في عام 2012 خاطب رئيس الوزراء ورئيس حزب العدالة والتنمية – آنذاك – رجب طيب أردوغان، شباب الحزب المجتمعين في المؤتمر الثالث للذراع الشبابية بمدينة إسطنبول، مؤكدًا في خطابه على أهداف وتصورات حزب العدالة والتنمية تجاه جيل الشباب، موضحًا أن هدف الحزب يقوم على “تنشئة جيل حديث ومتدين، جيل يدرك دينه ولغته وعقله وعلمه وقلبه وعرضه”.
ما يقرب من عشر سنوات مرت على خطاب أردوغان وعشرين سنة على تولي حزب العدالة والتنمية السلطة، خلال هذه السنوات كرر الرئيس أردوغان دعواته لإنشاء جيل متدين، فهل تمكن الحزب من بناء هذا الجيل؟ وكيف يبدو الجيل الجديد؟
أصدرت مؤسسة كوندا “Konda” للأبحاث – من المؤسسات البحثية النشطة في مجال الدراسات الاجتماعية والسياسية – في شهر يناير/كانون الثاني الماضي تقريرًا حمل اسم “لو كانت تركيا عبارة عن 100 شخص”، استندت فيه إلى 125 دراسة قابلت خلالها ما يقرب من 300 ألف شخص على مدار الـ12 عامًا الماضية.
قامت فكرة التقرير على تمثيل الأشخاص ممن هم فوق الـ18 البالغ عددهم في تركيا 62.378 مليون شخص بـ100 شخص، وذلك لدراسة الخصائص الاجتماعية والاقتصادية لهذه الفئة، عبر مقارنة معطيات عام 2011 بمعطيات عام 2021، راصدًا عشر سنوات من التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي تركت أثرها على معتقدات وتصورات أجيال جديدة عن التدين والهوية والممارسات الاجتماعية والثقافية.
في معنى الجيل المتدين
لم يكن تصور حزب العدالة والتنمية عن “الجيل المتدين الحديث” كما عبر عنه الرئيس التركي واضحًا بالصورة الكافية التي يمكن تلمسها في كل المجالات، ودائمًا ما يتم التنظير/مهاجمة هذا المشروع من بوابة السياسات التربوية لحزب العدالة والتنمية التي اتخذت اتجاهين: الأول قائم على استمرار عملية التحديث وشموليتها لكل الفئات المجتمعية وتحديدًا المحسوبة عليه، التي عانت في فترات سابقة من سياسات إقصائية انعكست على قدرتها على الوصول إلى الموارد والاستفادة من حداثة المدن التركية، والثاني يركز أكثر على المفاهيم التربوية واستمده الحزب من موروثه المحافظ المستمد من جماعة الـ”Milli görüş” أو “الرؤية الوطنية”.
سعى الحزب إلى توظيف العملية التعليمية للتأثير على الأجيال الناشئة، وتحديدًا مدارس الأئمة والخطباء للمرحلة ما قبل الجامعية والجمعيات الوقفية والسكنات الطلابية للمرحلة ما بعد الجامعية، ولمدارس الأئمة والخطباء مظلوميتها الخاصة قبل عهد العدالة والتنمية، فقد سبق أن تعرضت للتضييق والتحديد.
وبعد تولي حزب العدالة والتنمية السلطة ارتفعت أعداد مدارس ثانوية الأئمة والخطباء من 450 مدرسة عام 2002 ينتظم فيها 71.100 طالب إلى 1673 ثانوية ينتظم فيها 666.963 طالبًا عام 2021، وفي المرحلة الجامعية يعمل الحزب من خلال المؤسسات المحافظة التي تعمل على توفير حاضنة لهؤلاء الطلبة من خلال توفير خدمة السكن الذي يتعدى مفهوم الإيواء إلى الاحتضان على المستوى المادي والمعنوي من خلال برامج ثقافية ورياضية وسياسية، ويبرز في هذا الإطار وقف أنصار ووقف الشباب التركي “tügva” وجمعية نشر العلم “İlim Yayma Cemiyeti” وغيرها من المؤسسات.
ملامح ومؤشرات الالتزام الديني
تحتل القضايا الهوياتية موقعًا مهمًا في السياسية التركية، لما تملكه من أثر واضح على عملية الاصطفاف السياسي، ولطالما احتلت قضايا التدين والالتزام بالعبادة موقعًا مهمًا في السردية المحافظة.
