جاء 6 سبتمبر/أيلول 2021 ليحمل للعالم عمومًا والفلسطينيين على وجه الخصوص معجزةً أمنيةً أبطالها أسرى محتجزين في أشد سجون الاحتلال الإسرائيلي تحصينًا، مقارنة ببقية السجون وهو سجن جلبوع الذي يشتهر بـ”الخزنة”.
العملية المعروفة اليوم بعملية “نفق الحرية”، التي سرّعت دقات قلوب الفلسطينيين خوفًا على أبطالها وتهليلًا بهم، جاءت في توقيت حرج للغاية بالنسبة للاحتلال خصوصًا أنها بعد أقل من 4 أشهر على معركة سيف القدس، التي وجهت فيها المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة هي الأخرى ضربات نوعية غير مسبوقة في تاريخ الاحتلال الإسرائيلي.
أصبحت أسماء الأسرى “الفارين” من السجن الأكثر تداولًا ومعرفة في العالم في أعقاب العملية، وهم: أيهم كممجي ومناضل نفيعات ومحمد ومحمود العارضة وزكريا الزبيدي ويعقوب قادري، نظرًا لتجاوزهم كل التعقيدات والتحصينات الأمنية الإسرائيلية.
تفاصيل البطولة
في تفاصيل الحكاية التي صنعها أبطال جلبوع الست، وكُشف الستار عنها لاحقًا بينما كان الاحتلال يلملم خيباته، استغرق الأسرى الست مدة 9 أشهر في عملية الحفر تحت الأرض بما توافر من أدوات حادة ليصلوا حتى بُعد 25 مترًا تحت الأرض من الجانب الآخر لجدار السجن، فيما تم تصريف التراب في دورة المياه والمواسير التي سُدّت أحيانًا كانت تعرقل مسيرتهم نحو الحرية بين الفينة والأخرى.
نجح الأسرى في الخروج من تحت بلاطة مساحتها 60 سنتيمترًا في مراحيض غرفة رقم 2 من القسم 5 في سجن “جلبوع” الذي بني عام 2004، وتمكنوا فجر يوم الإثنين 6 سبتمبر/أيلول من تنفس الحرية والخروج من الحفرة خارج السجن.
وإلى جانب الفشل الأمني الإسرائيلي المتمثل في عدم اكتشاف عمليات الحفر، لم يلحظ مراقب شاشات الأمن الخاصة بالسجن تحرك الأسرى في محيط أسوار السجن، ولاحقًا اكتشفت قوات الاحتلال عملية الهروب لتبدأ معها عملية بحث واسعة امتدت لأكثر من أسبوعين لاعتقال جميع الأسرى من جديد في أكثر من مدينة بالضفة الغربية المحتلة والداخل المحتل عام 1948.
وفي حديثه لمحاميته من هيئة شؤون الأسرى والمحررين، كشف الأسير زكريا الزبيدي التفاصيل التي سبقت العملية، إذ كان قبلها بنحو أسبوعين يوجد في قسم 4 بسجن جلبوع قبل أن يكشف له الأسير أيهم كممجي تفاصيل الخطة بجملة واحدة فقط “في طلعة”.
ويضيف “قبل أسبوع من العملية طلبت الانتقال إلى غرفتهم كي أطلع على الموضوع، عندما دخلت ورأيت الحمام، (عرفت أننا برة)، سألتهم عن التكتيكات والخطة المرسومة وكيف سنسير بالنفق لأنني لم أجرب الدخول للنفق مطلقًا من قبل، فأخبرونني بأن السير سيكون يدًا للأمام ويدًا للخلف والمشي بطريقة الحلزون، لكن يوجد مقطعان يجب النوم على الظهر والسير زحفًا”.
ووفقًا للزبيدي فقد وجه سؤالًا لمناضل نفيعات عن دوافعه من المشاركة في العملية ولم يتبق له على موعد الحرية إلا شهرين فقط، فكان جواب الأخير أنه المشارك الرئيسي في عملية حفر النفق.
في يوم العملية جاء أحد السجانين ومعه شخص وبدأ بفحص فتحة المجاري وبالفعل رأى ترابًا مبللًا، فثارت الشكوك مباشرة، وحينها تدخل الزبيدي ووقف بينهما، وبدأ بمناداة الأسرى لخلق حالة إرباك وعندها أطبقا الفوهة وذهبا للتفتيش والفحص بالغرفة المجاورة غرفة رقم 4، وهنا كان القرار بالخروج في الليل.
بدأت عملية الهروب بخروج الأسير مناضل نفيعات وتلاه محمد العارضة وبعدها يعقوب قادري، ولحق بهم الزبيدي ثم أيهم كممجي وآخرهم محمود العارضة، وعند قطعهم للشارع في أعقاب الخروج كادت إحدى سيارات المستوطنين تدهسهم، وبعد رؤية سيارات الشرطة التابعة للاحتلال والطائرات، قرروا التفرق لمجموعات وهو ما تحقق حتى اعتقالهم جميعًا.
