يعاني الاقتصاد المصري في الآونة الأخيرة من حالة تضييق خناق غير مسبوقة، بعيدًا عن المؤشرات الصادرة عن بعض مؤسسات التقييم المالي التي تحاول تصدير صورة إيجابية عن الوضع الاقتصادي رغم معاناته الشديدة واقعيًا وبلغة الأرقام، وهو ما يتلمسه المواطن العادي ليل نهار.
تلك الوضعية الحرجة دفعت الحكومة المصرية لطرق كل الأبواب الممكنة للخروج من عنق الزجاجة قبل الوصول إلى الخطوط الحمراء التي ربما تقلب الطاولة رأسًا على عقب، ومن أبرز تلك النوافذ المطروقة صندوق النقد الدولي بهدف الحصول على قرض جديد ينقذ الاقتصاد المصري من مأزقه الحاليّ ولو مؤقتًا.
ومنذ مارس/آذار الماضي وتخوض القاهرة حرب مفاوضات حامية الوطيس مع الصندوق للموافقة على هذا القرض الذي تبلغ قيمته بحسب بعض التسريبات بين 4 – 6 مليارات دولار، وسط تعقيدات وشروط قاسية من المؤسسة الدولية بشأن البرنامج الإصلاحي المفترض أن تتبناه مصر للحصول على هذا القرض.
ورغم صعوبة شروط الصندوق – غير المعلنة رسميًا – والضمانات المطلوبة لقدرة الجانب المصري على سداد فواتير الديون مستقبلًا، فإن القاهرة تسابق الزمن للظفر بهذا المبلغ الذي رغم حجمه المتواضع، فإنه في الوقت الحاليّ ربما يكون عامل مساعد للخروج من عنق الزجاجة، خاصة بعد حاجة مصر إلى سداد 17.6 مليار دولار لأقساط وفوائد الدين الخارجي العام المقبل، تزامن ذلك مع هزة شهدها السوق الداخلي ساهمت بشكل كبير في هروب الكثير من الاستثمارات التي كان يعول عليها في تحقيق التوازن.
الخناق يضيق.. لذا كانت الهرولة
قد يتصور البعض أن الظروف التي عاشها الاقتصاد المصري خلال السنوات الأولى من ثورة يناير/كانون الثاني 2011 هي الأصعب في تاريخ البلاد، نظرًا للأوضاع المعيشية الصعبة في ذلك الوقت التي كانت – إلى جانب عوامل أخرى – وقودًا قويًا لإشعال الاحتقان الشعبي ضد السلطة الحاكمة، لكن الأرقام والوقائع تذهب إلى أن ما يحياه المصريون حاليًّا أضعاف ما كان قبل 10 سنوات.
وبعيدًا عن العزف المتواصل على قوة الاقتصاد المصري وقدرته على الصمود والإنجازات التي حققها مقارنة بما كان عليه قبل ذلك، تحديدًا في 2013 كما جاء على لسان الإعلامي المقرب من النظام، أحمد موسى، فإن الواقع يسير عكس عقارب تلك السردية التي قوبلت بسخرية من رجل الشارع الذي يحيا ذروة معاناته هذه الأيام بعدما بات توفير لقمة العيش بالكاد حلمًا لا يتحقق لأكثر من 30 مليون مواطن يرزخون في مستنقع الفقر رسميًا.
فقدت مصر منذ بداية العام الحاليّّ وحتى نهاية أغسطس/آب الماضي قرابة 81 مليار دولار، بتراجع نسبتة 38% عما كان عليه العام الماضي، وهو ما مثل ضغطًا كبيرًا عليها داخليًا وخارجيًا.
