هناك.
يقول سعيد محمد، وهو كاتب وباحث فلسطيني، إن الكوميدي الأميركي من أصل فلسطيني، قدّم تعقيدات العيش كلاجئ في المجتمع الأميركي في إطار سيرة ذاتية هزلية مسلسلة على نتفليكس، ومع أن العمل مفكّك، كثير التسطيح والكوميديا رديئة، ومحتواه السياسي مسموم، لكن موهبة عامر الملحوظة وإلقاءه الضوء على معاناة الأجيال الثانية من فلسطينيي الشتات، سيكون دون شكّ علامة فارقة في بناء النمط الهوليوودي المبستر في السينما والتلفزيون، عن الثقافة الفرعية للفلسطينيين الأميركيين.
ويرى أن البطل عامر موهبة كوميدية حقيقية، نجح “تجاريًّا” عبر اللعب على تسطيحات العقل الأميركي الأبيض لمعالم شكلية من الثقافة الإسلامية-العربية-الفلسطينية، لانتزاع ضحكات جمهور من الأميركيين البيض الذين كانت لهم تفاعلات عرَضيّة مع جوانب من تلك الثقافة الشرقية، من بوابة العدوان العسكري الأميركي المتكرر (أفغانستان، العراق، ليبيا، سوريا وأيضًا حدث الحادي عشر من سبتمبر).
ويقول الكاتب إن هزالة الخطاب السياسي للمادة الكوميدية التي يقدّمها مو عامر، وضعف بنيتها السردية، تعوّضهما فقط معالجته لهموم هوية حقيقية تلمس حياة الأجيال الثانية من المهاجرين الفلسطينيين (والعرب عمومًا)، ومن بعدهم ممّن خرجت فلسطين بالكامل من واقعهم، وانتقلت إلى حيّز التاريخ الشفوي المتداوَل، وفضاء الإنترنت.
المسلسل بروفايل شخصي عن ألم مو وعائلته، ومع ذلك بدا وكأنه ألم كل فلسطينيّ ولاجئ اُقتلع من الجغرافيا، لكنه لم يُقتلع من التاريخ.
وذكر أن العمل يعمد إلى لمس موتيفات إسلامية، بحكم أن الأميركي الأبيض يرى كل عربي أو فلسطيني مسلمًا حُكمًا، والتسطيح هنا سيّد الموقف دومًا، حيث شكليات وطقوس فارغة لا تتعارض فيها البسملات الكثيرات أو الصلوات الخمس أو خلع الأحذية عند الدخول إلى المنزل، أو شرب الكوديين أو العمل في نادٍ للتعري، مبيّنًا أن ديناميات الإسلام وتشابكاته المفترضة مع الحياة الشخصيّة والعائليّة والمجتمعية هنا، معلّبة تمامًا كشيء لن يزعج معدة الأميركي الأبيض حتمًا.
في حين يرى الكاتب الأردني موسى برهومة، في مقال له بعنوان “مسلسل Mo: عن الحق والحُمّص والإبداع”، أن المرافعة العميقة والذكية التي قدّمها مسلسل “مو”، تضاهي الكثير من الأدبيات والشعارات التي تحدّثت وأيّدت الحقّ الفلسطيني، وهو حقّ، وهذا استطراد ضروري، لا يهرم ولا يتآكل، ولا يتقادم مع الزمن.
ووفق متابعته للمسلسل، فقد نجح باقتدار في تجديد صورة فلسطين، الحلم والضمير، من خلال أداء مو عامر الذي يصرّ على تعريف نفسه بأنه أمريكي فلسطيني، وأنه اُقتلع من أرض أبيه وأجداده، وأنه عاين آلامهم في الهجرة الاضطراريّة إلى الكويت عام 1990، ثم الهجرة الأكثر اضطرارية في أعقاب حرب الخليج، ثم اللجوء مرة أخرى إلى أمريكا، ومكابدة آلام التمييز، والتجاهل الحقوقي، والانتظار 20 عامًا حتى الحصول على الجنسية.
ومن وجهة نظره، فإن المسلسل بروفايل شخصي عن ألم مو وعائلته، ومع ذلك بدا وكأنه ألم كل فلسطينيّ ولاجئ اُقتلع من الجغرافيا، لكنه لم يُقتلع من التاريخ.
نتفليكس والتطبيع الناعم
وقت الترويج للمسلسل الفلسطيني عبر منصة نتفليكس، لم يرق للكثيرين وشكّكوا بنوايا المنصة المعروفة بانحيازها للرواية الإسرائيلية، بعيدًا عن التعاطف ولو لمرة واحدة مع القضية الفلسطينية، وعادةً حين يُذكر الفلسطيني عبر منصات أمريكية وغربية تدعم الاحتلال، تتمّ شيطنته والادّعاء بأنه إرهابي ومعادٍ للسامية.
وبحسب النقّاد، فإن نتفليكس منتجة لثقافة تتنفّس الإمبراطورية، وتنطق بفلسفتها تجاه العالم، وتحكمها دومًا نظرة نخبتها للأعراق والمجموعات الدينية والثقافيّة، ومن الواضح أن نتفليكس تقدم فلسطين -والفلسطينيين- بما يناسب مقاييس العين الأميركية حصرًا، حيث لا صراع وجودي مع الكيان العبري، وأساس الصراع هو محاولة الحصول على حقوق قانونية وإجرائية في الأرض المحتلة أو في الشتات.
ووصفوا عرض المسلسل عبر المنصة بالتطبيع الناعم مع الأوضاع القائمة، مع بضع عبوات من زيت زيتون، وكثير من الشتائم العربية، معتبرين أن المسلسل ليس عن الفلسطينيين فقط، لكن حضور فلسطين بهذه الطريقة جديد على صناعة الترفيه الأميركية.
وبدا واضحًا أنه في السنوات الأخيرة، تتهافت المنصات الأمريكية على إنتاج وعرض أعمال فلسطينية تخاطب العالم الغربي، وبمضامين مغلوطة عن طبيعة المجتمع الفلسطيني، فمثلًا هناك عدة أفلام أثارت الجدل عند عرضها، مثل فيلم “أميرة” الذي يشكك في عملية تهريب نطاف الأسرى، و”صالون هدى” الذي فيه تخوين للمقاوم وطريقة إسقاط النساء في العمالة.
ومع أن نتفليكس تعرض كمًّا كبيرًا من الإنتاج الفلسطيني الدرامي والوثائقي، إلا أنها للمرة الأولى تنتج مسلسلًا محليًّا بمثل هذه الخلطة، كما أن وجود “محتوى عربي” على المنصة لا يعني أن الشركة تضع القضية الفلسطينية ضمن أولوياتها، أو حتى التعاطف معها.