منذ سنوات الحصار المفروض على قطاع غزة، يعاني الأطفال المرضى كبقية الحالات الإنسانية من صعوبة الحصول على تحويلات طبية للعلاج في مستشفيات القدس والضفة الغربية، بسبب مماطلة الاحتلال الإسرائيلي في إصدار تصاريح دخول لهم ولمرافقيهم، ما أدى إلى فقدان عدد كبير منهم الحياة وهم على قوائم الانتظار والمماطلة.
ورغم مضاعفة الأزمة التي تشتد من سنة لأخرى، وحملات الاستنكار الدولية ومؤسسات المجتمع الدولي التي تعنى بحقوق الطفل، فإن سلطات الاحتلال لا تزال تخرق القوانين الدولية وتتعامل مع الصغار كما لو أنهم إرهابيون وتحرمهم من أبسط حقوقهم في الحصول على العلاج المناسب.
قبل أسابيع قليلة فقد الطفل فاروق أبو نجا “6 أعوام” حياته نتيجة مماطلة الاحتلال الإسرائيلي له من أجل العبور عبر حاجز بيت حانون/إيرز شمال قطاع غزة، وكان يعاني من مرض ضمور النمو بعد 3 سنوات من ولادته حيث كان سليمًا.
أصيبت عائلة الطفل بصدمة كبيرة بعدما توفي بشكل مفاجئ وهو ينتظر الحصول على الموافقة العلاجية من سلطات الاحتلال الإسرائيلي للعلاج في مستشفى “هداسا عين كارم” – أحد مستشفيات الأراضي المحتلة عام 1948 – بعد تكفل مؤسسة أمريكية بعلاجه.
وفاة الصغير أرهبت الأطفال المرضي الذين كانوا يرافقون “فاروق” في مستشفيات قطاع غزة، فباتوا في حالة قلق وترقب خشية أن يكون مصيرهم الموت، خاصة أنه منذ بداية العام توفي أربعة أشخاص نتيجة مماطلة سلطات الاحتلال لحصولهم على تأشيرة دخول للأراضي المحتلة عبر معبر إيرز شمال قطاع غزة.
نموذج حي
يقول جد الطفل أبو نجا لـ”نون بوست” إن حفيده ولد بشكل طبيعي وبقي كما أقرانه يعيش بصورة طبيعية حتى عمر الثالثة حين بدأ يعاني من أعراض مرضية، فيما لم يكن يتوافر له علاج في مستشفيات غزة أو حتى مصر.
وفي أعقاب تدهور حالته الصحية عرضته العائلة على أطباء، في الوقت الذي قدمت فيه الجمعية الأمريكية تغطية مالية لعلاجه في مستشفى “هداسا عين كارم” الإسرائيلية، وبالفعل قدمت العائلة كل الأوراق للحصول على تصريح بالمرور عبر حاجز بيت حانون إلا أن الاحتلال رفض ذلك، كما يشير جده.
وبحسب العائلة فقد كان الموعد الأول لعلاج الطفل فاروق في شهر يناير/كانون الثاني 2022 ورفضه الاحتلال، ما نجم عنه تدهور حالته الصحية بشكلٍ كبير ودخل على إثره أحد مستشفيات القطاع وظل فيها حتى وفاته.
رغم ذلك فقد عاودت الجمعية الأمريكية تقديم الدعوة والتغطية المالية من جديد لعلاج الطفل، وبدأت معها العائلة رحلة استخراج الأوراق الخاصة للتصريح وفقًا للموعد الذي كان مقررًا في 10 أغسطس/آب الماضي الذي تم رفضه للمرة الثانية على التوالي.
وبحسب أبو نجا لم يبدِ الاحتلال الإسرائيلي أي أسباب وراء رفض استخراج التصريح الخاص بحفيده الذي لم يتجاوز 6 أعوام من عمره، وفي أعقاب الرفض الإسرائيلي تدهورت صحته أكثر وتوفي صباح يوم 24 أغسطس/آب الماضي.
ضحايا المماطلة الإسرائيلية
تشير بيانات بعض المؤسسات الحقوقية إلى أن عام 2021 شهد ارتفاعًا في رفض سلطات الاحتلال لطلبات التحويلات الصحية الخاصة بالقصر من غزة، إذ تم خلال 2020 رفض 17% من طلبات القاصرين للخروج من قطاع غزة لتلقي الرعاية الطبية (347 من أصل 2070 طلبًا)، وفي 2021، قفزت نسبة الرفض إلى 32%، وهكذا، فقد رفض الاحتلال 812 طلبًا من أصل 2578 تم تقديمها باسم قاصرين.
وبحسب مؤسسة الميزان لحقوق الإنسان فقد توفي أربعة مرضى بينهم ثلاثة أطفال منذ بداية عام 2022 بسبب عدم منحهم التصاريح اللازمة للعلاج في مستشفيات خارج قطاع غزة، إلى جانب آلاف الحالات التي تنتظر.
من جانبه، يقول مسؤول العمليات في المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان أنس الجرجاوي: “السلوك الإسرائيلي ليس جديدًا ولا يمكن فصله عن السياسات الإسرائيلية التعسفية وغير القانونية في الأراضي الفلسطينية المحتلة”.
ويوضح الجرجاوي لـ”نون بوست” أن هذا العام منذ بدايته انضم 4 أشخاص من بينهم 3 أطفال إلى قائمة طويلة من المدنيين الذين فقدوا حياتهم نتيجة المماطلة الإسرائيلية بالسماح لهم بمغادرة القطاع من أجل تلقي العلاج.
