أطفال حلب: بين اللهو والموت
“ماذا تفعل يا ماجد؟”… تأتي الإجابة بكل بساطة.. “أسقي أمي”، يجلب ماجد دلوًا أزرقًا كبيرًا بالكاد يحمله بجسده الضئيل ويلقي بما فيه من ماء على العشب الذابل ليأتيه سؤال آخر، “ولماذا تروي أمك؟”، تبدو الحيرة على ماجد وكأن السؤال أحمق، “لأن أمي ها هنا!” هكذا يجيب وهو يروي البُقعة المُحاطة ببعض الحجر، والتي تشير لقبر أمه، “يجب علي أن أرويه، يجب أن ينبت شيء ما هنا”.
توفيت والدة ماجد هذا الصيف، ولم يملك أي من عائلتها ما يكفي من مال لتشييد مكان يليق بدفنها، حين سألت ماجد عن سبب موتها، قال ببساطة: “قلبها” – مشيرًا لمرض بالقلب -، لعل هذا السؤال قد بدا غريبًا أيضًا، إذ إن أحدًا في حلب لا يسأل اليوم لماذا يموت الناس.
يعود ماجد إلى أصدقائه في ساحة اللعب، والتي تحتوي على ركام من الرمل وأرجوحة وزلاقة (للتزحلق إلى أسفل) ولوح أرجحة (سي سو)، وهي ربما الساحة الوحيدة الباقية في حي صلاح الدين بقلب حلب، يأتي حوالي 12-15 طفلاً هنا يوميًا من كافة أنحاء الحي، حيث يحاكي الصغار طقوس الطبخ جالبين معهم زجاجات بلاستيكية ليملأوها بالرمال، في حين يلعب الكبار لعبة الحرب.
على مسافة ليست ببعيدة يُسمع دوى طلقات الرصاص، وأحيانًا أصوات انفجارات كبيرة تهز المباني، ولكن ماجد وأصدقاءه لا ينتبهون لها لأنهم يعرفونها جيدًا، يقول عماد، البالغ 11 عامًا: “هذا صوت قذيفة، أما الدبابة فرنة صوتها أكثر حدة من ذلك”.
عادي!
لدى أطفال حلب آذان حساسة لمختلف أنواع الضوضاء التي تصاحب الموت في المدينة، خاصة أولئك الأطفال في ملعب صلاح الدين حيث يقع الشارع المجاور لهم في مرمى نيران قناصة نظام الأسد؛ وهو ما دفع البعض إلى تشييد حاجز عند تقاطع الشارعين بجانب الملعب وكأنه فاصل بين الحياة والموت، الشيء الوحيد الذي يعبر الحاجز أحيانًأ هو رائحة الموت والتي تظل عالقة في الجو لبعض الوقت.
إذا أردت البقاء حيًا في سوريا عليك اتباع قواعد غريبة، أبرزها أنه كلما كنت أقرب إلى مرمى النيران، كلما كانت فرص إصابتك جراء البراميل المتفجرة أقل، وهي البراميل المليئة بمتفجرات وكرات حديد يصل وزنها أحيانًا إلى طن، وتُلقي من ارتفاعات عالية مما يجعلها تنحرف مع الريح وتسقط بعيدًا بشكل عشوائي، عادة ما تتجنب مروحيات النظام إلقاء تلك البراميل حيثما تواجدت قوات للنظام على بعد لا يزيد عن مائة متر عن الثوار، وذلك لخطر إصابتهم جراء انحراف البراميل؛ لذا، يُعَد ملعب صلاح الدين آمنًا جدًا، إذ تفصله بضعة أمتار عن قناصة الأسد تحميه من البراميل وربما من غيرها من ذخائر ثقيلة مثل قصف الدبابات.
في النصف الشرقي من المدينة التي بلغ تعدادها يومًا مليونين، ينهمر الموت من السماء، حيث تضاعف عدد البراميل المتفجرة الملقاة منذ أكتوبر الماضي إذ يحاصر جيش النظام الثوار في حلب، بل ووصل لثلاثة أضعاف في مدن أخرى في شمال سوريا.
تبدو الأمور طبيعية في ملعب صلاح الدين، لتنافي المنطق في حلب، حيث يلعب الأطفال ويتأرجحون ويقولون عن الوضع ببساطة عادي (!)، أن يكونوا على مقربة من قناصة النظام: عادي! أن يلعبوا رغم اختفاء أو مقتل الكثير من إخوانهم وآبائهم وأولاد عمومتهم: عادي! أن يروا في تلك السن الموت بأم أعينهم مرات عديدة: عادي!