ضربة نوعية.. منظومة أمنية فاشلة
شكلت عملية نفق الحرية ضربة نوعية للمنظومة الأمنية للاحتلال الذي لطالما تفاخر بقوتها بالعموم وعلى الأسرى خصوصًا، لا سيما في سجن جلبوع الذي يعتبر الأكثر تحصينًا في العالم من الناحية الهندسية والرقابية على الأسرى.
وتعكس العملية من الناحية الأمنية غياب الإجراءات الرقابية على الأسرى رغم الإجراءات اليومية المتبعة من تفتيش مفاجئ للغرف والأقسام المختلفة إلى جانب عمليات العد اليومية التي تتم للأسرى داخل غرفهم من السجانين.
ومن بين كواليس الفشل الأمني، يتمثل تجميع عدد من الأسرى سبق أن حاولوا تنفيذ عمليات هروب من السجن، وهو ما تحدثت عنه التقارير الأمنية الخاصة باستخبارات السجون وجهاز الشاباك “الأمن العام” التابع للاحتلال.
وإلى جانب ذلك، فإن عملية البحث بحد ذاتها شكلت فشلًا أمنيًا إسرائيليًا، خصوصًا أن الأسرى بقوا قرابة أسبوعين طلقاءً وعلى مقربة من عمليات البحث دون أن تتمكن المنظومة الأمنية الإسرائيلية من الوصول إليهم.
وكثيرًا ما يتفاخر الاحتلال بوحدات قصاصي الأثر والكلاب البوليسية المدربة والأمهر على مستوى العالم، لكن رغم ذلك كان الفشل يعتري كل هذه العمليات، خاصة أن الأسرى الذين نجحوا في انتزاع الحرية كانوا موجودين في مناطق شبه مكشوفة.
وعكست عملية “نفق الحرية” حالة التخبط الأمني الموجودة لدى الاحتلال وعدم الاستعداد المسبق لعمليات من هذا النوع رغم أنها ليست الأولى، إذ حاول الأسرى في سجون أخرى تنفيذ عمليات مشابهة قبلها بأشهر وسنوات لكنها لم تتم.
ما بعد العملية.. التنكيل بالأسرى في السجون
في أعقاب العملية كثفت مصلحة سجون الاحتلال من التنكيل بحق الأسرى الست عبر سياسة العزل الانفرادي ونقلهم المتكرر من سجن إلى آخر، وكذلك إهمالهم طبيًا، كما تعرضوا لعدة اعتداءات من السجانين، وخلال هذه الفترة نفذ بعضهم إضرابات عن الطعام احتجاجًا على ظروف احتجازهم القاهرة والصعبة.
ومر الأسرى الست بجولاتٍ من عمليات التنكيل، مقابل ذلك تمكّنوا من مواجهة هذه الإجراءات، وأصروا على نقل رسالتهم ومحاولة تحقيق الحرية، وخلال هذا العام فقد الأسير أيهم كممجي شقيقه شأس كمججي الذي ارتقى شهيدًا برصاص الاحتلال، كذلك استشهد داوود الزبيدي وهو أحد شهداء الحركة الأسيرة وشقيق الأسير زكريا الزبيدي، كما فقد الأسير يعقوب قادري والدته، وحرمهم الاحتلال من وداعهم.
وفي ذات الوقت، اتخذ الاحتلال إجراءات انتقامية من الأسرى في السجون في محاولة للانقضاض على منجزات الحركة الأسيرة، واستهدفت إدارة السّجون في بداية الأمر، أسرى حركة الجهاد الإسلامي كتنظيم والأسرى القابعين في سجن “جلبوع”، عبر تنفيذ عمليات نقل جماعية.
تبع ذلك توزيع أسرى حركة الجهاد على غرف الفصائل الأخرى وعزل قيادة الحركة ومحاولة المس بالبنى التنظيمية للفصائل الأخرى داخل السجون، وشرعت بتنفيذ اقتحامات متتالية لأقسام الأسرى، وتنفيذ تفتيشات واسعة داخل غرفهم، إلى جانب عمليات التخريب الممنهجة.
وشكّلت أجهزة الاحتلال عقب العملية لجنة بقرار من حكومة الاحتلال، على غرار لجنة “أردان” عام 2018، وخرجت مجددًا بجملة من إجراءات التضييق، التي فعليًا تصب في مسار الانتقام من الأسرى، ولا علاقة لها بالذرائع الأمنية التي تتحدث عنها إدارة السجون، ومنها: المساس بنظام الخروج إلى ساحة السجن “الفورة”، واستهداف الأسرى من ذوي الأحكام العالية عبر عمليات نقلهم المتكرر، ومقابل هذا العدوان الذي طال كل مناحي الحياة الاعتقالية للأسرى وتفاصيل محاولة “الاستقرار”، تمكّن الأسرى من فرض حالة من النضال والمواجهة على قاعدة الوحدة.
في المقابل، اتخذ الأسرى خطوات من “العصيان والتمرد” على قوانين إدارة السجون، فقد احتدمت المواجهة في الفترة الأولى مع تصاعد عمليات الاقتحام، حيث سُجلت عشرات الاقتحامات في حينه، وفي كل السجون، وواجهها الأسرى بحرق الغرف، الذي يعتبر أبرز أدوات الرفض والتمرد على الإدارة، واضطرت إدارة السجون إلى جلب تعزيزات مضاعفة من قوات القمع، ووضع إطفائيات أمام السجون كافة.
