تعمل مختلف الأوساط السياسية والإعلامية في إسبانيا في الأيام الأخيرة على تقديم رسالة واحدة، مضمونها استعداد مدريد لمدّ يد الصلح مع الجزائر، وآخرها ما جاء على لسان المتسبّب في الأزمة بين البلدَين، رئيس الحكومة بيدرو سانشيز، الذي أعلن استعداده لزيارة الجزائر، فهل تنظيم هذه الزيارة يبدو ممكنًا حاليًّا، أم أن الصلح يتطلب أمورًا أخرى أكثر من مجرد تصريح إعلامي؟
وإذا كان استمرار الأزمة بين البلدين يتسبّب في خسائر للطرفَين اللذين تربطهما علاقة اقتصادية كبيرة، إلا أن الظروف الإقليمية والدولية الحالية تشير إلى أن مدريد ستكون المتضرر الأكبر، كون المسألة تتعلق بمدى قدرتها على ضمان تلبية حاجتها الطاقوية التي انحسرت مصادرها بفعل الحرب في أوكرانيا، وكذا بسبب ارتفاع أسعارها بعد أن قررت الجزائر مراجعة قيمة الغاز المصدَّر إلى إسبانيا، ليعادل الأسعار التي وافقت عليها إيطاليا وفرنسا.
تحرُّك
أعلن رئيس الحكومة الإسبانية، بيدرو سانشيز، خلال الندوة الصحفية التي عقدها هذا الأسبوع في برلين مع المستشار الألماني أولاف شولتز، لدى ردّه على سؤال حول الجزائر، استعداده للتنقل إلى الجزائر لحل الخلاف القائم بين البلدَين، بالقول: “أتمنى أن أكون أنا شخصيًّا الذي يذهب إلى الجزائر”.
ورئيس الحكومة الإسبانية هو سبب الأزمة الدبلوماسية مع الجزائر، التي اندلعت حين أعلنت حكومته في مارس/ آذار الماضي دعمها مقترح “الحكم الذاتي” الذي تريده المغرب لحل الأزمة في الصحراء الغربية المستعمرة السابقة لإسبانيا، وبسببه قررت الجزائر التي تدعم نضال جبهة البوليساريو من أجل تقرير الشعب الصحراوي لمصيره، “التعليق الفوري” لمعاهدة الصداقة وحسن الجوار والتعاون الموقعة بين البلدين في 8 أكتوبر/ تشرين الأول 2002 مع إسبانيا، والتي حددت أطر تطوير العلاقات بين البلدين.
ولا تعدّ هذه الخطوة الأولى الصادرة عن مدريد، فقد سبق هذا التصريح العلني تحركات دبلوماسية غير معلنة، إذ ذكرت قبل أسابيع صحيفة “أوكي دياريو” أن وفدًا من الحكومة الإسبانية سافر سرًّا إلى الجزائر، رغم أن العلاقات بين البلدين لا تزال معلقة.
وامتنعت الحكومة الإسبانية عن تأكيد الزيارة أو نفيها، غير أن تتبُّع مسار تحركات طائرة فالكون الرسمية، أظهرت أنها هبطت يوم الجمعة 12 أغسطس/ آب في الجزائر حوالي الساعة 1 ظهرًا، وبقيت في البلاد حتى بعد الساعة 6 مساء.
وقالت الصحيفة إن الزيارة تأتي بعد يوم من إظهار المستشار الألماني أولاف شولتس دعمه لبناء خط أنابيب غاز، لنقل الطاقة من البرتغال إلى شمال ووسط أوروبا عبر إسبانيا وفرنسا، والذي يراهن الاتحاد الأوروبي أن تكون الجزائر مموّنًا له، ما سيساهم في التخلي عن الحاجة لإمدادات الغاز الروسي.
