في غضون ثوانٍ، تحوَّل الغناء والصفير إلى صرخات مدوية، فالعديد من النساء اللواتي اجتمعن للمطالبة بتنحي رئيس ساحل العاج آنذاك لوران غباغبو، أصبحن على الأرض، محاطات ببرك من الدماء، هذه المجزرة التي وقعت في مارس/آذار 2011، صُوِّرت ونشرت على موقع يوتيوب، وكان هذا الحدث مرشحًا لاهتمام وسائل الإعلام العالمية.
كان مقطع الفيديو صادمًا، فقد أطلق الجنود العسكريون النار علانيةً على نساء غير مسلحات، لكنه لم يتلق إلا تغطية محدوة للغاية، ولم تحرك الدول الكبرى والمؤسسات الدولية المعنية ساكنًا، فقد كان العالم مشغولًا للغاية بالحرب في ليبيا، وكانت مصر قد شهدت للتو ثورتها، لذا فإن ساحل العاج ببساطة لم تكن مناسبة للسياق.
الكثير من الأحداث، خاصة تلك التي تشهدها القارة الإفريقية، تشهد على تكرار هذا السيناريو مجددًا هذه الأيام، فبينما تتجه الأنظار نحو مخاوف استهداف محطة زاباروجيا النووية في أوكرانيا وتحديات إحياء الاتفاق النووي الإيراني وأزمة الركود والتضخم التي تضرب الاقتصاد العالمي ومعركة إمدادات الغاز في أوروبا، يشهد العالم موجة أحداث أخرى ممتدة من الصراعات والحروب إلى الكوارث والمجاعات، لكنها لم تجد لها مكانًا في الحراك الدولي، فلماذا يعيش العالم حالة من عدم الاكثراث تجاه قضايا تستحق تحركات عاجلة على المستويين السياسي والإنساني؟
باكستان.. تكلفة اللامبالاة
ظهرت باكستان في عالم يعج بالأحداث المتسارعة كضحية لكارثة من صنع الإنسان وحالة اللامبالاة العالمية التي تكشف الفيضانات الاستثنائية عن تكلفتها، فقد خلَّفت مئات القتلى وآلاف المفقودين وانتشار الأمراض وحالة طوارئ وطنية وإحداث فوضى في حياة أكثر من 33 مليون شخص وتدمير نحو 220 ألف منزل، مع احتمالات بدفع الآلاف تحت خط الفقر، وتسرب الأطفال من المدارس، وموت العديد من الأمهات في أثناء الولادة.
يمكن للمرء أن يستمر في الحديث عن الخسائر المتكبدة، لكن قد يكفي رقم واحد فقط قدَّمه وزير التخطيط والتنمية الاقتصادية أحسن إقبال عندما قال: “تحتاج باكستان إلى 10 مليارات دولار لإعادة البناء والحياة إلى طبيعتها وسبل العيش والبنية التحتية”، لكن من أين في بلد تمثل جهود تدبير التمويل وإعادة الإعمار فيه تحديًا، حيث يمر بضائقة مالية، ويضطر لخفض الإنفاق لضمان موافقة صندوق النقد الدولي على صرف أموال مساعدة يحتاجها بشدة.
لكن رغم كبر مُصابها، تُركت باكستان هذه المرة بعيدة عن التضامن الدولي الذي سُجل في أزمات عالمية أخرى، فلا صوت للمتضامنين معها رغم صور البيوت التي جرفتها السيول والأضرار التي خلفتها الأمطار الغزيرة.
من غير المؤكد حصر حجم الدعم الدولي الذي ستحصل عليه باكستان في نهاية المطاف، بالنظر إلى إجهاد المانحين والتباطؤ الاقتصادي والاهتمام العالمي بحرب أوكرانيا
على المستوى الداخلي، دفعت اللقطات التي تصور الأطفال الذين جرفتهم المياه الكثيرين إلى توجيه انتقادات شديدة للنخبة الحاكمة بسبب بطء الاستجابة في تقديم الدعم للمتضررين من الفيضانات، ورأوا أنها مشغولة بالمشاحنات السياسية والقيام برحلات إلى الخارج، وأن اللامبالاة وعدم الكفاءة المطلقة من الحكومة يؤديان إلى المزيد من الوفيات والدمار.