بلغة الأرقام، فقد وصلت الديون المصرية لأرقام قياسية غير مسبوقة في التاريخ، إذ بلغت 157.8 مليار دولار بنهاية الربع الأول من 2022، متأرجحة بين قصيرة ومتوسطة وطويلة الأجل، ويتعين على مصر خلال النصف الثاني من العام الحاليّ سداد 8.5 مليار دولار أقساط وفوائد دين، وفي العام القادم مطالبة بسداد 17.6 مليار دولار (9.3 مليار دولار في النصف الأول و8.3 مليار في النصف الثاني) وفي 2024 مطالبة بسداد 24.2 مليار دولار (10.9 مليار في النصف الأول و13.3 مليار في النصف الثاني)، كما يتعين على الحكومة المصرية سداد 15.1 مليار دولار في 2025 (9.3 مليار في النصف الأول و5.8 مليار دولار في النصف الثاني) نظير 16.8 مليار دولار في 2026 (6.6 مليار دولار في النصف الأول و10.2 مليار في النصف الثاني).
كما تراجع الاحتياطي النقدي لمصر من العملات الأجنبية (سلة من العملات الدولية الرئيسية، هي الدولار واليورو والجنيه الإسترليني والين الياباني واليوان الصيني) بنحو 20% خلال الأشهر السبع الأولى من العام الحاليّ، حيث وصل إلى 33.14 مليار دولار نهاية يوليو/تموز، مقابل 40.93 مليار دولار في نهاية ديسمبر/كانون الأول الماضي، وفق بيانات البنك المركزي المصري.
وتلقت العملة المحلية (الجنيه) ضربات موجعة خلال الآونة الأخيرة حيث انخفض سعر صرف الجنيه المصري مقابل الدولار الأمريكي بنسبة 21.9% منذ تخفيض قيمته في مارس/آذار الماضي، ليصل إلى مستوى 19.24 جنيه مقابل الدولار، فيما تتوقع أسواق العقود الآجلة أن تنخفض العملة المحلية بنسبة 22% خلال العام المقبل، هذا بجانب تراجع عائد أذون الخزانة المحلية لأول مرة منذ 24 مايو/أيار الماضي بواقع خمس نقاط أساس في عطاء أذون 91 يومًا.
الأزمة زاد تفاقمها بعد هروب الأموال الساخنة من السوق المصري، فمنذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير/شباط الماضي ولجوء واشنطن إلى سياسة رفع سعر الفائدة لجذب الاستثمارات الخارجية، خرج ما لا يقل عن 20 مليار دولار من مصر، ما تسبب في اتساع عجز الحساب الجاري وتزايد الضغوط على العملية المحلية.
هذا الواقع الرمادي دفع شبكة “بلومبرغ” للحديث عن احتمالية فشل الحكومة المصرية في سداد ديونها، لافتة أن تلك الاحتمالية قفزت إلى أعلى مستوياتها منذ 2013، وقد تسبب ذلك في ارتفاع الهامش بين السندات المصرية وسندات الخزانة الأمريكية فوق 1.200 نقطة أساس للمرة الأولى على الإطلاق، إضافة إلى بلوغ كلفة التأمين ضد تخلف مصر عن السداد لمستوى 1.500 نقطة أساس خلال الشهر الماضي وهو المستوى الأعلى في تاريخ الدولة المصرية، وفق بيانات “جيه بي مورغان”.
جذب المستثمرين
التقارير الدولية تشير إلى فقدان مصر واحد من أقوى مصادر تمويلها الرئيسية والمتمثل في مبيعات السندات في السوق المحلية والدولية، حيث فقدت مصر منذ بداية العام الحاليّ وحتى نهاية أغسطس/آب الماضي قرابة 81 مليار دولار، بتراجع نسبته 38% عما كان عليه العام الماضي، وهو ما مثل ضغطًا كبيرًا عليها داخليًا وخارجيًا.
وعليه فإن الحالة الوحيدة لإنقاذ سوق السندات في مصر هو الوصول إلى اتفاق عاجل مع صندوق النقد للحصول على القرض، الذي سيكون له – بحسب الخبراء – دور كبير في إعادة المستثمرين إلى أسواق شراء السندات مرة أخرى، بجانب معالجة اختلالات الموازنة الناجمة عن العجز الحاليّ.