ويظهر من تصريح سانشيز أن مدريد نقلت استراتيجيتها من التحرك الدبلوماسي السرّي إلى العلني، وهو الذي يوحي بأمرَين هما إما استعدادها الحقيقي لتطبيع العلاقات بين البلدين من جديد، وإما أنها تعمل من خلال ذلك على تشكيل ضغط إعلامي على الجزائر مع تزايد الضغوط الأوروبية والداخلية عليها، وإظهارها في صورة البلد المتعنّت، وذلك للتغطية على القرار الخاطئ التي اتخذته حكومة سانشيز، بالنظر إلى الظروف الاقتصادية والإقليمية التي تجعلها هي وأوروبا بحاجة إلى علاقة متينة مع الجزائر أكثر من أي وقت مضى.
حماسة فاترة
لم تعلق الجزائر حتى اليوم رسميًّا أو بطرق غير مباشرة على تصريحات سانشيز، وكأنها مصنَّفة في خانة “اللاحدث”، وهو ما يؤكد تشبّثها بموقفها السابق الرافض لأي استئناف للعمل بمعاهدة الصداقة وحسن الجوار، في حال ما لم تعد مدريد إلى موقفها السابق من قضية تقرير المصير في الصحراء الغربية الذي يتطلب عدم الانحياز لمقترح الرباط، والمساهمة في تمكين الأمم المتحدة من إجراء الاستفتاء في الصحراء الغربية، وهي المهمة المكلف بها مبعوثها إلى هناك ستيفان دي مستورا الذي ترفض المغرب استقباله بسبب حجج غير مقنعة.
ويرجع عدم تفاعل الطرف الجزائري مع تصريحات مدريد إلى عدم زوال أسباب الخلاف، وهو تخلي إسبانيا عن مسؤولياتها التاريخية بعد دعمها المغرب، الذي تعتبره الجزائر بلدًا “محتلًّا” للصحراء الغربية.
ويظهر هذا الرفض من خلال نفي السلطات الجزائرية في أكثر من مرة ما تردد حول استئناف العلاقات التجارية المتوقفة مع مدريد، وهو التأكيد الذي قد يكون وراء الزيارة السرية التي قام به وفد إسباني في 12 أغسطس/ آب الماضي.
ونهاية يوليو/ تموز الماضي، نفت وكالة الأنباء الجزائرية الرسمية ما أسمته بالادعاءات التي تتداولها حاليًّا بعض وسائل الإعلام، بشأن تراجع الجزائر عن تجميد علاقاتها التجارية مع إسبانيا، وقالت الوكالة الحكومية أن هذا الأمر “عارٍ من الصحة، لأنه لم تصدر أي أخبار رسمية بهذا الخصوص عن السلطات أو الهيئات المختصة”.
وذكرت الوكالة أن “القرارات المتعلقة بالمسائل المالية والتجارية الخاصة بالتزامات الدولة يتم اتخاذها على مستوى مجلس الوزراء، أو من قبل وزارة المالية أو بنك الجزائر، ويتم الإعلان عنها عبر القنوات الرسمية”، مبينة أن القرارات التي تخص القضايا المالية والاقتصادية، لا سيما تلك التي تخص علاقات الجزائر بشركائها التجاريين، تندرج ضمن الصلاحيات الحصرية للدولة، وليس من اختصاص المنظمات المهنية.
وأوضح بيان رسمي أن جمعية البنوك والمؤسسات المالية التي وردت في التقارير الإعلامية لبعض وسائل الإعلام، لا يمكنها أن تحل محل مؤسسات الدولة المكلفة بالمالية والاقتصاد والتجارة الخارجية، لأنها “مجرد جمعية ذات طابع مهني تدافع عن مصالح أعضائها”، وذلك بعد أن تردَّد أن جمعية البنوك الجزائريين ألغت قرار منع المستوردين الجزائريين من الاستيراد من إسبانيا.
استئناف العلاقات بالشكل السابق مع إسبانيا لن يكون على الأقل في الوقت الحالي في حال لم تعدل مدريد عن قرارها.