وعمومًا، انتهى الأمر بمعونات دولية لم تكن بحجم المأساة، فقد قدَّمت الولايات المتحدة 10 ملايين دولار في شكل قوارب إنقاذ ووحدات لتنقية المياه وجسور سابقة الصنع، وخصصت الأمم المتحدة 3 ملايين دولار لوكالات الإغاثة التابعة لها وشركائها في باكستان، ووعدت دول أخرى بتقديم المساعدات بشكل عاجل لكن ذلك قد لا يكون عاجلًا بالشكل المطلوب بالنسبة لمن شردتهم الفيضانات أو لمن يعيشون في العراء أو في معسكرات الإيواء في ظروف بالغة القسوة.
يبدو أن الحكومة لديها سيطرة أفضل على الوضع في الوقت الحاليّ، وهي تنسق مع المستويات الإقليمية والمجتمع الدولي، خاصة الأمم المتحدة، لكن من غير المؤكد حصر حجم الدعم الدولي الذي ستحصل عليه باكستان في نهاية المطاف، بالنظر إلى إجهاد المانحين والتباطؤ الاقتصادي والاهتمام العالمي بحرب أوكرانيا.
ومع ذلك، فإن الوضع يستحق المطالبة فيما يتعلق بتمويل المناخ من العالم المتقدم بدلًا من انتظار المساعدات الإنسانية وجهود الإغاثة في حالات الكوارث، لكن نتائج الجمود واللامبالاة في الاقتصادات الغربية تبدو واضحة الآن بشكل صارخ، فرغم أن باكستان – التي تندرج في الفئة “الأكثر عرضة لتغير المناخ” – تساهم بأقل من 1% في الانبعاثات العالمية، فهي واحدة من أكثر البلدان المعرضة للخطر بسبب تغير المناخ والاحترار العالمي.
إفريقيا.. مفارقات العدالة
في مكان آخر حيث يتزايد التجاهل الدولي، وتحديدًا في دولة السودان، يعيش المواطنون مأساة متكاملة الأركان بسبب السيول والفيضانات غير المسبوقة التي ضربت البلاد، ولايات كاملة غمرتها المياه، وأعلنت حالة الطوارئ لمواجهة الأوضاع الكارثية التي يعزوها الخبراء إلى تغير المناخ، ذلك الموضوع الذي تأخذ قضاياه قسمًا لا بأس به من الاهتمام الدولي، لكن ربما ليس في إفريقيا.
ومع ضعف البنية التحتية وتراخي استجابة السلطات وتواضع القدرات الاقتصادية وتفاقم النزاعات القبلية وتآكل إمكانات الناس لمواجهة مثل هذه الكوارث، كثرت الدعوات المحلية لتقديم المساعدات للمتضررين، لكن لم تمتد بعد من خارج البلاد يد لمساعدة ضحايا الفيضانات، فما زال الدعم الإقليمي والدولي لا يتناسب مع حجم الكارثة التي تعيق السلطات من تحقيق استجابة كافية بمفردها.
لا يعود ذلك لتأخر الحكومة في مناشدة المنظمات الإنسانية وإعلان حالة الطوارئ، بل في اختلال بيّن في ميزان علاقات البلاد الخارجية، ما جعل حراكها مرهونًا بمحاور بعينها لا يجني السودان من روابطه معها غير وعود خاوية.
مقارنة بالمساعدات التي تلقاها السودان استجابة للفيضانات التي تضرر بسببها نحو 800 ألف شخص عام 2020، التي شهدت تحركًا عربيًا وغربيًا عاجلًا، وتلك المساعدات المحدودة التي قدمتها بعض الدول مؤخرًا، يُلاحظ أن دبلوماسية المساعدات الإنسانية لهذه الدول قد تغيرت كثيرًا بسبب محاولة التعافي من جائحة كورونا واستمرار تبعات الحرب الروسية الأوكرانية على الاقتصاد العالمي.
دبلوماسية المساعدات الإنسانية لهذه الدول تغيرت كثيرًا بسبب محاولة التعافي من جائحة كورونا واستمرار تبعات الحرب الروسية الأوكرانية على الاقتصاد العالمي
تشاد هي الأخرى مثال للمآسي التي سقطت من حسابات الاهتمام الدولي، حيث تضرر 340 ألف شخص و11 إقليمًا بسبب هطول الأمطار الموسمية الأشد منذ أكثر من 30 عامًا، وتفاوتت الأقاليم في تأثرها بالسيول والفيضانات، لكن على الرغم من إلحاح الموقف، لا تزال المساعدات مثل المأوى والغذاء للأشخاص الأكثر تضررًا يعيقها التمويل الكافي.