وبدأ الأسرى بعملية تنظيم الصفوف عبر اتخاذ مسار من المواجهة المفتوحة وحماية الجبهة الداخلية لهم، وفعليًا تمكنوا من تعزيز حالة الوحدة، الأمر الذي أفشل فعليًا مخططات إدارة السجون وساهم في نجاحهم على مدار هذه الفترة.
وكانت أولى خطوات الأسرى تشكيل لجنة الطوارئ العليا للحركة الأسيرة من كل الفصائل، وتمكنوا من خلالها من تنفيذ برنامج نضالي تصاعدي، استمر لمدة أسبوعين، وتمثلت هذه الخطوات برفض الخروج إلى ما يسمى “الفحص الأمني”، وارتداء الزي الخاص بإدارة السجون كإشارة للاستعداد للمواجهة المباشرة.
كما اعتمد الأسرى على خطة الإرباك الليلي، وخلالها كان يختار الأسرى ساعة محددة ليلًا للطرق على الأبواب في كل الأقسام والسجون، وتمكن الأسرى فعليًا من إحباط مخطط إدارة السجون التي أعلنت تراجعها عن الإجراءات.
نجح الأسرى من جديد عبر “حوارات” شاقة في حينه في دفع إدارة السجون للاعتراف بتنظيم الجهاد الإسلامي مجددًا، وتمكنوا من إنهاء عزل غالبية قيادات الجهاد الإسلامي، وتخصيص غرفتين لهم كأسرى تنظيم، بعد عملية تشتيتهم وتوزيعهم على بقية غرف الفصائل.
ورغم ذلك، استمرت المواجهة في كل السجون، وكانت أخطر هذه المحطات اقتحام قوات القمع قسم الأسيرات والاعتداء عليهن بالضرب في شهر ديسمبر/كانون الأول 2021، كما أقدمت على عزل مجموعة منهن وفرض عقوبات جماعية بحقهن، فحرمتهن من “الكانتينا” والزيارات وفرضت غرامات مالية، وحاولت إدارة السجون فرض واقع جديد عليهن، كما حاولت مع الأسرى سابقًا، بهدف تقويض الحالة التنظيمية، وتمكّنت الأسيرات إلى جانب الأسرى، من صد هذه الهجمة، وإنهاء جملة العقوبات التي فرضت عليهن، وإنهاء العزل الذي فرض بحق مجموعة منهن، والتأكيد مجددًا على الوحدة بين صفوف الأسرى.
وفي بداية شهر فبراير/شباط 2022، عادت إدارة السجون للتلويح بفرض إجراءات تضييقية بحق الأسرى، وحاولت هذه المرة استهداف نظام خروج الأسرى إلى ساحة السجن “الفورة”، وهذا يعني محاولتها فرض واقع يمس جوانب متعددة من نظام الحياة اليومي للأسرى، بما في ذلك المساس بالحياة التنظيمية بشكل أساس، كما أعادت التلويح مجددًا بنقل الأسرى المتكرر واستهداف أي حالة “استقرار” يعيشونها.
وأعلن الأسرى استئناف المواجهة بخطوات “العصيان والتّمرد”، وإعلانهم الإضراب المفتوح عن الطعام، واستمرت هذه الخطوات إلى جانب جولات من الحوارات، حتى تاريخ 24 مارس/آذار 2022، أي قبل موعد تنفيذ الإضراب المفتوح عن الطعام الذي أعلن عن موعده في تاريخ 25 مارس/آذار 2022، وتمكن الأسرى في حينه أيضًا من دفع الإدارة إلى التراجع عن إجراءاتها.
وفي شهر أغسطس/آب 2022 الماضي، عادت إدارة السجون تلوّح من جديد بفرض إجراءات تضييق على أسرى المؤبد وذوي الأحكام العالية، عبر عمليات النقل المتكررة، الأمر الذي فرض على الأسرى استئناف خطواتهم مجددًا والإعلان مجددًا عن إضرابهم عن الطعام في الأول من سبتمبر/أيلول 2022، واتخذ الأسرى مجددًا مسار “التّمرد والعصيان” أساسًا لهذه الخطوات، وانتهت بعد أن تراجعت مجددًا إدارة السجون عن إجراءاتها.
ورغم نجاح الحركة الأسيرة في فرض شروطها من جديد على مصلحة سجون الاحتلال، فإن ثمة مساع إسرائيلية واضحة لتصفية التمثيل الجماعي للأسرى من أجل الاستفراد بهم والعودة إلى ما كانت عليه السجون في الفترة ما بين عام 1967 إلى 1980.
في المقابل، ستبقى الحركة الأسيرة تلوح بخطواتها التصعيدية في وجه هذه المحاولات عبر حل الهيئات التنظيمية تارة والتلويح بورقة الإضراب الجماعي بمشاركة جميع الأسرى البالغ عددهم أكثر من 4500 أسير كخطوة دفاعية عن حقوقها ومكتسباتها.