وعلى مدار السنوات الماضية أظهرت الدراسات المسحية تراجعًا واضحًا في مؤشرات الالتزام الديني، فوفقًا لتقرير مؤسسة كوندا الذي سبق ذكره، في عام 2021، ازدادت نسبة الأشخاص الذين عبروا عن عدم إيمانهم بأي معتقد أو بأنهم “ملحدون” من 2% عام 2011 إلى 7% عام 2021.
زيادة نسبة الملحدين قابلتها كذلك زيادة في نسبة المؤمنين/المُعتقِدين لتصل إلى 33% بعد أن كانت 30% عام 2011، والزيادة في نسبة المعتقدين لم تقابلها زيادة في نسبة من يعرف نفسه كـ”متدين”، فانخفضت النسبة من 57% عام 2011 إلى 50% عام 2021.
وتعد قضية الالتزام بالعبادات من المؤشرات المهمة على معيار التدين وتحديدًا قضيتي الصلاة والصيام، كونهما المؤشر الأساس على ترجمة مفهوم الالتزام على أرض الواقع. وفي هذا الخصوص، ارتفعت نسبة من يقول إنه غير منتظم في أداء الصلوات من 42% عام 2011 إلى 44% عام 2021، قابلها انخفاض نسبة من يقيم الصلاة بشكل متقطع من 41% عام 2011 إلى 32% عام 2021، فيما ارتفعت نسبة من قال إنه لا يصلي من 17% عام 2011 إلى 24% عام 2021.
التراجع في أداء العبادات امتد كذلك لصوم شهر رمضان، فخلال العشر سنوات الماضية ازدادت نسبة من لم يصم شهر رمضان من 8% لتصل إلى 17% وانخفضت نسبة من يصوم رمضان من 78% إلى 67%.
كيف وأين يرى الأتراك أنفسهم؟
يلاحظ عادة في المجتمع التركي تباين أنماط المعيشة بين أفراده وشرائحه، وعادة ما يعبر الأفراد عن ثلاثة أنماط معيشية: الأول نمط منفتح تحت مسمى “الحديث”، والنمط المحافظ التقليدي ينبع تحفظه تجاه القضايا الاجتماعية من موروثه التقليدي وليس من موقفه الديني، على خلاف المحافظ المتدين الذي يستمد سلوكه من موقف ديني.
يلاحظ أن 31% من العينة يعيشون نمط حياة “حديث” بارتفاع بلغ 4% عن العام 2011، فيما انخفضت نسبة من يعيش كـ”محافظ تقليدي” من 46% عام 2011 إلى 45% عام 2021، وكذلك الأمر مع “المحافظ المتدين” من 27% إلى 24%.
وترجع أهمية السؤال عن استهلاك المشروبات الكحولية لما يمثله من قيمة سياسية واجتماعية عند بعض الشرائح التي ترى في تناوله موقفًا يؤكد هويتها في مواجهة السلطة، وفي السنوات الأخيرة تراجعت نسبة من لا يتعاطى الكحول بشكل مطلق من 69% إلى 63%، أما من يشرب بشكل متقطع فانخفضت نسبتهم من 26% عام 2011 إلى 21% عام 2021.
وللحجاب أهمية بالغة في انعكاساته الهوياتية وتعبيراته الشخصية، وخلال العقد الماضي، ارتفعت نسبة غير المحجبات من 37% إلى 41%، ويجري في العادة التفريق بين ثلاثة أنواع من أغطية الرأس: غطاء الرأس التقليدي “Başörtüsü” والحجاب العادي “Türban” ولباس أشبه بالشادور الإيراني يسمى بـ”Çarşaf”.
انخفضت نسبة مرتديات غطاء الرأس التقليدي من 53% عام 2011 إلى 48% عام 2021، فيما ارتفعت نسبة النساء مرتديات الحجاب العادي من 9% عام 2011 إلى 10% عام 2021، وظلت نسبة النساء المرتديات للشادور ثابتة عند 1%.
“سوسلومان”.. ثورة السوشيال ميديا ومجتمع المدينة
خلال عقود الثمانينيات والتسعينيات وحتى بداية الألفية كانت الهجرة من الريف إلى المدينة المتغير الأهم والأبرز على بنية المجتمع التركي، فقد دفعت حركة الهجرة ملايين الأتراك إلى الاستقرار في بيئة المدن وتحديدًا المدن الضخمة كإسطنبول وأزمير وأنقرة.