واعتبارًا من هذا الشهر، تلقت الجهات الإنسانية الفاعلة على الأرض 33% فقط من التمويل الإنساني لعام 2022 المطلوب، ما دعا حكومة تشاد والمجتمع الإنساني إلى المطالبة بتقديم 5.2 مليون دولار لتوفير المأوى والضروريات الأساسية والحماية للمتضررين من الفيضانات.
يُضاف إلى ما سبق الكثير من الكوارث التي يشهدها العالم في الوقت الراهن، لكنها لم تحرك ساكنًا، ففي البرازيل، سجلت منطقة الأمازون أكثر من 12133 حريقًا خلال الأيام الأربع الأولى من شهر سبتمبر/أيلول الحاليّ، وفي الصومال، تتعالى التحذيرات من تعرض البلاد لمجاعة كارثية، حيث يواجه المواطنون أزمة غذائية حادة، مسّت أكثر من 7 ملايين، ودفعت نحو مليون آخرين إلى النزوح، بسبب أسوأ موجة جفاف خلال 4 عقود.
في المقابل، تشغل حالة الجفاف التي تعصف ببلدان أوروبية مساحة واسعة من الاهتمام الدولي منذ أسابيع مضت، ربما لأن هذه الموجة من الجفاف هي الأسوأ للقارة العجوز منذ 500 عام، أو بالأحرى لأن هذه الموجة مركزها أوروبا ودول أخرى مثل أمريكا والصين، رغم أن الدول سالفة الذكر تقع في المنطقة التي تعد بلدانها من بين أكثر البلدان عرضة لتغير المناخ، وفقًا لمؤشر مبادرة نوتردام العالمية للتكيف.
للصراعات النصيب الأكبر
لم تكن الكوارث المفروضة على الكثيرين القضايا الوحيدة التي لم تجد لها مكانًا على الساحة الدولية، فأجزاء أخرى من العالم تشهد صراعات وحروب كان نصيبها من اللامبالاة أكبر بكثير.
ففي العراق، عاد الهدوء بعد مواجهات دامية شهدتها المنطقة الخضراء بين التيار الصدري والإطار التنسيقي، لكن الأزمة لا تزال على حالها، فتفجر الأوضاع بتلك الدرجة من العنف المسلح التي كادت أن تتدحرج إلى احتراب أهلي كشف عمق الانقسامات الحادة بين الأطراف السياسية والمآلات الخطيرة التي يمكن أن تنزلق إليها الأمور.
ومع تطور المشهد الذي يعيد إلى أذهاننا ما بعد حرب 2003 التي طحنت مئات آلاف العراقيين الأبرياء، وكان أعظم غنائمها كرسي، خفتت الأصوات الدولية، واقتصر الأمر على تنديدات عابرة ودعوات معتادة للهدوء والحوار قادها سفراء وممثلو بعض الدول العربية والدولية، وناشدت بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق في بيان “جميع الأطراف الالتزام والمشاركة الفعالة والاتفاق على الحلول دون تأخير”.
حتى الولايات المتحدة التي لا يخفى على أحد دورها في الأزمة السياسية، أي فشلها في تعزيز حكومة عابرة للطوائف والأعراق تحمي سيادة العراق، وتوجه البلاد بعيدًا عن فلك إيران، لم تحرك ساكنًا، واقتصر الأمر على تعبير السفيرة الأمريكية في العراق ألينا رومانوفسكي عن قلقها من الاضطرابات.
وبدلًا من المضي قدمًا في تصحيح المسار الديمقراطي، تواصل إدارة بايدن انسحابها بعد الانتخابات المبكرة الأخيرة التي ضاعفت من هزيمة الميليشيات المدعومة من إيران، مكررة بذلك خطأً أمريكيًا شائعًا في العراق: التقليل من نفوذها وترك المجال مفتوحًا للجهات الفاعلة التي لا تشاركها رؤيتها.
