تمنح المهن الإبداعية صانعيها الكثير من المميزات، أهمها حرية استكشاف المواضيع ورصدها، فانعتاق الصانع من هيمنة القالب المحدد والنموذج المثالي يفتح مجالًا هائلًا للتجربة المادية والروحية، بحيث توفر لنا رؤية مختلفة ومنظورًا متفردًا للتعاطي مع موضوعات وثيمات ربما لا تتصل بواقعنا المعاش بشكل مباشر، على الأقل في وقتنا الحاليّ.
بيد أن الصانع في السينما مثلًا يرنو بنظره نحو الوجود في زاوية غامضة، لا يحتكم خلالها بالواقع بقدر ما يلجأ للمخيال والنبوءة، وهذا ما يخلق تفردًا إبداعيًا، لأنه يختبر حدودًا خارجة عن المألوف، منبتها الواقع، ومنتهاها الخيال، لكنها تبقى تجربة ذات خصوصية إذا نظرنا لها في حيز التجربة الاجتماعية.
فالروبوتات مثلًا أضحت واقعًا، لكنها لم تصل إلى مساحة العلاقات الاجتماعية إلا في السينما والأدب، رغم وجود أمثلة لها خصوصيتها مثل الروبوتات الجنسية والروبوتات التي تتسم بقدرات عالية على التواصل اللغوي والسلوكي، لكن لم يتم اختبارها في حيز المجتمع في معناه الأشمل، لذا لا يمكن تعميم نتائجها، إلا أن فيلم المخرج الأمريكي كوجونادا يختبر هذه الكيانات، ليس كأدوات وآلات مجردة، بل كأرواح لها وجود مستقل، سواء تطوريًا أم اجتماعيًا، في فيلمه “ما بعد يانغ” (After Yang) يتعاطى المجتمع مع الروبوتات كجزء حقيقي من الحياة الاجتماعية، حتى لو لم تترقى هذه العلاقة إلى درجة تعامل إنسان مع الآخر.
يدور فيلم “ما بعد يانغ” في مستقبلٍ غير محدد المعالم الزمانية، حول عائلة مكونة من أربعة أفراد: الوالد جيك (الممثل كولين فيرل) يعمل في بيع الشاي بأصنافه وتقليعاته وتحويجاته التي تناسب الزمن المستقبلي، تجارته لا تسير بشكلٍ جيد، يشعر بالاغتراب ولا يقضي الكثير مع الوقت مع ابنته ميكا (الممثلة ماليا إيما تجاندرافيدجاجا) التي نعرف بعدها أن جيك وزوجته كيرا (الممثلة جودي تيرنر-سميث) قد تبنياها.
لكن نمط الحياة في هذا العالم لا يسمح بالتفرغ الكافي لرعاية الأبناء، فيلجأ أغلب قاطني هذا العالم مجهول الهوية إلى شراء الروبوتات لرعاية أبنائهم وإنمائهم ثقافيًا واجتماعيًا، خصوصًا أن الروبوتات لا تختلف عن الإنسان من حيث الشكل والصفات الاجتماعية، أي أنها كيانات تقع بين الآلية والإنسانية، تحمل صفات الآلة التي ستظهر في عمر الآلة الأقصر وميكنتها، وفي الوقت ذاته تحتوي على صفات إنسانية شديدة التعقيد، صفات اجتماعية تخلق هوية حقيقية كاملة لهذا الكيان، بحيث إذا رآه طفل أو تعامل معه صبي أو حتى رجل ناضج لم يلحظ الفرق، بيد أن الملاك يعرفون ويتعاملون مع هذه الكيانات كأنصاف بشرية.
في عالم يسوده السلام والهدوء مثل هذا العالم، يحظى الروبوت الإنساني بالتكريم وتعد الدراسات من أجل استكشافه، لكن اليقين المعرفي بأن هذا الكيان له حدود لا يمكن أن يتخطاها يخلف أثرًا داخل البشر بحيث يوقنون بأن هذا الكيان لا يرقى إلى المرتبة الإنسانية حتى لو ثبت عكس ذلك.
