عاد ملف ترسيم الحدود البحرية بين لبنان و”إسرائيل” للأضواء مرة أخرى، في أعقاب الحديث عن زيارة جديدة للدبلوماسي الأمريكي آموس هوكشتاين، الوسيط في هذا الملف، وهي الزيارة التي يعوّل عليها الجانب الإسرائيلي في إتمام الاتفاق، الذي يعتبره الإسرائيليون خطوة مهمة نحو تعزيز مكانتهم على خارطة الطاقة الدولية.
اللافت أن تل أبيب استبقت الزيارة باتخاذ بعض الإجراءات والقرارات، التي سعت من خلالها للتعامل مع تلك المسألة كأمر واقع، ما يثقل كفّتها خلال عملية التفاوضات، حيث أعطت إشارة البدء لشركة التنقيب عن الغاز “إنريجيان” (شركة قبرصية يونانية مدرجة في البورصة الإسرائيلية) لضخّ النفط من حقل كاريش، الواقع في المنطقة المتنازع عليها (جنوب)، وذلك بدءًا من الشهر الجاري دون التنسيق والاتفاق مع الجانب اللبناني، وهي الخطوة التي ربما تحدث خلافات قوية، لا سيما من جانب حزب الله الذي هدّد بالتصدي لأي أنشطة في الحقل قبيل التوصُّل إلى اتفاق رسمي.
وتشكّل تلك المنطقة البحرية الغنية بالنفط والغاز المتنازع عليها بين لبنان و”إسرائيل”، والبالغ مساحتها 860 كيلومترًا، أحد أبرز الملفات الملحّة التي تفرض نفسها على ساحة الصراع العربي الإسرائيلي في الآونة الأخيرة، وتعود المفاوضات بشأنها إلى عام 2011 تقريبًا، واستمرت بوتيرة متأرجحة نسبيًّا دون الوصول إلى تقدُّم ملموس، حتى توقفت بشكل رسمي في مايو/ أيار 2020 بسبب الخلافات بين الطرفَين حول مساحة المنطقة المتنازع عليها.
تفاهمات.. بين التأكيد والنفي
في تقرير أوردته “القناة 12” الإسرائيلية، فإن هناك تفاهمات إيجابية أجراها الوسيط الأمريكي من خلال المباحثات التي عقدها مع الجانبَين، اللبناني والإسرائيلي، وأن زيارته غير المعلن موعدها تحديدًا تأتي في هذا السياق، في محاولة وضع الرتوش الأخيرة حول اتفاق الترسيم.
ذكرت القناة العبرية أن هناك تغيرات ملموسة في نصوص ومحتوى الاتفاق عن صيغته السابقة، إذ يتضمّن إعادة ترسيم الحدود من جديد، بحيث يكون هناك منصتان للتنقيب عن الغاز في المنطقة المتنازع عليها، واحدة في الجانب اللبناني والأخرى في الجانب الإسرائيلي، ويفصل بينهما 5 كيلومترات فقط.
سيجعل هذا التقسيم المنصة اللبنانية في المساحة التي تعتبرها تل أبيب ضمن نفوذها البحري، وعليه فإنه سيتمّ تعويض دولة الاحتلال اقتصاديًّا جرّاء هذا الأمر، بحسب الإعلام الإسرائيلي الذي أشار إلى أن قرب المنصتَين يأتي في إطار ما وصفه بـ”توازن الرعب”، الذي سيمنع مختلف الأطراف من مهاجمة المنصة الإسرائيلية.
ووفق ما تمَّ تسريبه، فإن الجانب الإسرائيلي سيرجئ التنقيب عن الغاز واستخراجه في تلك المنطقة حتى أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، بدلًا من الشهر الجاري، والذي حددته تل أبيب سابقًا كموعد لانطلاق عمليات التنقيب، وهو ما حدث بالفعل بإعطاء الشركة القبرصية اليونانية شارة البدء.
