يعتبره الفيلسوف الفرنسي آندريه لالاند (1876-1963) واحدًا من أفضل عشرين فلكيًا على مر التاريخ، فيما أطلق عليه أقرانه من العلماء “بطليموس العرب”، صال وجال في علوم النجوم وحركة الكواكب والأفلاك، حتى صار علمًا لا يشق له غبار في ميدان الفلك والرياضيات.
عبد اللّٰه محمد بن جابر بن سنان البَتّاني، المعروف باسم “البَتّاني” نسبة إلى مسقط رأسه “بتان” بإقليم حران شمال غرب الجزيرة الفراتية العليا بين مدينتي الرقة والرها على نهر الفرات، ولد عام 240هـ – 854مـ، أحد نوابغ العرب في الفلك والرياضيات، كما يتصدر قائمة الكبار من علماء المسلمين ممن وضعوا الرموز في تسهيل العمليات الرياضية.
قضى أكثر من 50 عامًا من حياته في رصد الأجرام السماوية، تبحر على شواطئها وغاص في أعماقها حتى استخرج منها اللآلئ والدرر التي خلدت اسمه بأحرف من نور في سجلات الخالدين كواحد من عظماء الفلك في العالم، لما أثروا به الحضارة الإنسانية خلال القرنين التاسع والعاشر الميلادي.. فمن هو البتّاني؟
تنشئة علمية متكاملة
نشأ بن جابر في أسرة تحب العلم وتوقر العلماء، فهو ابن أخت العالم العربي الشهير ثابت بن قرة، وكانت عائلته على الديانة الصابئية ثم أسلمت، لذا يلقبه البعض أحيانًا بـ”الصابئي”، تلقى دراسته الأولى في علم الفلك على يد والده الذي كان يعد أحد أبرز العلماء في ذلك الوقت، حيث تعلم الأسس والمبادئ العامة قبل أن يقررا معًا الذهاب إلى الرقة، حيث الانفتاح على الكثير من العلوم والخبرات.
من أبرز إنجازاته الفلكية تصحيح حركات القمر والكواكب ووضع جداول جديدة لموقعها
كانت الرقة في ذلك الوقت موطنًا لكثير من العلماء والباحثين، وكان من أبرز من وطأوها ودرسوا في ذلك العصر: علي بن عيسى الأسطرلابي ويحيى بن أبي منصور، وكلاهما علم من أعلام الفلك، ورغم أنه لا يوجد دليل موثق على تلقيه العلم على أيديهما، فإن كل الشواهد تذهب إلى أنه تجرع حركة الأفلاك والنجوم على يد أحدهما كؤوسًا وألوانًا.
في كتابه “الفهرست” يشير ابن النديم إلى أن البدايات الأولى لرحلة البتاني مع الفلك كانت عام 878م في مدينة الرقة التي أجرى بها بعضًا من أرصاده حتى عام 918م، ثم غير وجهته بعد ذلك إلى أنطاكية شمال سوريا، وهناك أنشأ مرصده الذي حمل اسمه “مرصد البتاني”.
بطليموس العرب
اعتمد البتاني في تأهيله العلمي على دراسة مؤلفات من سبقوه من العلماء والمتخصصين، وكانت دراسته تتسم بالطابع النقدي، إذ لم يكتف بالنهل من معينهم فقط، لكن بتفحيص وتمحيص كل ما ورد في تلك المؤلفات، التي انتقد بعضها وأضاف عليها، كما هو الحال مع كتاب “المجسطي” للعالم الشهير بطليموس، حيث كتب فيه تعليقًا وانتقد بعض آراء المؤلف رغم ما كان يتمتع به من مكانة علمية مرموقة ولم يجرؤ أحد على انتقاده أو الاقتراب منه، لذا أطلقوا عليه “بطليموس العرب”.
واشتهر العالم المسلم برصد الكواكب والأجرام السماوية، وأسهم في هذا المجال بالعديد من الإسهامات منها أنه أول من كشف السّمت Azimuth والنظير Nadir وحدد نقطتيهما من السماء، كما نجح في تحديد ميل الدائرة الكسوفية وطول السنة المدارية والفصول والمدار الحقيقي والمتوسط للشمس.
كتابه “الزيج الصابئ” مرجعًا مهمًا في حركة الأفلاك
ومن أبرز إنجازاته الفلكية تصحيح حركات القمر والكواكب ووضع جداول جديدة لموقعها، كما استطاع تحقيق مواقع عدد كبير من النجوم ضمنها في كتابه الشهير “الزيج”، الذي اعتمد عليه علماء الفلك قرونًا عدة، وبلغ من التفوق العلمي أن خالف بطليموس في ثبات الأوج الشمسي، وبرهن على تبعيته لحركة المبادرة الاعتدالية، وهو صاحب أرصاد دقيقة للكسوف والخسوف، وهي الأرصاد التي اعتمد عليها علماء الغرب في تحديد تسارع حركة القمر في حركته.