أحيانًا يختلسون النظر عبر الحاجز، ولكنهم لا يتركون الملعب أبدًا، “أمي تقول إنه ليس مسموحًا لنا بذلك”، يستطيع آباؤهم وأمهاتهم أن ينظروا إليهم بكل سهولة، لأن المبنى الذي كان يحجب عنهم رؤية الملعب سقط جرّاء القصف.
يقول ماجد وعماد إنهم لا يلعبون بالرمال كما اعتادوا، فتلك الرمال للأطفال الأصغر سنًا، أما هم فيلبعون لعبة الحرب: لعبة جيش الأسد والثوار، يقول أحمد، البالغ 13 عامًا، “نقاتل كما يقاتلون في الحقيقة، ونأخذ أسرى ونضع كمائن! إننا نلعب بكل عدل، من يضع الكمائن الأفضل يفوز في النهاية”، يقاتل الأطفال في حربهم الخاصة تلك بالعصي وقطع البلاستيك، في حين يملك أحدهم لعبة على شاكلة كلاشينكوف وكأنه حقيقي، الحرب هنا هي اللعب والجد في آن.
اللعب بالموت
غير أن المساحة المتاحة للعب تتضاءل أسبوعيًا، إذ إن تلك الساحة، واحدة من البُقع المفتوحة والخالية النادرة في حلب اليوم، تستخدم لدفن الموتى، عند مدخل الحديقة – أو ما كان حديقة مليئة بالشجر يومًا ما – يتم دفن الشهداء والثوار وأهل الحي، أما على الناحية الأخرى قرب الحائط الفاصل بين الحديقة وقناصة النظام، فيتم دفن قتلى جيش النظام والشبيحة – وهي الميليشيا التي ينحدر مقاتلوها من مجرمي المدينة -.
تحت الرمال التي يلهو فوقها الأطفال تقبع أجساد ثلاثة جهاديين فجروا أنفسهم في مطلع يناير الماضي بالقرب من الحديقة، أو ربما أربعة، كما يقول عماد، إذ تناثرت الأشلاء بشكل يصعب معه الجزم بعدد المقتولين، “قام الثوار بتغطيتهم بالرمال فقط”، لأن الثوار لا يحبون الجهاديين، كما يوضّح الأطفال، “كانوا يضربوننا ويزجون بنا في المساجد لنصلي، ولكننا أردنا اللعب”.
للمفارقة، لم تكن كومة الرمال تلك لتكون لولا أولئك الجهاديين، فحين بدأوا في التراجع أمام الثوار مطلع هذا العام، أثروا أن يفجروا أنفسهم على الانسحاب، ولأن أهل المدينة لم يستطعوا التعرف على أعضاء كل منهم وجمعها ليتم دفن كل جسد على حدة، وضعوا كل تلك الأشلاء مجمّعة تحت الرمال، بتزايد الرمال، أصبحت تلك الكومة التي يلعب عندها أطفال ساحة صلاح الدين!
“لا نروى سوى الشهداء!”، هكذا يقول الأطفال، وهو أمر مهم جدًا كما يكرر عماد، بينما يحمل ماجد دلوَه جيئة وذهابًا ليسقي أمه، كما يحمله كل طفل هنا ليروي أهله بشكل عام، على بعد خطوات ترقد ربما جثث لمن قتلوا أهاليهم، وتلك لا يروونها أبدًا، وعلى بعد خطوات أخرى، بعد الحاجز، يقبع قاتلون آخرون بحرية.
يحكي أحمد عن أخيه المفقود، ويقول إنه ذهب منذ عامين ليشتري الخبز من مكان بعيد حين توقف المخبز المحلي هنا عن العمل، ولم يعد إلى اليوم، ابن عمه هو الآخر فُقِد بينما أخذ يبحث عن مكان يحلق فيه رأسه، كان يمكن لأهل المفقودين أن يبحثوا عنهم في مركز المدينة، حيث تُعرَض صور لجثث مجهولة، ويقوم ضابط شرطة متقاعد بجمع متعلقاتهم وتدوين تاريخ وموقع الوصول إليهم علّ أحد يتعرف عليهم، ولكن الكثيرين لا يبحثون لأن البحث عن المفقودين يكلف مالاً وجهدًا في ظروف شديدة الفقر، بل وربما يكلّف الموت.