تبدأ أحداث الفيلم حين يتوقف الروبوت الخاص بالعائلة يانغ (الممثل جاستن هونغ كي مين) الذي يعتبر بمثابة الابن في العائلة، ويبدأ بالتحلل التقني، حيث يرقد في ثباتٍ نهائي ولا يمكن بعثه مرة أخرى، يواجه الأب مشكلة كبيرة لأن ابنته متعلقة تعلقًا شديدًا بيانغ، لأنه بالنسبة لها لا يرمز للذكاء الاصطناعي الذي توظفه الشركات لإراحة البشر وإكسابهم رفاهية أكثر، بل يمثل أخًا حقيقيًا، كيان مستقل استلهمت منه كل صفاتها، خصوصًا أنها من أصل آسيوي، ويانغ كان مصممًا ليندمج مع هذا النوع من الأشخاص، فهو محمل بكم هائل من المعلومات عن الصين.
لذا يحاول الأب إعادته مرة أخرى للعمل، ليس لابنته فقط، بل لأنه يشغل مساحة هائلة في حياة الزوجين، عمليًا واجتماعيًا وحتى روحيًا، فيتجه لشركة المنشأ فيجدها قد أغلقت، فيحاول إصلاحه، لكن تخبره الشركة بأنه خارج الخدمة ولا يمكن إصلاحه، بل يمكن استبدال أجزاء معينة فقط لن تعيده في الحياة أو استبداله هو شخصيًا بإصدار جديد محدث وأفضل على عدة مستويات، لكن الأمر لا يتعلق بالكيان المادي على قدر ما يتعلق بالهوية والشخصية التي أثرت في الابنة الصغيرة وكونت روابط شديدة بين الاثنين.
لا يستسلم جيك لهذه الأمور، يذهب إلى ورشة رجل يعمل في تصليح الروبوتات، فيستخرج من يانغ شريحة صغيرة، ويخبره أن الشركات تتجسس عليه، وعليه أن يفتح هذه الشريحة ويرى ما بداخلها من معلومات، ويقترح عليه شخصًا يعمل داخل منظومة أو متحف للروبوتات.
ينتهي به الأمر عند باحثة متخصصة فيما يسمى تيكنو سابيان Techno Sapians وهو الفرع التطوري الجديد الذي امتد من الإنسان بشكله السائد إلى الروبوتات، أي أن الفيلم يقترح بشكل غير مباشر أن الروبوتات هي الخطوة القادمة في السلم التطوري، ويفرض مجالًا للبحث خلف هذه الروبوتات، وهو موضوع شائك في محاوره الأخلاقية والفلسفية والاجتماعية، لكننا لم نصل في وقتنا هذا إلى رصد التطور البيولوجي للآلة.
تخبره الباحثة أن بعض الروبوتات تخلق ذاكرة لأنفسها، ليست الذاكرة بمعناها المرتبط بالميكنة مثل كروت التخزين وتسجيل الصور بشكل آلي، بل تكوين ذاكرة بانتقاء عدة ثوانٍ من اليوم، وتخزينها في ذاكرة معقدة أشبه بذاكرة الإنسان، لكنها أقل كفاءة وحدودًا عن الإنسان، لكن هذه الذكريات تجعل الحد الفاصل بين الروبوتات والجنس البشري ملتبسًا أكثر، ضبابي دون إشارات أو ملامح.
فالروبوت يخزن ثواني يومية بمحض إرادته، ينتقيها بعناية من اليومي، والقدرة على الاختيار تتطلب قدرات هائلة، لذلك عندما يفتح جيك الشريحة الإلكترونية، يفاجأ بحيوات مختلفة داخل ذاكرة واحدة، الامر أشبه بفتح بطن التاريخ، الكثير من المعلومات والإشارات البصرية المبتورة، يكتشف جيك من خلالها العالم الواسع والمنفتح والقدرات الإنسانية الهائلة والعاقلة ليانغ الذي يتشارك العالم نفسه مع جيك، لكنه في الحقيقة لا يعرفه.
إشكالية الروبوتات تجاوزت نقطة العبودية والإرادة المحددة مسبقًا في هذا العالم، يبدو هذا غريبًا بعض الشيء، لكن العالم يبدو طوباويًا جدًا من حيث الشكل، فعندما ولج جيك إلى ذكريات يانغ، وجد ذكريات عائلته السابقة، واندهش لمعرفة أنه تجاوز الحيز العاطفي البرمجي وانجذب إلى روبوت آخر، فتاة تعمل في مطعم، وكانا يتقابلان بشكل دوري ويذهبان للحفلات ويعيشان حياة مستقلة بمعزل عن حياة الأسرة، ومن خلال ذكريات يانغ، يتعرف جيك على نفسه مجددًا، علاقته الفاترة بزوجته، ولعه بالشاي ليس كمنتَج تجاري بل ككيان تاريخي وثقافي ومادي، وأحاديثه مع يانغ التي عندما يعيد مشاهدتها تفتح له مجالًا آخر ورؤية مختلفة عن الحياة.