عانت الأجيال الأولى من المهاجرين من صعوبة واضحة في الاندماج مع مجتمعات المدينة وظل القسم الأكبر مهمشًا على المستوى الاقتصادي والثقافي، ما جعله يحافظ على اتصاله بمجتمعاته الأصلية بما تحمله من قيم محافظة.
ارتكزت نجاحات حزب العدالة والتنمية طيلة السنوات الماضية على دمج هذه الفئات في مركز المدينة عبر تمكينها ماديًا واحتضانها ثقافيًا، لكن الأجيال الجديدة والتطورات اللاحقة أوجدت بيئة جديدة شكلت مزيجًا من المجتمع المدني بثقافته الاستهلاكية ومجتمع وسائل التواصل الاجتماعي.
فوققًا لدراسة كوندا ارتفعت نسبة مستخدمي الهواتف الذكية من 42% عام 2011 إلى 91% عام 2021، قابله كذلك ارتفاع في عدد مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي من 32% عام 2011 إلى 82% عام 2021، وتنوعت التطبيقات التي نالت اهتمام الأتراك، لكن أهمها تطبيق إنستغرام الذي ارتفع عدد مستخدميه من 4% عام 2013 إلى 55% عام 2021.
جاء مصطلح سوسلومان من كلمتين “süslenmek” بمعنى تبرج، وكلمة “müslüman” بمعنى مسلم، ويستخدم عادة كمصطلح دوني لوصف لباس الفتيات المحجبات المزين والبعيد عن فحوى الحشمة، ويوجه عادة للمصطلح انتقادات عديدة، لما يحمله من مضامين إقصائية لفئة المحافظين، لكنه مع ذلك يشير إلى تطور مهم تعيشه فتيات الطبقات المحافظة، فهي من جانب تسعى إلى الاندماج في الحياة الاقتصادية والاجتماعية للمدينة وما تفرضه من أنماط استهلاكية قائمة على التباهي، ومن جانب آخر ترغب هذه الفئات في الحفاظ على نمط من المحافظة الدينية، وهذا التناقض من المؤكد أنه يترك أثره على طبيعة ونظرة الأجيال الجديدة لموروثها المحافظ من جانب وموقعها في اقتصاد المدينة.
ختامًا، هل امتلك حزب العدالة والتنمية مشروعًا للجيل المتدين؟
لطالما كان للدولة التركية اليد العليا في عملية تغيير المجتمع، ظهر ذلك في عمليات التحديث التي اتبعتها الدولة العثمانية بداية والجمهورية التركية لاحقًا، متخذة صيغة تمر من الأعلى إلى الأسفل، وموظفة جميع أدواتها ومكوناتها في هذه العملية.
على الرغم من تصريحات الرئيس عن تربية “الجيل المتدين” والإجراءات التي اتخذتها الحكومة التركية، فإنه من الصعوبة الحديث عن مشروع حقيقي تتبناه الدولة بمختلف مؤسساتها، وذلك لأكثر من سبب على رأسه صعوبة تحقيق ذلك لطبيعة الظرف السياسي، فالنظام الكمالي اعتمد على كثير من البطش لتطبيق إصلاحاته التاريخية، كما أن الدولة لم تعد المؤثر الوحيد في المجتمعات التي أصبحت أكثر انفتاحًا وقدرةً على التواصل مع الأفكار والعالم الخارجي بخلاف الوضع الذي كانت عليه سابقًا.
ومن الممكن قراءة سياسات حزب العدالة والتنمية في سياق رد الفعل، فسنوات التضييق على مدارس الأئمة والخطباء دفعت الحزب لتعويض ذلك، فحتى مع تضاعف أعدادها، فإن نسبتها لا تتجاوز 12% من مدارس الثانوية في تركيا، كما أن المؤسسات الوقفية ما زالت تركز في أنشطتها على الطلبة القادمين أصلًا من البيئات المحافظة أو المقربة منها.
وما زالت سكنات الدولة الأكثر قدرة على استيعاب الطلبة واحتوائهم من المؤسسات الوقفية المحافظة، كما أن سياسات الحزب في التعليم والمنهاج لم تتعد المضامين المحافظة ولم تترجم على مستوى السلوك أو نمط الحياة.