“ذهب أخي ولم يعد، هذه القصة التي أعرفها”، كذا قال عماد حين سألته ما إذا كان يعتقد أن أخاه سيعود يومًا، من الصعب الحديث في تلك الأمور هناك، لاسيما وأن الحصول على إجابة أمر ميئوس منه، الكثير من الآباء هنا أيضًا تم اعتقالهم أو أسرهم عند الكمائن، حسن، البالغ 5 أعوام، لا يريد تصديق أن أباه فُقِد، أو ربما مات، تكاد دموعه تنهمر حين يقول له أحد أصدقائه إن أباه بالفعل مات منذ فترة، يغضب حسن كثيرًا لسماع ذلك، ثم تظهر عليه علامات أسى، “أريد أن يعود أبي”.
عن جيوب الحياة المتبقية
بينما تأكل المدافن المساحة المتبقية للعب، يبدو أن أحد القاطنين هنا قام بزرع بعض الخضروات في جزء ثالث من الحديقة؛ وهو ما أغضب القيادات المحلية المحسوبة على الثورة، والتي كانت قد أعلنت أنها ستكون مدفنًا فقط، يقول بكري محسوم إنه يروي الحديقة منذ سنوات، وأن الكوسة والطماطم والبامية، والتي زرعها فوق بُقعة دُفِن فيها شخصان (!)، مملوكة لجميع أهل الحي.
تطلق طلقة هنا، وتهرول قطة هناك فوق بناية مدمرة بجانب حاجز الموت، بينما يحاول طفل انضم حديثًا أن يلحق بها، لحسن الحظ، لا يصيبه ضرر بعد أن عبر لثوانٍ إلى ساحات الموت ونجح في الإمساك بالقطة وإعادتها إلى بر الأمان، يصرخ راعي الحديقة من بعيد حين يرى هذا التعدّي الخطر.
يحكي أحمد عن سمير، أحد أصدقائه، والذي أُصيب بطلق ناري في ذراعه حين كان يساعد أباه في جذب جار لهما مُصاب من مرمى النيران، في السابق، كما يقول ماجد، كان يمكن لهما أن يتسكعا لشراء الأيس الكريم أو زيارة عائلاتهم يوم الجمعة، أما اليوم، فالحذر كُل الحذر.
لا يتكلم أحد هنا عن المدارس بالطبع، فهي شيء من الماضي، في بدايات الثورة كانت المدارس مستمرة رُغم القتال، كما يتذكر ماجد، “ولكن حين اشتد القصف وأصبحت الصواريخ حادثًا يوميًا، ظللنا ننتقل من مدرسة لأخرى، وأخيرًا إلى السراديب”، بمرور الوقت، لم يعد حضور الأطفال منتظمًا، إما لنزوح أهاليهم، أو لمقتلهم، أو لمجرد خوف آبائهم عليهم، يقول ماجد أنه يفتقد المدرسة كثيرًا، بيد أنه يفتقد نور وريم أكثر من أي شيء، وهما أختاه اللتان كانتا تعلماه القراءة والكتابة والإنجليزية، وترقدان اليوم أسفله هو وأصدقائه، حيث توجد قطعة رخام كُتِبت عليها أسماء من ماتوا من الأسرة جرّاء انفجار في الربيع الماضي.
هنا تنبت الكوسة من المدافن، ويُلعَب بالرمال فوق أشلاء مجهولة، ويفصل حائط بين الحياة والموت، يختصر ذلك الملعب الكثير عن حلب منذ طالها ما طالها: جنون مُغلَّف بوهم حياة طبيعية.
***
ماذا ستفعلون حين يمتلئ الملعب عن آخره بالموتى، أو إذا ما اضطررتم إلى ترك هذا المكان فرارًا من قوات الأسد؟
“سنلعب في مكان آخر”، هكذا يصرخ الأطفال في صوت واحد، بيد أنهم يجب أن يعودوا بين الحين والآخر، كما يؤكد ماجد، يهز الجميع رأسه بالموافقة، وكأنهم تذكروا لتوهم شيئًا قد تناسوه.
يقول ماجد: “يجب أن أعود لأروي أمي”.
المصدر: دير شبيغل