خلال رحلة استكشاف جيك لحياة يانغ، نشعر أن يانغ تجاوز العادات اليومية، تجاوز المهام المنوط بها والمبرمج لتأديتها، وتسرب داخل المنظومة الاجتماعية بشكل يمنحه حضورًا مستقلًا حتى لو خارج دائرة العمل والعائلة، العلاقة بين يانغ وميكا تضفي طبقات من المشاعر المعقدة، تجعلنا نطرح أسئلة عن ماهية العلاقة بين هذه الكيانات الإلكترونية ذات الذكاء الاصطناعي والمجتمع، لأن التفاعلات الاجتماعية ذاتها غير متكافئة.
المدخلات والمخرجات والحواس لا تحكم هذه العلاقة بشكل كامل، فالتكنولوجيا طورت القدرات الروبوتية لتحل محل البشرية، لكن أقصد المهارات الاجتماعية التي تتطور مع النمو والاحتكاك، لأننا تخطينا النقطة اللغوية والسلوك الذكي، حين نتكلم عن عدم التكافؤ فالمهارات المعنية هي مهارات التواصل الإنساني، الروحي، الوجودي، يرصد المخرِج شكل مستحدث للحياة، نحتاج إلى نسج مفاهيم جديدة لدراسة هذا النوع من العلاقات، فهو ليس آلة ولا كائن حي، ولا يمكن أن نضعه في الخانتين، لكنه يقوم بالاثنين، الآلة والإنسان، وعلى الرغم من ذلك لا تتعرض له الحكاية كخطر على الكون أو كسلاح خطير يمكن أن يأخذ مكان البشر مستقبلًا، لقد أخذه بالفعل ولكن ما زالت هناك نقطة فاصلة بين الاثنين تعرف كل واحد فيهم وتضع منهجيته.
فشخصية إدا (الممثلة هالى لو ريتشاردسون) تمثل النموذج المستقل بذاته، حين يسألها جيك عما إذا تمنى يانغ أن يكون إنسانًا قبل أن يتعطل، فردت “ما هو الشيء العظيم بشأن كونك إنسانًا” أي أنها لا تود أن تحل محل البشر، لكن ماهية هذا الكائن تفرض نفسها على المجتمع، ككيان مستقل له مشاعر ورغبات بأشكال مختلفة عن الإنسان.
هناك عدة أشياء تبدو غير منطقية وساذجة، بجانب أن سرد الفيلم مفتوح إلى حد كبير، لا يلتزم بإطار معين للحكي، صحيح أننا نخوض تجربة ممتعة وروحية حتى لو بطيئة بعض الشيء، لكنها في النهاية لا تحكي شيئًا عن الخلفية الثقافية والحضارية والزمانية للمكان، حتى المشاهِد ذاتها في بعض الأحيان تبدو مبتورة ولا تكمل سابقتها، لكن الشيء الجيد هو بناء الممثل كولين فيرل للعاطفة بشكل ممتاز، ومنحه عمقًا للشخصية بطريقة تجعلها أكثر هشاشة وصدقًا.
الفيلم يحاول التعاطي مع موضوع شائك، ربما يتماس مع أخلاق الروبوتس Roboethics، لكن السردية ذاتها مختصرة رغم انفتاحها، بحيث لا نرى إلا محاولة كشف الأب لماهية يانغ، محاولة الاقتراب اقتصرت على يانغ وجيك، وهمشت جميع الشخصيات الأخرى لهذا انخفض الإيقاع، حتى عندما قرر وضع يانغ في المتحف ليستفيد من دراسته الباحثون، لم نعرف هل سيعيش دون روبوت جديد، وهل ستتقبل ابنته ذلك، النهاية مفتوحة جميلة وذكية، لكن سرد الأحداث لم يأخذ المجهود الكافي، وكان في حاجة إلى تفريعات درامية أكبر وأكثر تفاعلًا، لكنه يبقى فيلمًا جميلًا.
الفيلم مقتبس عن قصة “نقول وداعًا ليانغ” (Saying Goodbye to Yang) المنشورة ضمن مجموعة قصصية تدعى “أطفال العالم الجديد” للكاتب ألكسندر وينشتاين.