أما إيران التي يبدو أن مصلحتها في استقرار جارتها الغربية، فقد التزمت طوال يومين من الفوضى الصمت نسبيًا بشأن الجوانب السياسية، وركزت في الغالب على ضمان سلامة وأمن آلاف الحجاج الإيرانيين الذين يسافرون إلى العراق عن طريق البر أو الجو لتجمعات الأربعين، وبعد عودة الهدوء، وجهَّت وزارة الخارجية الإيرانية في بيان الشكر إلى العراق حكومة وشعبًا على “تجاوز فتنة كبيرة”.
يبدو أن كلتا الدولتين الفاعلتين في المشهد العراقي منهمكتان في مساعي إحياء الاتفاق النووي، ففي حسابات إدارة بايدن “لا مجال لخسارة مزيد من الوقت”، فثمة انتخابات نصفية للكونغرس الخريف المقبل، ومن المهم تحقيق إنجاز في السياسية الخارجية من قبيل التوصل لتوقيع إيران على العودة إلى الامتثال لاتفاق نووي بدت فرص إحيائه أكبر من أي وقت مضى.
وبعيدًا عن بؤرة التركيز العالمي، تبدو القصة الليبية أكثر تعقيدًا، وكأن نصيبها ألا تنعم بالأمن الذي عاشته على مدار شهور عدة، وتلخص العاصمة طرابلس الصراع السياسي في ليبيا مجددًا بتحولها إلى ساحة لمعارك طاحنة بين قوات تابعة لرئيس الحكومة المكلف من البرلمان فتحي باشاغا وقوات حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة الذي يتحصن بالعاصمة متعهدًا بعدم تسليم السلطة إلا لجهة منتخبة.
مواجهات طرابلس أثارت مواقف إقليمية ودولية دعت للحوار ووقف إطلاق النار، لكن إخفاق الوساطات المحلية والدولية في الوصول إلى طرفي النزاع فجَّر الوضع في البلاد، ليجد الليبيون أنفسهم مجددًا في أتون حرب أهلية جديدة ستُسال فيها الكثير من دماء المدنيين، ويُغلق الباب أمام أي مبادرة تنتهي بانتخابات وسلطة منبثقة عن الشعب.
من الملاحظ في الحالة الليبية هذه المرة غياب بعض الأطراف الدولية التي لطالما ذُكر اسمها مع تصاعد الاحتراب الداخلي، فدول مثل تركيا وفرنسا وإيطاليا ذات المصالح المتنافسة والمتداخلة غضت الطرف هذه المرة عمَّا يحدث في ليبيا، وبدت ردود فعلها غير فعالة، وتلاشت جهود الوساطة الدولية والأممية بين أطراف النزاع الليبي نتيجة وقوع مجلس الأمن والأمم المتحدة فريسة لتصارع الدول دائمة العضوية فيه، وخلافهم طويل الأمد بشأن تكليف شخصية في إدارة الحوار لحل الأزمة الليبية.
في وقت تستمر فيه الأسرة الدولية بقلقها مما يجري في إثيوبيا، يتجاهل الكثيرون أوجه الحرب البشعة التي يدفع ثمنها أناس لم يستشرهم أحد في بدئها
ليس بعيدًا عن القارة السمراء، وفي إثيوبيا، تفرض إرادة الحرب إيقاعها بشكل متسارع في تيغراي وما حولها، فمنذ أيام قليلة، عاد التوتر إلى إقليم أمهرة مع تبادل الاتهامات بين الحكومة الإثيوبية وجبهة تحرير تيغراي، مهددًا بنسف الجهود الحثيثة التي اقتربت من فرص إحلال السلم في البلاد، وإنهاء حرب استمرت 21 شهرًا، في وقت أطلقت فيه الحكومة حوارًا سياسيًا شاملًا اندمجت فيه الأطياف السياسية ومكونات المجتمع المدني.
وبين إقليم منهك يعاني من فقر وجوع وحكومة تخوض معارك سياسية واقتصادية على أكثر من جبهة، قد تشهد التطورات الأخيرة المتسارعة مواجهة شاملة سيجد كل طرف فيها من يقدم له الدعم، ما يفاقم وضعًا إنسانيًا صعبًا للغاية أُرغم خلاله مليونا إثيوبي على النزوح أو اللجوء، وأعلنت الأمم المتحدة أن أكثر من 4 ملايين شخص يحتاجون إلى المساعدات الإنسانية في جبهة تيغراي، وأن 400 ألف يعيشون في ظروف المجاعة، وأعلن عن وفاة نحو 200 طفل بسبب سوء التغذية.