ويعتبر مسؤول العمليات في المرصد الأورومتوسطي أن ما يجري يندرج ضمن سياسة العقاب الجماعي التي ينتهجها الاحتلال الإسرائيلي منذ فرض الحصار عام 2006، وهي ليست فقط غير أخلاقية وإنما تخالف التزامات الاحتلال بموجب قواعد وبرتوكولات القانون الدولي الإنساني التي ألزمت قوة الاحتلال بتوفير العلاج والصحة.
ووفق الجرجاوي فإن هناك مجموعة من القواعد القانونية التي تكفل حق العلاج للمرضى تحت الاحتلال منها اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 والبروتوكول الملحق للاتفاقية لعام 1977، فقد كفلت هاتان الاتفاقيتان الحقوق الصحية للجرحى والمرضى.
ويشير المسؤول في المرصد الأورومتوسطي إلى أن الاحتلال لا يلتزم بأي من الدعوات الدولية أو حتى الاستجابة للضغوطات لتغيير سياساته التعسفية تجاه المدنيين.
الواقع الصحي في غزة
أما الفتاة القاصرة “سماح المدني” تنتظر منذ أعوام حصولها على موافقة إسرائيلية لاستكمال علاجها من مرض السرطان الذي أصيبت به عام 2014، في أي من مستشفيات الأراضي المحتلة أو في الضفة الغربية والأردن.
تعاني الفتاة من ورم صلب في الرأس والعين، ويمنعها الاحتلال من العلاج عبر عرقلة سفرها من معبر بيت حانون/إيرز من حين لآخر طيلة فترة مرضها، ما تسبب في انتشار المرض بصورة أكبر في جسدها، في الوقت الذي لا يوجد لها أي علاج في القطاع.
تقول والدتها لـ”نون بوست” إن حالة ابنتها التي لم تتجاوز 16 عامًا وصلت إلى مرحلة متدهورة تسببت في فقدان عينها نتيجة انتشار ورم صلب في جسدها وغياب العلاج وصعوبة السفر للعلاج على نفقتها الشخصية لارتفاع التكلفة التي تصل إلى 50 ألف دولار أمريكي.
ويعاني القطاع الذي يرزح تحت الحصار الإسرائيلي منذ عام 2006 من نقصٍ شديد في الأدوية الأساسية وصل إلى 40% فيما وصلت نسبة العجز إلى 32% على صعيد المستهلكات الطبية، إضافة للعجز الحاصل في لوازم المختبرات وبنوك الدم الذي يصل إلى 60%، وفقًا لوزارة الصحة.
يقول الناطق باسم وزارة الصحة في غزة أشرف القدرة: “التقارير الأممية وثقت 1922 مريضًا لم يتمكنوا من الوصول إلى المستشفيات التخصصية في الضفة والقدس والداخل الفلسطيني المحتل في الوقت المناسب جراء مماطلة الاحتلال الإسرائيلي وعدم إصدار تصاريح لهم”.
ويؤكد القدرة في حديثه لـ”نون بوست” أن من بين الحالات أطفالًا وكبار سن يعانون من أمراض خطيرة مثل السرطان والقلب وتشوهات الولادة، وهي تخصصات لا يوجد لها علاج في المستشفيات بغزة نتيجة للحصار.
سجلت على مدار الأعوام الماضية عشرات حالات الوفاة، التي كانت جميعها نتيجة الحصار الإسرائيلي سواء بطريقة مباشرة أم غير مباشرة
وبحسب الناطق باسم وزارة الصحة فإن الاحتلال يتبع سياسة جديدة في رفض منح التحويلات للأطفال أو كبار السن عبر المماطلة تحت مسمى “قيد الفحص” وهي عملية يتم إخضاع الطفل وعائلته فيها لمسح أمني وقد تستغرق أشهر دون رد.
وفي حالات أخرى سمح الاحتلال لها بالمرور سواء كانت من الأطفال أم كبار السن ولم يسمح بخروج مرافقين معها، وهو أمر مرهق نفسيًا للمرضى خاصة كبار السن والأطفال الذين يحتاجون مرافقين.
ووثقت وزارة الصحة وفاة حالة مرضية في أحد مستشفيات الضفة الغربية خلال العلاج دون وجود مرافق، حيث واجهت العائلة صعوبة بالغة في نقل جثمان المريض المتوفى إلى القطاع، ما يعكس السياسات الإسرائيلية العنصرية، وفقًا للقدرة.
وينوه الناطق باسم الصحة إلى أن 371 مريضًا غادروا قطاع غزة للعلاج دون مرافقين وهذا العدد هو الأعلى منذ أبريل/نيسان الماضي ومنهم من فقد حياته وحيدًا في ظروف غير إنسانية، عدا عن المضايقات والتحقيق من الاحتلال الإسرائيلي دون مراعاة ظروفهم الصحية القاسية.
ويعرقل الاحتلال إدخال 21 جهاز أشعة تشخيصية إلى مستشفيات قطاع غزة، فيما لا يزال يمنع إدخال قطع الغيار اللازمة لإصلاح 87 جهازًا طبيًا متعطلًا في المستشفيات، منها 12 جهاز أشعة.
وتعكس هذه الحالات والممارسات الإسرائيلية بحق المرضى حجم العقوبات المفروضة على القطاع المحاصر الذي لا تزيد مساحته على 365 كيلومترًا ويفتقد لأدنى مقومات الحياة الطبيعية مقارنة ببقية دول العالم، فضلًا عن غياب العلاج.
وسجلت على مدار الأعوام الماضية عشرات حالات الوفاة التي وثقت بعضًا منها المؤسسة الحقوقية ولم توثق عددًا آخر، كان جميعها نتيجة الحصار الإسرائيلي سواء بطريقة مباشرة أم غير مباشرة وكان الأطفال أحد القطاعات المتضررة.