“12 مليون سائح ليس طموح مصر، لسنا أقل من تركيا واليونان ممن يزورهم سنويًا أكثر من 35 مليونًا، لدينا كل المقومات لكننا لا نحسن استغلالها، الأسباب معروفة وعزوف السائحين عن مصر له دوافعه التي يعرفها الجميع.. لا بد أن نبحث ماذا فعلت تركيا لجذب السياحة الخارجية لديها بهذا الحجم رغم تشابه المقومات بيننا”، بهذه الكلمات جسّد الإعلامي المقرب من النظام المصري عمرو أديب أزمة السياحة في بلاده، مطالبًا بإعادة النظر في السياسات المتبعة من أجل الوصول بتلك الصناعة إلى ما كانت عليه قبل أكثر من عشر سنوات حين كانت مصر قبلة مهمة وحيوية لسائحي العالم.
ويمثل قطاع السياحة أحد الأضلاع الرئيسية للاقتصاد المصري، ومصدر أساسي للعملة الصعبة وواحد من الروافد المحورية لتشغيل الشباب وإحداث حالة من السيولة المالية في السوق الداخلي، إذ يسهم بـ12% من الناتج المحلي المصري، ويوفر 10% من إجمالي الوظائف.
وتشير البيانات الرسمية إلى تراجع عائدات السياحة في مصر بشكل لافت خلال الـ12 عامًا الأخيرة، من 12.5 مليار دولار عام 2010، إلى 8.9 مليار دولار عام 2011، ثم عاودت الارتفاع الطفيف عام 2012 إلى 10 مليارات دولار، لكن سرعان ما تهاوت في 2013 لتصل إلى 5.9 مليار دولار، ثم 7.3 مليارات في 2014 و6.1 مليار في 2015، ونحو 3.4 مليار دولار في 2016، لتقفز بشكل كبير في 2019 لتصل إلى 13 مليار دولار قبل أن تهوى مرة أخرى في 2020 حيث لم تتجاوز حاجز الـ20% متراجعة بنسبة أكثر من 69%.. فما أسباب هذا التهاوي؟ ولماذا يعزف السائحون عن مصر رغم ما تملكه من مقومات تفوق نظيراتها في الدول التي تحقق أرقامًا أضعاف ما تحققه المحروسة؟
مقومات سياحية هائلة.. ولكن!
قبل الحديث عن أسباب عزوف السائحين عن مصر لا بد من الإشارة إلى المقومات السياحية التي يمتلكها هذا البلد الضارب بجذوره في عمق التاريخ، كونه واحدًا من أعرق البلدان تاريخًا وأعظمها حضارة وأثراها ثروات وإمكانات، تضعها في مقدمة خريطة السياحة العالمية.
المتابع للحالة المصرية يجد أنها تمتلك كل عوامل الجذب السياحي، وبكل أنواعه، فلديها شريط ساحلي لا يتوافر لكثير من الدول صاحبة الحضور السياحي الكبير، إذ تطل على بحرين من أكبر بحار العالم: البحر الأبيض المتوسط شمالًا، الذي يزيد طول شريطه على 1000 كيلومتر بجانب البحر الأحمر شرقًا، فضلًا عن شريط ساحلي بطول نهر النيل من أسوان جنوبًا وحتى رشيد ودمياط شمالًا.
هذا بجانب ما تمتلكه مصر من ثروة أثرية قلما تمتلكها دولة أخرى في العالم، فلديها 6 مواقع أثرية تعود إلى أكثر من 7000 عام، مصنفة ضمن الأفضل عالميًا بحسب منظمة اليونسكو وهي مدينة طيبة القديمة “الأقصر” ودير سانت كاترين في جنوب سيناء ومعابد النوبة من أبو سمبل إلى فيلة وجبّانة ممفيس من منطقة أهرامات الجيزة إلى دهشور، ومنطقة أبو مينا بالإسكندرية والقاهرة التاريخية، بالإضافة إلى عشرات المواقع المتميزة الأخرى مثل وادي الحيتان.
وتشير بعض التقديرات غير الرسمية إلى امتلاك مصر ثلث آثار العالم، فبها أهرامات الجيزة، إحدى عجائب الدنيا السبعة، بجانب المعابد ذات الشهرة التاريخية الخالدة وعلى رأسها معبد الرأس السوداء ومعبد السرابيوم ومعبد القيصرون وعمود السواري ومقبرة كوم الشقافة في الإسكندرية ومعبد الأقصر ومعبد هابو ومعبد الكرنك ووادي الملكات ووادي الملوك ودير المدينة ومتحف التحنيط بالأقصر جنوبًا.