في وقت تستمر فيه الأسرة الدولية بقلقها مما يجري، يتجاهل الكثيرون أوجه الحرب البشعة التي يدفع ثمنها أناس لم يستشرهم أحد في بدئها، أحد أسباب هذا التجاهل أن الناس لديهم القليل من المعرفة الخلفية بالأحداث، بسبب نقص التغطية الإعلامية، فباستثناء طاقم التليفزيون الفرنسي من قناة ARTE، لم يكن هناك مراسل إخباري أجنبي في تيغراي منذ أن استعادت الجبهة السيطرة على معظم المنطقة في يونيو/حزيران 2021، ولم يتمكن عدد قليل من عمال الإغاثة المسموح لهم بالدخول من جمع البيانات الأساسية عن وفيات الأطفال، حيث أقرت المتحدثة باسم برنامج الأغذية العالمي بأننا “لا نعرف”، ما إذا كانت هناك مجاعة أم لا.
في مثل هذه الأجواء، يبدو طريق العودة إلى المفاوضات غير مؤكد في أحسن الأحوال، فيلتزم المبعوثون الدوليون الصمت بشأن سبب انهيار المحادثات التي كانت الولايات المتحدة تدعمها بقوة من وراء الكواليس، وكانت تعمل بالشراكة مع كينيا، لكن المبادرة الأمريكية الكينية تعثرت في منتصف أغسطس/آب الماضي عندما أُعلن فوز ويليام روتو بالانتخابات في كينيا، متغلبًا على المرشح الذي أيده الرئيس السابق أوهورو كينياتا، رايلا أودينجا.
لماذا سقطت هذه القضايا من الحسابات؟
على مر التاريخ، تجاهلت وسائل الإعلام الرئيسية العديد من الصراعات الأكثر دموية في العالم، فمنذ نهاية الحرب الباردة، وقع 12 من أصل 15 صراعًا دمويًا في العالم في إفريقيا، لكن وسائل الإعلام العالمية ركزت دائمًا على الصراعات الأصغر في أماكن أخرى.
يبدو أن إطالة أمد الصراع الداخلي في العديد من الدول، لا سيما في إفريقيا وآسيا، جعل أمل التغيير أمرًا ميؤوسًا منه
لعل المثال الأبرز على ذلك هو الحرب في جمهورية الكونغو الديمقراطية التي بدأت في أواخر التسعينيات، وراح ضحيتها أكثر من 5 ملايين شخص، الغالبية العظمى منهم بسبب المجاعة والأمراض التي يمكن الوقاية منها، ومع ذلك، ظل معظم العالم غافلًا.
في نفس الفترة، كرَّست كبرى الوسائل الإخبارية الغربية تغطية أكبر 50 مرة للصراع في “إسرائيل” وفلسطين، الذي أدَّى خلال عقدين من الزمان (1987 و2007) إلى مقتل نحو 7000 شخص.
تتكرر الأمثلة باستمرار، لكن يبقى السؤال: لماذا يتم تجاهل مثل هذه الأحداث؟ يجادل فيرجيل هوكينز، في كتابه “نزاعات التخفي: كيف يتم تجاهل أسوأ أشكال العنف في العالم”، بأن هناك عدة عوامل تؤثر على تغطية النزاعات في وسائل الإعلام، بما في ذلك أهميتها السياسية، فالحروب في إفريقيا على سبيل المثال لا تهم الغرب كثيرًا لأنها تحدث لأناس بعيدين ومختلفين، يعيشون في بلدان ليست “مهمة” بما فيه الكفاية.
مقارنة بالصراعات الداخلية التي تشهدها دول مثل ليبيا والعراق وسوريا واليمن وإثيوبيا، يبدو العالم مشغولًا بقضايا أكثر سخونة، على رأسها الحرب الروسية الأوكرانية التي دخلت شهرها السابع، وما يمكن أن يؤول إليه الوضع مع استمرار العمليات العسكرية بالقرب من محطة زاباروجيا النووية.
وبالنظر إلى أشهر معدودة من الحرب في أوكرانيا، يبدو أن إطالة أمد الصراع الداخلي في العديد من الدول، لا سيما في إفريقيا وآسيا، جعل أمل التغيير أمرًا ميؤوسًا منه، وأفقد الأطراف الدولية المعنية حماستها ومساعيها للوصول إلى حل يرضي جميع الأطراف، حتى بات الحديث عن حراك دولي سياسي أو دبلوماسي لوأد الصراعات في هذه الدول أمرًا مشوبًا بالتجاهل والبرود العالمي.
