لا يزال العراق يعيش وقع الأحداث الأخيرة والصدام الذي ارتقى لاستخدام السلاح بين الإطار والتيار في قلب المنطقة الخضراء المحصنة، مركز القرار السياسي العراقي.
يمثل الحدث الأخير إشارات كثيرة لما يمكن أن يكون عليه الحال مستقبلًا، وهو مؤشر أيضًا لطبيعة المشكلة التي يعاني منها العراق ومخارج النفق المظلم الذي يبدو أنه ليس إلا بوابة للعودة إلى المشكلة!
أصل المشكلة
باختصار، تكمن مشكلة العراق في مشكلة بناء الدولة نفسها عام 2003، بناء مبني على المحاصصة لا على منظومة المواطنة، زادت من ذلك الأحزاب التي لم يتصرف أي منها بعقلية الدولة في إدارة أي جهة حكومية كانت، فلم تكن الوزارات المتعاقبة إلا مصدر تمويل للأحزاب السياسية أو كسب ود مناصيرها عبر التعيين في القطاع العام الذي تجاوز عدد العاملين فيه 5 ملايين موظف!
منذ العام 2003، كانت هناك محاولات منفردة للإصلاح، حاول السنة تصحيح الأوضاع بقوة السلاح ما بين 2003-2007، قبل أن يتم اختطاف المسار من تنظيم القاعدة ليتطور إلى صدامات طاحنة أنهت سيطرتهم وأعادت السيطرة الحكومية على المناطق السنية التي كان الكثير منها عمليًا خارج سيطرة الحكومة.
مثلت أعوام 2008 -2014، فرصة ذهبية لبناء الدولة بناءً على المواطنة، لم تستتب الأوضاع أمام القوات الأمنية كما كانت في تلك الأحوال، رافق ذلك الميزانيات الانفجارية التي تخطت حاجز الـ100 مليار دولار بسبب ارتفاع أسعار النفط.
بدلًا من ذلك، استحكمت عقلية الإقصاء والانتقام والمحاصصة، ذات المبادئ الذي قامت عليها الدولة العراقية عقب الاحتلال، وهو ما أفضى في النهاية إلى احتجاجات سنية بدأت بالاعتصامات، وتطورت إلى صراع مسلح عاد داعش لاختطافه مجددًا كما حصل في الأعوام الأولى بعد الاحتلال، ليقود البلد إلى دمار مهول خلال سنوات الحرب على تنظيم داعش، قبل أن ينتهي بالقضاء على التنظيم، بعد دفع ضريبة كبيرة في الأرواح والأموال، ولعل أحدها كان خروج السنة من المعادلة تمامًا، بعد الدمار الذي لحق دينهم ومجتمعهم.
بعد الحرب على داعش، ظهر التيار المدني الشيعي في تشرين عام 2019، كان واضحًا أن شريحة كبيرة من الشباب الشيعي في الجنوب، ملت من الأوضاع والحروب التي أغرقت مدنها بالدماء، وملأت خزائن لوردات الحرب بالأموال.
ماذا حصل بعدها؟ السيناريو ذاته أعاد نفسه! التهم ذاتها والإقصاء والقتل الممزوج بنكهة طغيان إعلامي!
شهور طويلة من القمع واستخدام الذخيرة الحية كان نتاجها أكثر من 1000 قتيل و30 ألف جريح، بينما تقول الحكومة إن القتلة يتبعون لطرف ثالث يمارس القتل أمام أعين مليون مقاتل من الجيش والشرطة الاتحادية وجهاز مكافحة الإرهاب!
ومرة أخرى، كان الحل بتشكيل حكومة تخدير على نفس الطريقة القديمة: واجهة للأحزاب دون قدرة أو رغبة في بناء دولة المواطنة والقانون.