وعلى الجانب الآخر، نفى الجانب اللبناني على لسان نائب رئيس مجلس النواب (البرلمان)، إلياس بو صعب، ما نقلته “القناة 12” العبرية بشأن قرب إبرام الاتفاق بناء على التفاهمات التي تمَّ التوصل إليها، داعيًا إلى “عدم المبالغة بالإيجابية أو السلبية” بهذا الخصوص، كاشفًا في بيان له عن اتصالات أجراها مع الوسيط الأمريكي بخصوص هذا الملف، لكنها لم تتطرق بعد لأي مسائل تتعلق بقرب إبرام الاتفاق، مؤكدًا أن “كل هذه الأخبار هي من باب التكهنات وغير مبنية على أية معطيات أو مواقف رسمية”، مختتمًا بـ”علينا أن لا نبالغ بالإيجابية كما بالسلبية، كون اتصالاته لم تنتهِ بعد، ولا سيما أن لبنان يفاوض من موقع قوة محصّنًا بوحدة الموقف الرسمي”.
بين خطَّي 23 و29
تعود المفاوضات بشأن المناطق المتنازع عليها بين البلدَين إلى قبل 11 عامًا، حيث اتفق الطرفان على ضرورة ترسيم الحدود البحرية بينهما في ظل التوتر الحدودي المستمر، وإن كانت المفاوضات تستند في شرعيتها إلى اتفاقَي 1996 و1701 بين “إسرائيل” وحزب الله، تحت راية الأمم المتحدة، فالأول كان لإنهاء النزاع العسكري بين الجانبَين كأحد مخرجات الجهود الدبلوماسية، والثاني لوقف العمليات القتالية بين الجيشَين.
وخلال العشرية الأولى من المفاوضات تناوب على مسارها 4 موفدين أمريكيين، لم تسفر تلك الجهود عن أي تقدم ملموس، بسبب التوترات التي شهدتها المنطقة خلال تلك الأعوام وتداعيات الربيع العربي وتغيُّر خارطة التحالفات والقوى في الشرق الأوسط، خاصة هيكلة الصراع العربي الإسرائيلي وإعادة تموضع الكثير من أركانه وأدواته.
الاتفاق يمكّن “إسرائيل” من بيع غازها إلى أوروبا، المتعطشة للطاقة في ظل المأزق الذي تواجهه منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير/ شباط الماضي، هذا بجانب المكاسب السياسية المرجّح أن تحققها دولة الاحتلال إذا ما قدمت نفسها كمصدر غاز بديل منقذ للغرب، بما يعزز نفوذها وثقلها لدى أوروبا والولايات المتحدة.
ومع تولّي إدارة دونالد ترامب السلطة في الولايات المتحدة، عاد هذا الملف للأضواء مرة أخرى، حيث حاول الرئيس اليميني تحقيق أكبر قدر من المكاسب السياسية والاقتصادية من وراء إنهاء هذا الاتفاق، الذي انطلقت مفاوضاته الجديدة بعد أسابيع قليلة من توقيع الإمارات والبحرين اتفاق أبراهام التطبيعي مع دولة الاحتلال، إذ كان يسعى الرئيس الجمهوري عبر تلك الإنجازات السياسية تعزيز حظوظه الانتخابية في الماراثون الرئاسي، الذي خسر فيه أمام منافسه الديمقراطي جو بايدن.
وفي صباح يوم الأربعاء 14 أكتوبر/ تشرين الأول 2020، شهدت مدينة الناقورة الحدودية، حيث مقر قوة الأمم المتحدة في جنوب لبنان، لقاء جمع مندوبي لبنان و”إسرائيل” يتوسطهما ممثل للأمم المتحدة، وبحضور مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأدنى والسفير الأمريكي في بيروت، وذلك لبدء جولة جديدة من المفاوضات.