في هذا السياق، تشير الأبحاث إلى أن المدى الذي يكون فيه الحدث “دراميًا” سيقطع شوطًا طويلًا نحو تحديد ما إذا كان سيتحول إلى أخبار أم لا، فعلى سبيل المثال، يبدو تدمير المدينة بواسطة أقوى آلة عسكرية في العالم أمرًا مثيرًا للإعجاب، ومع ذلك، فإن الكوارث والمجاعات البطيئة لمجتمعات بأكملها أُجبرت على الفرار من العنف إلى الدول المجاورة والأدغال والصحاري، ليست مثيرة بما فيه الكفاية كما هو الحال في الحالات السابقة.
تبدو دول أخرى أكثر اهتمامًا بقضاياها الاقتصادية وشؤونها السياسية الداخلية، ففي الولايات المتحدة التي لا يخلو اسمها من أي قضية حول العالم، ارتفعت الأسعار الاستهلاكية في كل المجالات بشكل مخيف في الأشهر القليلة الماضية، وأصبحت فئات واسعة من الشعب الأمريكي تعاني نتيجة تضخم أسعار الاستهلاك والفائدة، ما ينعكس بلا شك على خيارات الناخبين في نوفمبر/تشرين الثاني المقابل خلال انتخابات التجديد النصفي للكونغرس.
كذلك تبدو الإدارة الأمريكية أكثر انشغالًا بقضايا سياسية خارجية بعينها مع اقتراب موعد هذه الانتخابات، وأهمها تحقيق تقدم فيما يتعلق بإحياء الاتفاق النووي مع إيران والدول الكبرى، بالإضافة إلى التفكير في رد على وقف إمدادات الغاز الروسي واستخدامه كورقة ضغط في سياق الخلافات الحادة بين الجانبين بشأن الحرب في أوكرانيا.
وفي بريطانيا، تدخل رئيسة الوزراء الجديدة ليز تراس “داونينغ ستريت 10” في لندن، لتجد على طاولتها عددًا من الملفات الحارقة التي تحتاج إلى حلول عاجلة لإنقاذ المواطنين واقتصاد البلاد من أزمة لم تشهد بريطانيا مثيلًا لها منذ نصف قرن، لكن ليس من بينها التحرك العاجل لإنهاء الصراعات وتقديم المساعدات الإنسانية لمتضرري الكوارث والحروب.
اقتصاديًا، تنظر الدول الغنية التي اعتادت تقديم جهود الإغاثة العاجلة إلى الدول النامية والمتضررة، إلى مواطنيها أولًا قبل أن تلتفت إلى مواطني الدول الأخرى، فقد تغيرت الأولويات في عالم بدا مجهدًا من جائحة كورونا، ولم يكد يتعافى حتى وجد نفسه يواجه أزمة جديدة، ويتكبد كلفة تداعيات الأحداث السياسية والتطورات العسكرية في شرق أوروبا التي ألقت بظلالها على الاقتصاد العالمي.
وبالنسبة لأوروبا، تبدو معركة الطاقة التي تخوضها دول القارة ضد روسيا أكثر أهمية من أي معركة أخرى خارج حدودها، فهي تسابق الزمن، وتسعى للحد من ارتفاع أسعار الغاز المستورد من روسيا، لا سيما بعد قرار روسيا بإغلاق خط توريد الغاز إلى أوروبا “نورد ستريم 1” إلى أجل غير مسمى، لكن وضع سقف لسعر الغاز الروسي قد يرتد عكسيًا على أوروبا في حال قررت موسكو قطع إمدادات الغاز عن أوروربا.
بالمحصلة، لعل المشكلة الأساسية تكمن في تبعية الإعلام الإقليمي والمحلي للإعلام الغربي المهيمن، الذي يرسم سياسات التغطيات حسب اهتمامات جمهوره وأجندة حكوماته، فتغيب بذلك القضايا التي لا يهتم بها الإعلام الغربي أو “الدولي” الذي يوزع الأخبار والتقارير والصور والأجندات، عن سمع وبصر الجمهور العالمي.