يومًا بعد آخر تتصاعد حدة الأزمة بين زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر والإطار التنسيقي والفصائل المسلحة المنضوية تحته، فرغم أن الصدر أمر أتباعه بفض اعتصامهم في المنطقة الخضراء على خلفية أعمال عنف مسلح وقعت مطلع الأسبوع الحاليّ، فإن الخطابات التصعيدية من قيادات الإطار وعلى رأسهم رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي استمرت، ما أدى إلى عودة لهجة التصعيد مرة أخرى بين الطرفين واندلاع مناوشات مسلحة بين عناصر تابعة لسرايا السلام “الجناح العسكري للتيار الصدري” و”عصائب أهل الحق” التي تتبع قيس الخزعلي، ليلة الأربعاء في محافظة البصرة، سقط على إثرها قتلى وجرحى بين الجانبين.
في خضم هذه الأحداث، أصدر وزير الصدر صالح محمد العراقي، صباح الخميس، بيانًا عبر حسابه بتويتر مطالبًا الخزعلي بالتبرؤ من المليشيا “الوقحة” التي تتبع له، والاعتذار عما حصل في البصرة، وإلا فإنه هو الآخر يعتبر “وقحًا” من وجهة نظر التيار، ليرد عليه الخزعلي ويطالب أنصاره بغلق المكاتب التابعة للعصائب في محافظة البصرة، ودعا إلى التهدئة وعدم التصعيد مع “الآخر”.
طالب وزير الصدر بحل الفصائل المسلحة وإخراجها من المنطقة الخضراء وإنهاء وجودها على السيطرات الرئيسية والمنافذ الحدودية، معتبرًا أن بقاءهم يهدد حياة القائد العام أكثر من غيره
ولم يكتف وزير الصدر بذلك، بل أصدر بيانًا آخر على موقعه، مطالبًا القائد العام للقوات المسلحة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، بتغيير رئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض، معتبرًا أنه شخصية متحزبة وغير قوية ولا تمتلك ذهنية عسكرية.
إلى جانب ذلك طالب وزير الصدر بحل الفصائل المسلحة وإخراجها من المنطقة الخضراء وإنهاء وجودها على السيطرات الرئيسية والمنافذ الحدودية، معتبرًا أن بقاءهم يهدد حياة القائد العام أكثر من غيره، المتغير المهم في كل ذلك أن الصدر بدا كأنه مصمم على المضي بمشروعه السياسي مهما كلف الأمر ومهما كانت الخطوط الحمراء التي تقف أمامه، وقد تكون خطوة إرسال المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني لوفد يمثله إلى مجلس عزاء أقامه التيار الصدري على أرواح عناصره الذين سقطوا خلال المواجهات المسلحة التي حدثت هذا الأسبوع في المنطقة الخضراء، بمثابة دعم معنوي له بالضد من قوى الإطار التنسيقي.
دعوة وزير الصدر ودوافعها
مما لا يخفى على أحد أن أسباب الخلاف بين الصدر وقيادات الفصائل المسلحة الموالية لإيران قديمة وعديدة، منها ما يتعلق بانشقاق أغلبها عن “جيش المهدي” سابقًا، وانتزاع مركزية العمل المسلح من يد الصدر، ومنها ما يتعلق بتزايد نفوذها وتأثيرها على حسب نفوذ وتأثير الصدر، وبالحديث عن دعوة وزير الصدر الأخيرة، هناك العديد من الأسباب والدوافع التي تقف خلفها.
محاولة الصدر سحب شرعية مسمى (الحشد الشعبي) عن الفصائل المسلحة الموالية لإيران، لأن احتفاظ الفصائل بهذه الشرعية، مكنها من تحقيق نفوذ سياسي وأمني واقتصادي كبير
فهذه الدعوة تأتي مترافقة مع حالة الصراع السياسي بين الصدر وقوى الإطار، وإدراك الصدر بأن أي حكومة مقبلة قد لا تنجح في تنفيذ برنامجها الحكومي في ظل استمرار احتفاظ الفصائل المسلحة بسلاحها، وتحديها المستمر لسلطة الدولة، إلى جانب سعي الصدر إلى خلق صراع داخل الإطار التنسيقي عبر دفعهم للحديث عن مستقبل سلاحهم، أكثر من الحديث عن مستقبل دورهم في العملية السياسية، ومن هنا ستكون إعادة هيكلة الحشد الشعبي التي تحدث عنها وزير الصدر في بيانه، خطوةً باتجاه إضعاف التيار الولائي الذي يسيطر على هيكلية الحشد ودوره في الداخل العراقي.