بجانب ذلك تحتضن مصر عشرات الآبار والبحيرات والمشافي العلاجية، فضلًا عن مقومات الجذب السياحي ثقافيًا كونها تمتلك العديد من الآثار الثقافية والمواقع التراثية المهمة التي تسيل لعاب الأثريين والباحثين من مختلف دول العالم، فضلًا عن المناخ العام الذي تتمتع به البلاد ويحولها إلى مزار صيفي شتوي محبب للجميع.
سوء التخطيط والفساد
تشير المرشدة السياحية نسرين حسام إلى أن الأعداد التي تستقبلها المحروسة لا تتناسب مطلقًا مع حجم ما تمتلكه من مقومات تفوق عشرات أضعاف ما تمتلكه الدول المجاورة التي تجتذب أعدادًا كبيرة من السائحين وعلى رأسها تركيا واليونان وقبرص والمغرب والإمارات، مقسمة أسباب عزوف السائحين الأجانب عن مصر إلى عوامل داخلية وأخرى خارجية.
وتستهل نسرين حديثها لـ”نون بوست” عن العوامل الداخلية بـ”سوء التخطيط والإدارة” منوهًة أن جولة واحدة لأي فوج سياحي داخل المدن الرئيسية وخاصة القاهرة تكشف حجم الفشل في الإدارة وغياب التخطيط عن العقلية المنظمة للقطاع السياحي برمته، كاشفة أنها على المستوى الشخصي تلقت العديد من الشكاوى من بعض الأفواج بسبب المشاهد القاسية التي تخطف أنظار السائحين خلال زياراتهم داخل المدن، من انتشار للقمامة وتفشي مظاهر الفقر والتسول والازدحام المروري، والبيروقراطية الفجة، ما يعكس صورة سلبية عن الدولة وخدماتها المقدمة، وهو ما لا يضعه القائم على أمور المنظومة في اعتباراته رغم الانعكاسات السلبية لذلك.
ارتفاع أسعار بعض الفنادق والمنشآت السياحية كان ضمن أسباب العزوف السياحي، فمقارنة بتركيا مثلًا تبلغ كلفة الإقامة في فندق 5 نجوم بمصر 3 أضعاف كلفته في إسطنبول أو أزمير أو أنقرة، بحسب المرشدة المصرية، فضلًا عن عدم وجود المبهرات البصرية للسائحين كما هو الحال في دول الخارج، بجانب عدم تلبية احتياجات السائح من متاجر للتسوق بأسعار رخيصة وجودة نسبية.
أما الخبير السياحي، أحمد مختار، الأكاديمي بجامعة القاهرة، فأشار إلى عوامل أخرى ساهمت بشكل واضح في عزوف الكثير من السياح أبرزها ما يتعلق بالوضع السياسي الأمني المجتمعي، فما تعرض له الباحث الإيطالي جوليو ريجيني وغيره من الباحثين والنشطاء الأجانب في مصر خلال السنوات الماضية شوه صورة القاهرة كقبلة قديمة للسياحة الثقافية والعلاجية والبيئية، فضلًا عن رسمه صورة سلبية عن الوضع الأمني الداخلي خاصة بعد تزايد معدلات الجريمة بشكل ملحوظ، الأمر الذي دفع البعض إلى التفكير كثيرًا قبل الإقدام على مغامرة زيارة مصر.
وتواجه مصر انتقادات لاذعة من العديد من المنظمات الحقوقية الدولية خلال السنوات الماضية بسبب الانتهاكات الممارسة بحق المعارضين والمغردين خارج السرب، سواء كانوا مصريين أو أجانب، وقد انعكس ذلك على مواقف بعض الدول التي حذرت مواطنيها من السفر لمصر، هذا بخلاف التجارب التي وثقها صناع محتوى يوتيوب مشهورين حول البيروقراطية التي تعاني منها الدولة المصرية والانتهاكات المتكررة هناك، بل إن بعضهم وصف مصر بأنها أسوأ دولة في العالم يمكن الذهاب إليها، وقد شهدت القاهرة الأشهر القليلة الماضية عددًا من أحكام الإعدام التي اتُهمت بـ “التسييس”، أعقبها حملات للمطالبة بوقف تلك الموجات المتكررة، آخرها تلك التي أطلقتها مؤسسة “عدالة لحقوق الإنسان” (غير حكومية)، أبريل/نيسان الماضي تعليقًا على تنفيذ الأحكام بحق 7 أشخاص.