قد يكون من المناسب الإشارة إلى أن هذا ليس التحرك الأول للصدر، ولا الاقتحام الأول الذي ينفذه أتباع الصدر لمجلس النواب، قد يكون هذا الأول الذي يرقى في الصراع لاستخدام السلاح، لكنه بالتأكيد ليس التحرك الأول
التيار الصدري يدخل على الخط
للتوضيح، كان التيار الصدري ولا يزال رائدًا في بناء الحكومة منذ تأسيسها عام 2003، فقد تبوأت قيادات التيار مناصب سيادية كنائب رئيس الوزراء والبرلمان، كما كان لهم – ولا تزال – حصة كبيرة من الوزارات الرئيسة كوزارة الصحة التي ظلت حكرًا على التيار رغم تغير الحكومات المتعاقبة.
كان التيار جزءًا من منظومة الفساد ذاتها، لكن الحديث عن الفساد والإشارة المباشرة إلى أصحابه يكاد يكون مستحيلًا في العراق مع سيطرة مافيات الأحزاب المسلحة فيه – خاصة التيار الصدري الذي يملك 2 من أكبر المليشيات -، ثم حصل في العام 2017 أن 200 من قدامى المحاربين وعائلات الجنود الأمريكيين الذين أصيبوا أو قتلوا في العراق رفعوا دعوى قضائية تتهم خمس شركات أدوية أمريكية كبرى بالتعامل مع ميليشيات عراقية مصنفة على اللائحة الأمريكية للإرهاب، وتشير الدعوى القضائية إلى أن شركات الأدوية الأمريكية أبرمت عقودًا مع وزارة الصحة العراقية بمئات ملايين الدولارات، ودفعت أيضًا عمولات ورشاوى لأتباع رجل الدين العراقي مقتدى الصدر من أجل الحصول على تلك العقود.
وفي هذا السياق، يقول المحامي راين سباراسينو إن الدفاع قدم للمحكمة وثائق عن العمولات التي كانت تقدم على شكل رشاوى نقدية من أجل الفوز بعقود في وزارة الصحة عندما كان يسيطر عليها الإرهابيون، وأظهر الدفاع للمحكمة جميع المعاملات التي تثبت حقيقة تلك الصفقات، التي نُظمت بطريقة تجعل من السهل على الإرهابيين تحويل وإعادة بيع الأدوية التي يحصلون عليها في السوق السوداء المزدهرة في العراق، وهذا بالطبع غيض من فيض من مشاركة التيار الصدري في منظومة الفساد والإقصاء، وبالتالى فمحاولة الصدريين تعديل الأوضاع محكومة بالفشل مسبقًا.
لماذا سيفشل الصدر؟
بعيدًا عن مشاركة التيار في الحكم، هناك أسباب أخرى ترجح فشله في إحراز أي تغيير يمكن تلخيصها بالآتي:
-
اللاعب الدولي مشغول بالحرب الروسية في أوكرانيا والتضخم الحاصل نتيجة ارتفاع أسعار الطاقة، فلا يشكل الملف العراقي أولوية على الصعيد الدولي، وأي تغيير حقيقي لن يحصل دون موافقة القوى الدولية الرئيسية الفاعلة في الملف العراقي.
-
التيار نفسه لا يملك تصورًا عن شكل التغيير ولا يمكنه فعله بنفسه، فالتيار ليس مستعدًا أن يتحول إلى مجرد قوة مدنية تخضع للقانون وتحرم نفسها من مكاسب الموازنة التي تتقاسمها الأحزاب من الوزارات، والأهم من ذلك، لا يملك التيار الاستمرارية والمضي قدمًا في أي مواجهة، خاصة عند وضعه في زاوية يتحمل فيها وزر تعطيل المصالح العامة، كما حصل في الاشتباكات الأخيرة والاعتصام أمام مجلس القضاء الأعلى، أو كما حصل من قبل في عملية صولة الفرسان التي قاتل فيها أتباع التيار قليلًا، قبل تسليم أسلحتهم وإنهاء القتال.