وقال الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، في أبريل/ نيسان الماضي، إن ما قامت به إسبانيا تجاه قضية الصحراء الغربية “غير مقبول أخلاقيًّا وتاريخيًّا“. وأضاف تبون: “على إسبانيا أن لا تنسى أن مسؤوليتها ما زالت قائمة في الصحراء الغربية، فهي تبقى القوة المديرة للإقليم في نظر القانون الدولي طالما لم يتم التوصل إلى حل، مهما كانت طبيعته، في قضية الصحراء الغربية، وهو ما تناسته مدريد”.
وأشار تبون إلى أن الجزائر “لها علاقات طيبة مع إسبانيا”، غير أن موقف رئيس الحكومة بيدرو سانشيز الأخير من القضية الصحراوية، “غيّر كل شيء”، وهو ما أدّى إلى استدعاء الجزائر لسفيرها بمدريد.
واتخذت الجزائر سياسة التدرُّج في غضبها من تقلب الموقف الإسباني تجاه قضية الصحراء الغربية، حيث بدأ موقفها باستدعاء السفير، لكن عدم تجاوب مدريد مع مواقفها جعلها تقرر تعليق العمل بمعاهدة الصداقة وحسن الجوار التي تنظم التعاون بين البلدين.
وتشارك الجزائر رفقة موريتانيا كبلدَين ملاحظَين في جولات التفاوض بين جبهة البوليساريو، باعتبارها الممثل الشرعي للصحراء الغربية، والمغرب، باعتباره بلدًا محتلًّا، لكن هذه المفاوضات متوقفة منذ مدة طويلة بسبب عجز المبعوثين الأممين في تقريب وجهات النظر، وبالخصوص بعد تطبيع الرباط العلاقات مع الاحتلال الإسرائيلي، الذي جعل الولايات المتحدة الأمريكية في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب تعلن دعمها للرؤية المغربية.
وبالنظر إلى أهمية الملف الصحراوي في أجندة الدبلوماسية الجزائرية، فإن استئناف العلاقات بالشكل السابق مع إسبانيا لن يكون على الأقل في الوقت الحالي، في حال لم تعدل مدريد عن قرارها حيث تجد نفسها في ورطة، فهي بحاجة إلى الجزائر لضمان حاجاتها الطاقوية، ومضطرة لإرضاء الرباط التي تهددها بتدفق المهاجرين السرّيين نحوها، في حال احتكمت مدريد للقرارات الدولية والتزمت بمسؤوليتها التاريخية.
انعكاسات اقتصادية
في مقابلته التلفزيونية التي أجراها الرئيس تبون في أبريل/ نيسان الماضي، أكّد أن الجزائر “لن تتخلى عن التزامها بتزويد إسبانيا بالغاز مهما كانت الظروف”، وهو الالتزام الذي تسير عليه حتى اليوم، غير أن ذلك أصبح يتطلب من مدريد دفع المزيد من الدولارات، حسب ما أكدت السلطات الجزائرية، ما جعل مدريد تخفض من اعتمادها على الغاز الجزائري الذي أظهرت الإحصاءات في الفترة الأخيرة أن كمياته تراجعت أمام الإمدادات القادمة من الولايات المتحدة الأمريكية، المستفيد الأول طاقويًّا من الحرب الأوكرانية، كما تراجع أيضًا أمام الإمدادات الروسية، وهو ما يخالف إجراءات الاتحاد الأوروبي الهادفة إلى البحث عن مموّن غازي جديد بعيدًا عن أنابيب موسكو.
وحسب صحيفة “ذي أوجكتيف” الإسبانية، فقد انخفض الغاز الجزائري المتوجه إلى إسبانيا بنسبة 42% في السدس الأول من العام الحالي، وفق أرقام لشركة “إنغاز” التي تدير شبكة الغاز الإسبانية، مبينة أن ورادتها من الغاز الروسي ارتفعت بنسبة 15%.
ولم تشترِ إسبانيا سوى 64 ألفًا و534 جيغاواط من الغاز الجزائري، أي 24% من حاجياتها مقارنة بـ 48.8% في العام الماضي، فيما رفعت واشنطن صادرات غازها إلى مدريد بحصة قدرها 32.9%، أي بما يقرب من 10 نقاط أكثر من الجزائر.