وفي بيانها الذي جاء تحت عنوان “أوقفوا الإعدام” قالت المنظمة إن: “أحكام الإعدام الصادرة في مصر مؤخرًا، والإعدامات التي تم تنفيذها سابقًا في القضايا التي توصف بالسياسية هي نوع من الانتقام السياسي، وبعيدة عن محاولة تحقيق العدالة عبر محاكمات عادلة بضماناتها ومبادئها التي يجب أن يلتزم بها الجميع”، لافتة إلى إعدام 105 معتقلين سياسيين في مصر خلال السنوات الثمانية الماضية هذا بخلاف 95 آخرين صدر ضدهم أحكام بالإعدام في انتظار التنفيذ في 18 قضية سياسية.
المنظمة ترى أن تلك الأحكام القاسية تحولت إلى أداة للانتقام من المعارضين والخصوم السياسيين، منوهة إلى أن : “كل مَن تابع المحاكمات التي أدت إلى الإعدامات في مصر وصفها بأنها محاكمات تفتقر إلى أدنى معايير وضمانات المحاكمات العادلة، وأدانت جميع الجهات الدولية المعنية الممارسات القضائية التي تمت في تلك المحاكمات”.
بجانب الإعدام هناك الاختفاء القسري والذي تحول إلى ظاهرة في الأونة الأخيرة بحسب المنظمات الحقوقية، ففي تقريرها السنوي السادس لحملة “أوقفوا الاختفاء القسري” (حملة أطلقتها المفوضية المصرية للحقوق والحريات في 30 أغسطس/ آب 2015، بالتزامن مع اليوم العالمي لضحايا الاختفاء القسري، بهدف نشر الوعي بخطورة جريمة الاختفاء القسري على المجتمع المصري، وضرورة الوقوف أمام جريمة الاختفاء القسري في مصر)، والصادر تزامنًا مع اليوم العالمي لضحايا الاختفاء القسري 30 أغسطس/ آب 2021، والذي جاء تحت عنوان “جريمة الاختفاء القسري مستمرة: الإنكار الرسمي ما زال بلا جدوى”، وثّقت الحملة 3029 حالة اختفاء في الـ 6 سنوات الأخيرة، منذ 30 أغسطس/ آب 2015 حتى أغسطس/ آب 2021.
تداعيات الحرب والجائحة
الهزة التي تعرض لها قطاع السياحة المصري لم تكن أسيرة عوامل داخلية فقط، بل ساهمت أخرى خارجية في تعميق الأزمة، كما هو الحال مع دول العالم كافة، ويأتي على رأس تلك العوامل الحرب الروسية الأوكرانية، التي أدت إلى تهاوي السياحة المصرية بشكل كبير، وفق ما قاله رئيس الاتحاد العام للغرف السياحية سابقًا إلهامي الزيات، الذي أشار إلى أهمية السياحة الأوكرانية لمصر خلال 2017 – 2018 – 2019.
وأوضح الزيات في تصريحات صحفية له أن السياحة الأوكرانية كانت تمثل 25% من حجم السياحة الخارجية لمصر لكنها تراجعت اليوم لتصل ما بين 3 – 5%، لافتًا إلى أن السياحة الروسية والأوكرانية تمثل ما بين 60 و65% من حجم الأسواق الوافدة إلى مصر.
ولا يزال السوق المصري يدفع ثمن توقف السياحة الروسية منذ حادثة الطائرة في 2015 غاليًا جدًا، ورغم العودة التدريجية للسياح الروس، فإن الأمور لم تصل بعد إلى سابق عهدها، فضلًا عن تأثير الحرب على التدفق السياحي الروسي خلال الآونة الأخيرة، وهو ما مثل ضغطًا كبيرًا على القطاع، ما تسبب في لجوء الكثير من الفنادق والمنشآت للغلق أو تخفيض النفقات تعاطيًا مع المستجدات وكلفتها العالية.
جائحة كورونا كانت ضمن الأسباب المحورية وراء تهاوي السياحة الأجنبية لمصر كما أشار الخبراء، فقد تكبدت مصر خسائر مليارية فادحة، وفقدت خلال الأعوام الثلاث الماضية مصدرًا أساسيًا للعملة الصعبة كما تفشت البطالة بشكل ملحوظ، هذا في الوقت الذي لم تبذل فيه الحكومة المصرية أي جهود إضافية لتعويض تلك الخسارة وجذب السائحين بمغريات تدفعهم لوضع مصر على خريطة أولوياتهم السياحية المقتضبة بسبب الجائحة.