إسهاماته في حركة النجوم والأفلاك
يلخص المؤرخون إسهامات البتاني في مجال العلوم الفلكية في بعض النقاط التي اعتبروها القاعدة الأساسية التي انطلق منها الفلكيون فيما بعد، من أبرزها تصحيحه قيمة الاعتدالين الصيفي والشتوي، كما نجح في حساب قيمة ميل فلك البروج على فلك معدل النهار فوجدها 23 درجة و35 دقيقة (23° 35′)، وهو الحساب الذي أكدت الدراسات الفلكية صحته فيما بعد ولم يُختلف عليه.
وفي مجال حركة النجوم فقد أجرى أرصادًا دقيقة للكسوف والخسوف، كما برهن على احتمال حدوث الكسوف الحلقي للشمس، وحقق مواقع عدد كبير من النجوم، وصحح بعض نظريات حركات القمر وكواكب المجموعة الشمسية، إضافة إلى توصله إلى نظرية قوية الأسانيد، توضح وتفسر أطوار القمر عند ولادته، مختتمًا تلك الإنجازات الفلكية بتوضيحه لحركة المذنب للأرض.
يعد كتابه “الزيج الصابئ” (الزِّيج هو لفظ يطلق على الجداول الفلكية القديمة، وأصل اللفظ فارسي) مرجعًا مهمًا في حركة الأفلاك، ويضم هذا الكتاب الذي يشتمل على مقدمة، وسبعة وخمسين فصلًا، وترجم إلى اللاتينية أكثر من مرة في القرن الثاني عشر، كما نقل إلى الإسبانية وطبع في أكثر من عاصمة أوروبية، أكثر من ستين موضوعًا أهمها: تقسيم دائرة الفلك، معرفة أقدار أوتار أجزاء الدائرة، مقدار ميل فلك البروج عن فلك معدل النهار وتجزئة هذا الميل، معرفة حركات سائر الكواكب بالرصد ورسم مواضع ما يحتاج إليه منها في الجداول في الطول والعرض.
ومن مؤلفاته ذات الأهمية المحورية في السياق ذاته: “معرفة مطالع البروج فيما بين أرباع الفلك”، الذي يتناول فيه الحل الرياضي للمسألة التنجيمية لاتجاه الراصد، كذلك مؤلفه “مقالات بطليموس” الذي حمل رؤية نقدية لنظريات الفلكي الشهير كما ذكرت سابقًا، ثم رسالتيه “في مقدار الاتصالات” و”في تحقيق أقدار الاتصالات”، وفيهما تناول موضوع اتفاق كوكبين في خط الطول أو في خط العرض السماوي، سواء كانا على فلك البروج أم كان أحدهما أو كلاهما خارج هذه الدائرة، ثم كتابه الشهير “تعديل الكواكب” الذي استعرض فيه وفق شواهد ونظريات موثقة بالأدلة الفرق بين حركات الكواكب في مساراتها باعتبارها ثابتة المقدار، وحركاتها الحقيقية التي تختلف من موضع لآخر.
وقد شهد العديد من علماء الغرب والمستشرقين بإسهاماته الخالدة في مجال الفلك، ومن أبرز ما قيل في حقه على لسان المستشرق الإيطالي كارلو نلينو (1872 – 1938 م): “إن البتاني له رصودًا جليلة للكسوف والخسوف اعتمد عليها دنتورن Dunthorne سنة 1749م في تحديد تسارع القمر في حركته خلال قرن من الزمان”.
أبرز مؤسسي علم المثلثات
لم تقل إسهاماته في علوم الحساب والمثلثات عنها في الفلك والنجوم والمواقيت، فهو واحد من عظماء الرياضيات في التاريخ العربي والإسلامي، ويعد من أوائل من استعملوا الجيب بدل الوتر، وينسب له أنه من بين العلماء الذين استخدموا الظل وظل التمام في المثلث الكروي.
وفي مؤلفاته التي تتعدى العشرات تطرق البتاني إلى بعض المسائل الرياضية التي كانت محل جدل وخلاف في عصره، وأجزل فيها العطاء والمنة، ودرس بعضها نقدًا وتقييمًا، لا سيما تلك التي عالجها رياضيو اليونان بالطرق الهندسية، حيث قدم لها حلولًا بالجبر، لذا يعتبره البعض أحد من أسسوا علم المثلثات في العالم.
في كتابه “تراث العرب العلمي في الرياضيات والفلك” يشير المؤلف قدري طوقان إلى أن عظماء العالم في تلك العلوم وعلى رأسهم “كاجوري” و”هاليه” يعتبرون البتاني من أقدر علماء الرصد والرياضيات في التاريخ، كما وصفه آخرون بأنه أعظم فلكي زمانه.
وخلال سفره إلى بغداد مع بعض أهل الرقة للشكوى في مظلمة، عانى من مرض مفاجئ، وهو في طريق عودته توفي قرب سامراء، وكان ذلك عام 929م، بعد مسيرة حافة بالعطاء أثرى خلالها الحضارة الإنسانية بالعديد من الإسهامات، وتقديرًا لتلك المكانة أنشئ له تمثال في الرقة، غير أنه تعرض لعلمية تخريب خلال عام 2013. ويبقى البتاني واحدًا من مفاخر المسلمين ورافدًا مهمًا من روافد الحضارة الإسلامية التي قدمت للبشرية ما لم يقدمه غيرها.