تدخل تونس شهر سبتمبر/أيلول 2022 أي الشهر الرابع عشر للانقلاب بروح محبطة وحيرة مؤلمة ولا تتواتر فيها إلا أخبار الحرقة والعائلات التي غرقت في المتوسط، فإذا تناست الحرقة هزمتها أخبار العودة المدرسية المكلفة، فالأسر تواجه رفع الدعم عن الورق بصدور عارية أو بجيوب فارغة، وينتشر حديث شعبي على أن الحرقة إلى إيطاليا أقل كلفة من إعادة طفل إلى المدرسة.
في الأثناء يكابر أنصار الرئيس ويرفضون الإقرار بأنهم انهزموا أمام كلفة المعيشة وأن عليه وعليهم التسليم بالهزيمة والاعتراف بصعوبة الحلول الفردية التي يتخذها الرئيس وحكومته المسكينة، ويتابع كبرهم ومغالاتهم طيف واسع من المعارضة الشامتة في “الورطة” التي وجد فيها الانقلاب وأنصاره أنفسهم، والميالون إلى أقل ما يمكن من النكد يغنون مع فيروز عن ورق أيلول الأصفر ويدخلون منطقة الذكريات الحزينة.
لم تعد الأزمة الاقتصادية تخفى على لبيب
في الأسبوع الأخير من شهر أغسطس/آب انقطع تمويل محطات الوقود فتوقفت الحياة أو كادت، وقبل ذلك افتقد الناس السكر والقهوة وزيت الطهي والطحين حتى ظهرت الطوابير أمام المخابز وتضاءل حجم الخبزة حتى لم تعد تكفي ساندويتشًا، وهناك روايات كثيرة لأسباب الأزمة، لكن الحكومة خرساء وقد نسيت أن هناك وسائل إعلام يمكن إشراكها في نشر الأخبار الصحيحة.
الرواية الأكثر تداولًا أن الحكومة افتقدت النقد الأجنبي لتمويل التوريد، وقد صحت أخبار رغم التعتيم عن عودة بواخر محملة بالقمح من الموانئ التونسية لأنها أصرت على قبض أثمان حمولتها بالنقد الأجنبي، وقد تكفل الاتحاد الأوروبي بقرض مخصص لتمويل المعيشة (شراء حبوب يتولى الاتحاد الدفع إلى المصدر دون المرور بتونس) حتى نهاية السنة، لكن بعد الحبوب ظهرت أزمة الوقود، ولم تتسرب أخبار عن كيفية حلها مؤقتًا، لكن المرجح أنها حلت بنفس الطريقة بقصد واضح من المقرضين منع الحياة من التوقف وإبقاء البلد في الحد الأدنى من الحركة حتى (لا أحد يعرف إلى متى).
من الواضح أيضًا أن حزب النهضة لا يرغب في مواجهة الانقلاب بشكل صريح في هذه المرحلة
الرواية الثانية أن شح المواد التموينية في السوق مبرمج من الحكومة نفسها وبموافقة الرئيس وذلك لتحقيق مهمة مركزية كلف الانقلاب بإنجازها وهي رفع الدعم نهائيًا عن كل المواد الأساسية بما فيها الورق الصالح للكراس المدرسي، ويربط البعض بين رفع الدعم ونهاية الانقلاب، وهذه رواية سياسية متذاكية تغفل أن إنجاز المهمة يعني إنهاء دور المكلف بها وهو ما لا نقرأه في حديث الرئيس وحكومته، بما يرجح عندنا عجز الانقلاب وحيرته وبواره.
لقد فشلت حلول الرئيس وليس له في دستوره ما يغني الناس عن كراس المدرسة ولا فنجان القهوة ولا خبزة العشاء بعد يوم عمل، ولو اتخذنا دليلًا عن اليأس منه ومن وعوده لأحصينا عدد الحارقين خلال شهري الصيف، لقد فقد الناس هنا قدرتهم على توليد الأمل من فعل السياسيين وعولوا على حلولهم الفردية وهذه نهاية طريق طبقة سياسية آخر أعلامها الرئيس المنقلب الذي ود لو أعجز الناس بالحلول العبقرية، لكنه أعجزهم عن تدبر عودة أولادهم إلى المدارس.
أين ذهب معارضو الانقلاب؟
لا أحد يعارض الحكومة في الصيف (دعنا من مقتدى الصدر تحت شمس بغداد)، فالتونسيون يحبون البحر في الصيف ولا يمكن تغيير جدول متعتهم ولو جاعوا، وعندهم مثل يقول “عش كالقط بين الشر أو الجوع والخلاعة”، لكن المعارضة صمتت تمامًا ولم يصدر عنها حتى الأنين الذي يصدر عن القطط الجائعة.
لاحظنا انطلاق ألسن إعلامية كانت تنافح عن الانقلاب وقد سبق لنا تصنيفهم بمرتزقة المنظومة، أطلقوا ألسنتهم في الانقلاب وفي الرئيس وحكومته بما أشعرنا أن هناك أمرًا تعد له المنظومة نفسها، لكن المعارضة الجادة التي تجمعت في جبهة الخلاص لا يسمع لها هسيسًا، منذ آخر مظاهرة في شهر يونيو/حزيران، لقد سحب السيد نجيب الشابي برنامجه عن حكومة إنقاذ وطني يسندها برلمان 2019، كأنه تلقى أمرًا بالصمت الأبدي، وحتى تلك المقدمات الخطابية التي غالبًا ما تطلق في شهر أغسطس/آب لتمهد للعودة السياسية في الخريف لم نسمعها، بما يعني أن السبات الشتوي للمعارضة بدأ في الصيف.