ومن المؤكد أن هذا التراجع في السوق الإسبانية لم يكن مدرجًا في تطلعات الجزائر على الإطلاق، إلا أنه يبقى غير مؤثر في الظرف الحالي الذي يتميز بارتفاع الطلب العالمي على الغاز بسبب الحرب في أوكرانيا، ما جعلها تعلن بعد اندلاع الأزمة مع مدريد بأيام عدم استبعاد “مراجعة حساب” سعر الغاز المصدّر إلى إسبانيا التي تعد ثاني زبون لها بعد إيطاليا.
وبعد أن اتفقت مع إيطاليا وفرنسا على رفع سعر الغاز المصدَّر إليها، أصبح رفع الأسعار في التعاقدات مع إسبانيا قرارًا ساريًا، فقد ذكرت وسائل إعلام إسبانية هذا الأسبوع أن المفاوضات جارية حاليًّا بين الشركة النفطية الحكومية سوناطراك ونظيرتها الإسبانية “ناتورجي”، لرفع لمراجعة أسعار الغاز المورد إلى مدريد، والمرتبط بعقد يمتدّ حتى عام 2030، لكن العقد ينص على أن تتوازى الأسعار مع مستجدات السوق.
في حال فشل المفاوضات التي انطلقت منذ 10 أشهر وعدم قبول “ناتورجي” بالأسعار الجديدة، فإن الطرف الجزائري لا يستبعد قطع الإمدادات عن مدريد.
ونقلت صحف إسبانية عن مسؤولين جزائريين، أنهم في وقت كانوا ينتظرون فيه ردًّا سريعًا من مدريد بشأن رفع أسعار الغاز، لاحظوا تباطؤًا في الاستجابة لهذا المطلب من طرف شركة الطاقة الإسبانية ناتورجي، على عكس ما كان في المفاوضات مع الفرنسيين والإيطاليين. ويقول المسؤولون في الشركة الإسبانية إن “المفاوضات لمراجعة الأسعار مستمرة وأن العلاقات مع سوناطراك جيدة، وكانت شريكًا موثوقًا به لنا منذ عقود”.
وتعمل “ناتورجي” على تأخير التوقيع على الأسعار الجديدة بهدف الحصول على أسعار أفضل، وخصوصًا مع ظهور المقترح الألماني المتعلق بإقامة أنبوب للغاز ينطلق من إسبانيا والبرتغال نحو وسط أوروبا مرورًا بفرنسا، وهو المشروع الذي تراهن عليه مدريد لأن يكون ارتباطها بالجزائر تحت قبعة أوروبية، ما سيجنبها أي تقليل في الحصص التي تحصل عليها أو زيادة في الأسعار، كون الجزائر هي المرشح الأبرز لأن تموّن هذا الأنبوب بسبب عوامل القرب وتوفر البنية الجاهزة لذلك، ممثلة في أنبوب “ميد غاز”، وإمكانية إعادة تشغيل أنبوب المغرب العربي المارّ عبر المغرب، رغم أن هذا الاحتمال يبقى مستبعدًا في ظل استمرار خلاف الجزائر مع الرباط، وتفضيلها أن تكون إيطاليا هي الموزع الرئيسي لغازها في القارة العجوز.
لكن، وبحسب ما نقلت صحيفة “كونفديسينال” الإسبانية عن مسؤولين جزائريين، فإنه في حال فشل المفاوضات التي انطلقت منذ 10 أشهر وعدم قبول ناتورجي بالأسعار الجديدة، فإن الطرف الجزائري لا يستبعد قطع الإمدادات عن مدريد، ما سيزيد من حدة الانتقاد الموجه لحكومة سانشيز المتهمة بالفشل في تسيير ملف الطاقة، وبالخصوص بعدما استطاعت إيطاليا أن تظفر بأهم الصفقات في هذا المجال، الأمر الذي يجعل الفترة القادمة حاسمة في مستقبل العلاقات بين البلدَين المتوسطيَّين.