غير أن الجولة انتهت دون تحقيق إي إيجابيات بسبب الخارطة الجديدة التي تقدمت بها بيروت لتعزيز حقوقها المائية، والتمسك بثرواتها التي تسعى “إسرائيل” للسيطرة عليها، وهي الخارطة المعروفة باسم “الخط 29″، والتي تتضمّن طلب لبنان بالبحث في مساحة 1430 كيلومترًا مربعة إضافية تشمل أجزاء من حقل كاريش، بعدما كانت في السابق 860 كيلومترًا فقط التي كانت تعرَف بـ”الخط 23″، ما أدّى في النهاية إلى توقف المفاوضات حتى عادت لدائرة الاهتمام مرة أخرى مع دخول الوسيط الأمريكي الجديد على الخط، في ظل هذا الظرف الاستثنائي الذي يعاني فيه العالم لا سيما الغرب من أزمة طاقة خانقة.
المستفيدون من هذا الاتفاق
في مقال لها على موقع “الجزيرة نت”، عدّت الكاتبة الفلسطينية، منى العمري، 5 مستفيدين أساسيين من وراء اتفاق ترسيم الحدود اللبنانية الإسرائيلية إن تمَّ، يتصدّرهم بطبيعة الحال دولة الاحتلال كأكثر المستفيدين، فيما يتذيّلهم اللبنانيون المدفوعون بأوضاع اقتصادية قاتمة، بينما يتأرجح الباقون في المنطقة الدافئة من حيث الاستفادات المتوقعة.
الاتفاق يُمكّن “إسرائيل” من بيع غازها إلى أوروبا، المتعطشة للطاقة في ظل المأزق الذي تواجهه منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير/ شباط الماضي، ومن ثم إن المخزون المتوقع استخراجه من حقول تلك المنطقة سيزيد حتمًا من حجم الغاز الذي تصدّره تل أبيب لأوروبا، والذي يصل إلى نحو 340 مليار متر مكعب بحسب وزارة الطاقة الإسرائيلية، هذا بجانب المكاسب السياسية المرجّح أن تحققها دولة الاحتلال إذا ما قدمت نفسها كمصدر غاز بديل منقذ للغرب، بما يعزز نفوذها وثقلها لدى أوروبا والولايات المتحدة.
وعلى المسار ذاته تأتي الولايات المتحدة في صدارة الدول المستفيدة من هذا الاتفاق، وعليه أولته اهتمامًا كبيرًا، إذ عيّنت إدارة بايدن لهذا الملف تحديدًا وسيطًا خاصًّا، وهو ما لم يحدث مع العديد من الملفات الحيوية الأخرى، ما يعكس رغبتها في إتمامه في أسرع وقت لإنعاش السوق الأوروبي بالغاز، بما يساعد في تخفيف حدة آثار وقف الإمدادات الروسية، الأمر الذي يعطي الضوء الأخضر لأمريكا لمواصلة سياستها العقابية ضد موسكو لتقزيم نفوذها لدى الغرب، وهي السياسة التي لاقت انقسامًا في الرأي لدى العواصم الأوروبية التي تخشى التجمُّد في فصل الشتاء، بسبب وقف موسكو إمداداتها من الغاز الذي يلبّي 40% من احتياجات الأوروبيين.
ثم تأتي تركيا ضمن بورصة الرابحين من هذا الاتفاق الذي يخوّل موقعها الاستراتيجي تحقيقها للعديد من المكاسب، بشأن نفوذها في مجال الطاقة داخل القارة العجوز، فالأنابيب التي تمرّ عبر أراضيها ستكون الخيار الأول لنقل غاز خط “إيست ميد” إلى أوروبا، ومن المرجّح أن يقود التقارب الكبير مع تل أبيب إلى مزيد من التعاون في هذا المجال، بما يحقق العديد من المصالح المشتركة على المستوى السياسي والاقتصادي واللوجستي، الموقف كذلك مع الإمارات التي وضعت موطئ قدم لها في شرق المتوسط، من خلال الاتفاق الذي أبرمته شركة الاستثمار الإماراتية (مبادلة) مع الجانب الإسرائيلي، ويقضي بشرائها 22% من بئر تامار الإسرائيلي الواقع غرب شواطئ حيفا.