الأقلام الجادة في معارضة الانقلاب اختفت (أو تنتظر أمرًا) أو تكاد إلا نزرًا يسيرًا، وانتشرت في السوشيال ميديا أحاديث الوعظ والإرشاد ورواية النكت ونشر الأغاني بما ذكرنا بعهد بن علي، ونظن أن الجميع يراقب نفسه أن يقع بين يدي المحكمة العسكرية، فالقضاء المدني لا ينظر في دعاوى ارتكاب فعل موحش في حق الرئيس.
من الواضح أن الجهة المعارضة ذات الثقل هي حزب النهضة، فهو الوحيد الذي يملك شارعًا يمكن تحريكه برسالة هاتفية، لكن من الواضح أيضًا أن حزب النهضة لا يرغب في مواجهة الانقلاب بشكل صريح في هذه المرحلة إلى حد دفع الموغلين في نظرية المؤامرة إلى القول إن هناك تنسيقًا يجري بين المنقلب والغنوشي وهي نكتة، لكن في العالم السوداوي الذي نعيش تبدو لكثيرين ذات مصداقية.
نعرف النقابة بقدر يسمح لنا بتخيل أحاديث جلساتها مع السفير الفرنسي ولو تم إغلاق الصوت، ونعرف المعارضة إلى درجة أن نسمع توسلاتها إلى النقابة بأن تمنحهم مقعدًا حتى في السبنسة
مواجهة الانقلاب تعني تحمل كلفة ما بعده، وهي كلفة عالية في صورة إلغاء الدعم عن المواد الأساسية، وقد تجلى للعيان أن النقابة ذات الصوت الصارخ ضد حكومات الثورة خرست تمامًا ضد الانقلاب بعد حملة إسناد علنية له، لكنها تتربص بالمعارضة الآن وتود أن تتاح لها فرصة المزايدة لترميم صورتها المكسورة (أو رتق بكارتها السياسية) وأي حزب يتولى بعد الانقلاب ستعود له النقابة بكل وقاحة لتخرب عمله باسم حماية الشغيلة.
وهو أمر يبدو محسومًا عند معارضي الانقلاب، لذلك نفسر الصمت الحاليّ بمعنى وحيد انتظار أن يجهز الانقلاب على النقابة السفيهة حتى يمكن الحكم بعد الانقلاب، وهذا في ظننا ليس موقف المعارضة وحدها بل موقف الجهات الخارجية أو المانحة التي تنتظر إكمال مهمة الانقلاب لتمول البلد وتقوده للأسف من خارجه نحو وضع لا دعم فيه ولا مكرمات اجتماعية وهي المكرمات التي تراها الجهات المانحة (رشاوى سياسية) تقوم مقام العائق الاقتصادي قد وجب وضع حد لها.
هل أشركت الجهات المانحة المعارضة في هذا البرنامج؟ الترجيح أن نعم، لكن لا يقين، فالمعارضة نفسها مخترقة من قوم يودون أن يخرجوا من غرف نومهم مباشرة على كراسي الوزارات القادمة، وقد تأخر الموعد فصمتوا بحثًا عن حل فردي لا يختلف في جوهره عن الحرقة إلى ايطاليا.
هل الصورة قاتمة؟
نعم إنها كذلك، وقد كنا نكتب متفائلين بمستقبل الثورة واعتذرنا عن الإفراط في ذلك، نعود إلى الأرض ونكتب أن مستقبل تونس ليس بيدها وقد سامها كل مفلس وكل طامع، شعورنا أن المتربصين بالانقلاب كثر لكنهم من جنس المتربصين بالثروة وإن اختلف الانقلاب عن الثورة وفيهم مستعدون للدم.
منظومة حكم فاسدة تركها بن علي خلفه (الأصح أنها تخلصت من بن علي بالثورة) وتربصت بالثورة وحكوماتها وهي تتربص الآن بالانقلاب حتى يخلصها من عناصر الإزعاج أي النقابة والأحزاب المنتمية للثورة وفي مقدمتهم حزب النهضة، فإذا أدى المهمة يكون لها بعده حديث وموقف وهي خطة مكشوفة نظن يقينًا أنها نضجت في مخابر السياسة الفرنسية التي لم تفرط يومًا في مستعمرتها القديمة وقادتها من وراء حجاب.
هل وعى معارضو الانقلاب ذلك؟ لا نظن ورغم جهلنا بالكواليس فإننا نجزم بوجود تخابر بين المنظومة والقوة الاستعمارية لما بعد الانقلاب (ولو طال أمده)، كما لا نستبعد وجود تخابر وربما تنسيق مع المعارضة والقوة الاستعمارية، ففرنسا تجلس بين الكرسيين وتوزع الكراسي.
ونقدم إشارة للقارئ العربي إذا بلغته أنباء عن تحرك النقابة في المسألة الاجتماعية (ولو دون مقدمات)، فليعلم أن فرنسا قررت إنهاء الانقلاب بعد أن مكنت له بواسطة النقابة نفسها ثم عزل المعارضة (وعمودها حزب النهضة) لتقدم أداتها الأكثر فعالية في المرحلة القادمة.
رجم بالغيب؟ نعرف النقابة بقدر يسمح لنا بتخيل أحاديث جلساتها مع السفير الفرنسي ولو تم إغلاق الصوت، ونعرف المعارضة إلى درجة أن نسمع توسلاتها إلى النقابة بأن تمنحهم مقعدًا حتى في السبنسة.
في الأثناء سيواصل أنصار الانقلاب الأغبياء الدفاع عن الجريمة ويتمتع المعارضون بالشماتة في أنفسهم، فالجميع هذه الأيام لا يجد قهوة الصباح في مطبخه.