بلغت صفقات الاستحواذ على الأصول المصرية أكثر من 233 صفقة بقيمة 9.9 مليار دولار، منها 118 صفقة خارجية بقيمة 6.5 مليار دولار، و115 محلية بقيمة 3.4 مليار دولار، بزيادة قدرها 49% في 2021 مقارنة بما كانت عليه في 2020
وكان هروب الاستثمارات الأجنبية من السوق المصري خلال الآونة الأخيرة أحد عوامل الضغط القوية التي دفعت نحو إعادة النظر في السياسات النقدية والمالية المتبعة حاليًّا بهدف توفيرها للحد الأدنى من الضمانات التي تبقي على المستثمرين الأجانب، وسط ضغوط خارجية بزيادة معدلات الفائدة وتحريك سعر الجنيه في السوق بنسب محددة بما يعيد التوازن ويحسن القدرة التنافسية.
وتسعى الحكومة المصرية في ظل المستجدات الإقليمية والدولية وعلى رأسها الحرب الأوكرانية ومن قبلها جائحة كورونا وتبعاتها الاقتصادية الكارثية للبحث عن استثمارات أجنبية قادرة على تعويض الخسائر الناجمة عن تداعيات تلك المستجدات التي ألقت بظلالها القاتمة على اقتصادات الدول النامية على وجه الخصوص.
المواطن من يدفع الثمن
تسارع الحكومة المصرية الخطى لعدم تجاوز الأمور خطوطها الحمراء، حتى وصل الحال إلى اللجوء للخيار الصعب، مبادلة الديون بالأصول، وهو ما تكشفه الإستراتيجية المتبناة حديثًا التي تتضمن نية الحكومة بيع أكثر من 65% من أصول الدولة إلى القطاع الخاص، في إطار سياسة التخارج التي تتبناها الدولة في ضوء وثيقة “سياسة ملكية الدولة” التي أعلنها في يونيو/حزيران الماضي.
وخلال الأشهر الأخيرة فقط بلغت صفقات الاستحواذ على الأصول المصرية أكثر من 233 صفقة بقيمة 9.9 مليار دولار، منها 118 صفقة خارجية بقيمة 6.5 مليار دولار، و115 محلية بقيمة 3.4 مليار دولار، بزيادة قدرها 49% في 2021 مقارنة بما كانت عليه في 2020، بحسب التقرير الصادر عن شركة “بيكر آند ماكنزي” إحدى كبرى شركات القانون في الولايات المتحدة الأمريكية، فبراير/شباط الماضي، وتتصدر الإمارات قائمة الدول المستحوذة، فقد بلغت استثماراتها في الربع المالي الثاني من عام 2021/ 2022 نحو 1.46 مليار دولار بنسبة 91.2% من إجمالي الاستثمارات الأجنبية لمصر البالغة 1.6 مليار دولار.
ويتصدر محدودو ومتوسطو الدخل قائمة ضحايا تلك السياسات الاقتصادية التي أودت بالبلاد إلى أتون الفقر والعوز، فهم الشريحة الكبرى التي ترتكن إليها الدولة لسد العجز الذي تواجهه، وذلك من خلال زيادة معدلات الضرائب وتقليص الدعم حتى وصل في بعض القطاعات إلى ما دون الصفر، وهو ما نجم عنه قفزات هائلة في معدلات البطالة والتضخم وتراجع مستويات الادخار، بجانب الزج بالملايين كل عام لمستوى خط الفقر.
وفي الأخير.. فإن الوضع لن يبارح مكانه الذي ظل عليه طيلة السنوات الثمانية الماضية، اضطرار إجباري من الحكومة للاستدانة من أجل سد الديون والقروض وتقليص فجوة العجز الناجمة عن السياسات الخاطئة التي تتبعها خلال تلك الفترة، وتحميل المواطن وحده فاتورة السداد من حجم الدعم المقدم له ومن أصول بلاده ومن مواردها الأساسية التي باتت مرهونة للدائنين حتى تجاوز الأمر حاجز الأزمة الاقتصادية إلى تهديد السيادة واستقلالية القرار السياسي.