-
ليس بعيدًا عن السبب السابق، ينطلق التيار في شعار التغيير من خارج إطار الدولة، من تحركات الشارع أو التلويح بقواته، لا من خلال الأطر الدستورية المعروفة، التي احتل الصدر فيها مركز الصدارة في الانتخاب بأكثر من 70 نائبًا، أضاعها الصدر بالعودة إلى الاحتجاج السلمي.
-
يمكن فهم حقيقة الصراع، من خلال فهم محاولات الصدر تصدر التيار الديني الشيعي في العراق، فالأحداث الأخيرة تفجرت بشكل كبير بعد تصريحات المرجع الحائري الذي يفترض أن الصدر يقلده.
قد يكون من المناسب الإشارة إلى أن هذا ليس التحرك الأول للصدر، ولا الاقتحام الأول الذي ينفذه أتباع الصدر لمجلس النواب، قد يكون هذا الأول الذي يرقى في الصراع لاستخدام السلاح، لكنه بالتأكيد ليس التحرك الأول، وكل التحركات السابقة كانت لإحداث تغيير محدود يثبت حقيقة أن التيار الصدري هو الطرف الأقوى والأكثر تأثيرًا على الساحة.
-
ليس صحيحًا أن الاشتباكات الأخيرة كانت تغييرًا بقوة السلاح، ومن غير المرجح أن يكون أساس تحركات مقاتليه مبنيًا على أوامر من الصدر، فالمواجهات كانت منحصرة في المنطقة الخضراء فقط، وكانت ضمن منطقة محدودة فيها ولم تكن بالتأكيد مواجهة شاملة مع القوى التي تسيطر على الحكومة.
-
صحيح أن التيار الصدري هو الأكثر شعبية وجماهيرية، لكن بعيدًا عن جماهيره المؤدلجة، لا يحظى التيار بتأييد الشريحة الكبرى من الشعب التي اختارت التفرج على مستقبل هذا الصراع دون المشاركة فيه، فالمشاركون في تشرين ما زالوا يتذكرون حقيقة أن أتباع التيار انقلبوا عليهم في أثناء المظاهرات، بالضبط لذات السبب الأول: الصدر لا غيره، من يجب أن يكون محور التغيير.
-
إن أي عملية تغيير لن تتم دون مواجهة شاملة مع إيران ومن يساندها في داخل العراق، فليس صحيحًا أن القوى السياسية الموجودة هنا معزولة شعبيًا تمامًا. هناك الكثير من الشرائح الاجتماعية المستفيدة من الأوضاع الحاليّة، وتعتقد اعتقادًا جازمًا بضرورة تبعية العراق لإيران، وإحداث تغيير شامل يعني مواجهة مباشرة مع هذه الشريحة، وهي ليست قليلة على أي حال.
على حافة البركان
رغم ما سبق، تشير كل الدلائل إلى حقيقة الصدام الحتمي بين الإطار والتيار، مع غياب قوة الدولة التي تحكم الأوضاع، ومحاولة كل طرف تصدر المشهد الشيعي أولًا والمشهد العام في العراق ثانيًا. صدام قد لا يفضي بالضرورة إلى تغيير حقيقي، فكلا الطرفين كانا وما زالا جزءًا من المشكلة، ولن يكون الصدام إلا ورقة جديدة في المنافسة السياسية والدينية الحاصلة في البلاد اليوم.
إن ما يحتاجه العراق بالفعل، عقد اجتماعي جديد وإرادة لبناء دولة مبنية على المواطنة والعدالة الاجتماعية وسواسية الناس أمام القانون، وتغيير لا يبدو أنه يلوح قريبًا في الأفق، ولا يبدو أن الثمن المدفوع فيه سيكون بسيطًا، فهو يعني مواجهة شاملة يحارب فيها الشعب بقوة لدفع قيادات حقيقية تستغل العزم الشعبي وخلق واقع جديد.. فهل العراق مستعد لهذا التغيير؟ وهل هناك شخصية يتفق عليها الجميع؟