وفي ذيل قائمة المستفيدين يأتي طرف الاتفاق الأول، وصاحب الأرض والغاز، وهو لبنان، الذي يعاني من أزمة اقتصادية خانقة، ونقص واضح في إمدادات الوقود الذي يغذي محطات الكهرباء بما يهدّد بـ”عتمة” كاملة تعمّ أرجاء البلاد، هذا بخلاف حاجته الماسّة لعائد الغاز المتوقع استخراجه، بما يبقيه على قيد الحياة اقتصاديًّا وينتشله من عنق الزجاجة الحالي.
صعوبات وتحديات
رغم التفاؤل الذي يخيّم على الأجواء بشأن اقتراب إبرام الاتفاق، إلا أن هناك صعوبات وتحديات ربما تنسف المسار التفاوضي من جذوره، أبرزها ما يتعلق بسلاح حزب الله، وهي المعضلة التي ربما تقف حجر عثرة أمام استكمال الاتفاق، خاصة بعد الحديث عن شروط إسرائيلية أمريكية تتعلق بملف تسليح الحزب اللبناني.
الشروط المحتمل طرحها تنضوي على تجريد الحزب من سلاحه إلى حد ما، إذ إن التنقيب يحتاج إلى استقرار، “ولا يمكن تحقيق ذلك في ظل وجود سلاح من الممكن أن يزيد من وتيرة التهديد، لذا فمن وجهة النظر الأمريكية الإسرائيلية لا بدَّ من إبعاد السلاح”، حسبما نقل “نون بوست” في تقرير سابق عن المحلل السياسي منير الربيع.
تمسُّك الحزب اللبناني بترسانته التسليحية ربما يؤدي في النهاية إلى تسخين الأجواء، خاصة إذا ما شرعت “إسرائيل” في عملية التنقيب فعليًّا دون اتفاق، الأمر الذي قد ينجم عنه اشتباكات بين الطرفَين، ما قد ينذر بنشوب حرب.
هذا الشرط لا شكّ أنه سيكون محل رفض من قبل حزب الله، وفق ما ذهب الكاتب والمحلل السياسي المقرَّب من الحزب المدعوم إيرانيًّا، قاسم قصير، والذي أكّد أنه “طالما العدو ينفّذ اعتداءات، ستبقى هناك مقاومة وخيار مواجهة، أما ترسيم الحدود لا يتعارض مع الحق بالمقاومة”، لافتًا أن الحديث عن سلاح الحزب أمر سابق لأوانه.
وعليه إن تمسُّك الحزب اللبناني بترسانته التسليحية ربما يؤدي في النهاية إلى تسخين الأجواء، خاصة إذا ما شرعت “إسرائيل” في عملية التنقيب فعليًّا دون اتفاق، الأمر الذي قد ينجم عنه اشتباكات بين الطرفَين، ما قد ينذر بنشوب حرب كما ألمح وزير الأمن الإسرائيلي، بيني غانتس، لإذاعة 103 FM الإسرائيلية، الأسبوع الماضي، قائلًا: “نعم، يمكن أن يؤدي ذلك إلى رد فعل، ما يؤدي إلى عدة أيام من القتال وإلى حملة عسكرية، نحن أقوياء ومستعدون لهذا السيناريو، لكننا لا نريد ذلك”.
في ضوء ما سبق، يعوّل الجميع على زيارة آموس هوكشتاين المقبلة من أجل التوصُّل إلى حلول وسط تساعد على إبرام الاتفاق، مع تقديم الضمانات الكافية من قبل طرفَي النزاع، واحتمالية التواجد الأمريكي والأممي كمراقب لتلك الضمانات في ظل حاجة جميع الأطراف في الوقت الحالي لثروات تلك المنطقة الغنية، غير أن الأمور محكومة بحسابات إقليمية أخرى ربما تقلب الطاولة، أبرزها موقف حزب الله ومن خلفه إيران ومسار الاتفاق النووي وخارطة التوازنات الشرق أوسطية والدولية، فهل تنجح مهمة الوسيط الأمريكي هذه المرة؟