كما أن دعوة وزير الصدر تأتي كمحاولة لإحراج الفصائل المسلحة والتمييز بين الفصائل التي تؤمن بتقوية الدولة التي تسعى لإضعافها، عبر الاحتفاظ بالسلاح الموازي، فضلًا عن محاولة الصدر سحب شرعية مسمى (الحشد الشعبي) عن الفصائل المسلحة الموالية لإيران، لأن احتفاظ الفصائل بهذه الشرعية، مكنها من تحقيق نفوذ سياسي وأمني واقتصادي كبير، وبالشكل الذي جعلها كيانًا موازيًا يتحدى الدولة وسيادتها.
أبعاد وتداعيات دعوة الصدر
مما لا شك فيه أن هناك العديد من الأبعاد والتداعيات التي تقف خلف دعوة وزير الصدر الأخيرة، التي يمكن اختصارها في ثلاثة مستويات مهمة أبرزها: على مستوى قوة الفصائل، تدرك الفصائل المسلحة الموالية لإيران بأن أي حديث عن سلاحها، يعني إنهاء وجودها وتأثيرها ونفوذها، فهي حققت أهدافًا كبيرةً عبر هذا السلاح، ومن ثم فهي تحاول دائمًا الربط بين وجود سلاحها ووجود الدولة، وبروز الدعوات المطالبة بتفكيكها وحلها من الصدر، يعني أنها ستخسر الكثير من هذا التأثير والنفوذ، وسيجعلها قوة ثانوية لا تتعدى مسألة كونها جهاز أمني تابع للدولة ويخضع لسيادتها، وهو ما ترفضة جملةً وتفصيلًا.
أما على مستوى المشهد السياسي، فإن الصعود السياسي للفصائل المسلحة الموالية لإيران في مرحلة ما بعد “داعش”، مكنها من شرعنة سلاحها عبر العديد من الإجراءات القانونية، التي يأتي في مقدمتها القانون رقم 40 لسنة 2016، كما صدرت العديد من الأوامر الحكومية الخاصة بهيكلة سلاح الحشد الشعبي، وأبرزها الأوامر الديوانية المرقمة (237-328-331) الصادرة عام 2019.
دعوة وزير الصدر الأخيرة يمكن تفسيرها أنها خطوة لفرض مزيد من الضغوط على قوى الإطار التنسيقي للتراجع خطوة للوراء
ورغم أن دعوة وزير الصدر الأخيرة أشارت إلى ضرورة حل الفصائل المسلحة التي تدعي المقاومة من القائد العام للقوات المسلحة، فإن رفض الفصائل المستمر وتهديدها من أي مساس بسلاحها، يعكس خشية كبيرة، فهي تنظر لسلاحها على أنه أحد مصادر شرعيتها السياسية، وقد تحاول النزول للشارع للدفاع عن هذه (الشرعية).
أما على مستوى النفوذ الإيراني، يشكل سلاح الفصائل المسلحة، وتحديدًا الولائية منها، ضرورة من ضرورات الأمن القومي الإيراني، خصوصًا أنه يمثل ركيزة مهمة لما يعرف بـ”محور المقاومة”، ومن ثم فإنه ليس من المتوقع أن تقبل إيران بأن يتم نزع سلاح هذه الفصائل، أو حتى حلها أو إدماجها ضمن المؤسسة الأمنية العراقية، فهي تنظر لسلاح الفصائل المسلحة ككل متكامل فيما يتعلق بإستراتيجيتها الإقليمية، ونزع سلاح هذه الفصائل أو حتى تفكيكيها وحلها، يعني إخلالًا كبيرًا بالتوازن الإستراتيجي الإيراني في الشرق الأوسط.
إن سياسة الفعل ورد الفعل المتبعة بين الصدر وقيادات الفصائل المسلحة، بشأن ملفات عديدة منها تفكيك وحل الفصائل المسلحة وهيكلة الحشد الشعبي، أصبحت حالة معقدة تفرض إيقاعها على المشهد السياسي العام في الآونة الأخيرة، وتحديدًا بعد المواجهات الساخنة التي شهدتها المنطقة الخضراء، كما أن مطالبة الكاظمي بصفته قائدًا عامًا للقوات المسلحة باتخاذ هذه الخطوة ستجعل منه أحد أطراف النزاع، خصوصًا أنه لوح أمس الأول بإمكانية تقديم استقالته في أي لحظة، احتجاجًا على ما أسماه بالضغوط التي تمارس ضده.
إجمالًا، إن دعوة وزير الصدر الأخيرة يمكن تفسيرها أنها خطوة لفرض مزيد من الضغوط على قوى الإطار التنسيقي للتراجع خطوة للوراء، فمثل هذه المطالبات تحتاج لحكومة كاملة الصلاحيات وإجراءات تشريعية وقانونية، وفي ظل الوضع السياسي الحاليّ المتمثل بالشلل البرلماني والضعف التنفيذي، لا يمكن لهذه الخطوة أن توضع موضع التنفيذ، كما أن البت بها يمكن أن يجعل سيناريو الفوضى يعود مرة أخرى للشارع المحتقن أساسًا.