إنقاذ ما يمكن إنقاذه
التراجع الكبير للسياحة وعائداتها خلال السنوات الأخيرة كان بمثابة جرس إنذار للحكومة المصرية التي وجدت نفسها في مأزق جراء سياسة الاستدانة والاقتراض التي كبلت الدولة بقيود الديون والفوائد والتزامات السداد التي تلتهم أكثر من 80% من موازنة الدولة، الأمر الذي دفعها للبحث عن إحياء القطاعات ذات العائد الدولاري الثابت التي كانت تشكل في السابق ضمانة كبيرة في مواجهة أي عجز في الاحتياطي النقدي.
رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، طالب خلال اجتماع حكومي قبل أيام، بضرورة استغلال موسم الشتاء القادم للترويج للسياحة في مصر، ومحاولة بذل الجهود للعودة إلى الأرقام التي كانت عليها في السابق، موجهًا حديثه لوزير السياحة الجديد، أحمد عيسى “بسرعة الترويج للمقاصد السياحية، واستهداف المزيد من الأسواق الجديدة، سعيًا لزيادة حركة السياحة الوافدة لمختلف المدن المصرية، خاصة شرم الشيخ والغردقة ومرسى علم” على البحر الأحمر، باعتبارها “مقاصد سياحية دافئة متميزة”.
كما شدد رئيس الحكومة على “استغلال ما تتمتع به البلاد من تنوع في المقاصد السياحية لزيادة أعداد السائحين”، منوهًا إلى ضرورة توظيف السياحة النوعية أفصل توظيف، وعلى رأسها السياحة العلاجية والثقافية والدينية التي يمكن أن تسهم بشكل كبير في إنعاش القطاع وجذب السائحين من كل دول العالم.
وفي سياق إنقاذ ما يمكن إنقاذه، تعاقدت مصر مع شركة McCann الأمريكية لتولي تنفيذ الحملة الترويجية للسياحة المصرية في الخارج خلال الربع الأخير من العام الحاليّ، تزامنًا مع بعض الأحداث التاريخية التي يمكن استغلالها لإنعاش السياحة الخارجية منها ذكرى مرور 200 عام على فك رموز الكتابة المصرية القديمة ونشأة علم المصريات والاحتفال بمرور 100 عام على اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون.
وتستهدف الحملة التي ستنفذها الشركة الأمريكية صاحبة الباع الطويل في هذا المجال الترويج للسياحة المصرية في أسواق رئيسية مثل ألمانيا وإنجلترا وإيطاليا والولايات المتحدة ودول الخليج العربي وروسيا، وكذلك بولندا والتشيك وفرنسا وإسبانيا، كما ستخاطب أسواقًا جديدة، لمدة 3 سنوات قادمة.
الميزانية التي وضعتها الحكومة المصرية لتلك الحملة والبالغة 90 مليون دولار أثارت استياء بعض الخبراء ممن وصفوها بـ”الهزيلة”، مقارنة بالميزانيات المخصصة للحملات السابقة التي بلغت في بعض الأحيان 42 مليون دولار عام 1993، ما قد يقلل من فرص تحقيق تلك الحملة لأهدافها المنشودة.
الحديث عن إصلاح منظومة السياحة في مصر حديث مطول، تتشابك فيه العديد من الخيوط والأحبال، فالأمر لا ينحصر في تطوير البنية التحتية، بل يتجاوز ذلك إلى تهيئة المناخ السياسي والأمني والمجتمعي لذلك، فجودة المنشآت ورخص الأسعار لم تعد وحدها مقومات جذب السائح الأجنبي، فهناك عوامل أخرى لات قل أهمية، برزت في الآونة الأخيرة، أبرزها شعوره بالأمان والطمأنينة وأنه في مأمن من الاستهداف مهما كانت المبررات، إحساسه بالألفة وسط مواطني الدولة التي يزورها، إيمانه بحريته المطلقة في التحرك والتعبير عن رأيه طالما لم يتجاوز القانون، اقتناعه التام باحترام الدولة لمواثيق حقوق الإنسان واحترامها لمواطنيها قبل الأجانب.. فهل تملك مصر تلك الرحابة؟