جاءت زيارة مساعدة وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط باربرا ليف إلى بغداد يوم الثلاثاء، لتعيد الحديث مرة أخرى في الداخل العراقي عن إمكانية أن تؤدي الولايات المتحدة دورًا فاعلًا في حلحلة الأزمة السياسية التي يمر بها العراق اليوم، إذ أشارت ليف في أثناء لقائها بوزير الخارجية العراقي فؤاد حسين إلى أن على جميع القوى السياسية أن تأخذ درسًا مما حصل من أحداث في بغداد الأسبوع الماضي من أجل الحفاظ على السلم الأهلي، كما التقت بفعاليات سياسية ومجتمعية أخرى.
زيارة ليف لم تكن مخصصة للعراق كما حاولت بعض الأوساط السياسية تصديره للجمهور، بل هي زيارة تبدو في شكلها العام روتينية وتأتي كجزء من سلسلة زيارات أجرتها قبل مجيئها إلى بغداد، شملت الأردن و”إسرائيل” والضفة الغربية، ومن خلال مطالعة البيان الصحفي الذي جمعها بوزير الخارجية العراقي، يتضح بأنه ليس هناك توجه أمريكي جدي لممارسة دور فاعل في الأزمة الحاليّة، وهو ما يعكس بدوره قناعة مهمة بأن العراق لم يعد يحظى بأولوية لدى الإدارة الأمريكية الحاليّة، بل ويمكن القول إنه أصبح حالة مستعصية على الحل من وجهة نظر صانع القرار في الولايات المتحدة.
الحديث عن تصاعد الدور الإيراني في العراق هو النتيجة المركزية للأخطاء الأمريكية في العراق، وهو ذات الخطأ الذي تكرره الولايات المتحدة اليوم
فالولايات المتحدة تعتبر أنها قامت بما هو مطلوب منها في العراق: أطاحت بنظام صدام حسين وأسست نظامًا سياسيًا ووفرت له الحماية في أكثر من مناسبة، سواء عند تصاعد الأعمال المسلحة بعد عام 2003 أم بعد صعود تنظيم “داعش” عام 2014، وأدت دورًا في تطوير وتدريب أجهزة الأمن العراقية، وساهمت بتوفير بيئة اقتصادية أعادت من خلالها العراق إلى المنظومة الاقتصادية العالمية، وبالتالي يجب أن لا يُطلب منها أكثر من ذلك.
هذه الرؤية الأمريكية لا تشمل إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن فحسب، وإنما هو رأي قطاع واسع من مراكز البحوث والدراسات، بل إن العديد منها بدأ يُصدر طروحات جديدة تتمثل بضرورة أن تتأقلم الولايات المتحدة مع الوضع العراقي، وعليها ألا تنغمس بصورة مباشرة في الصراع الحاليّ، وأن تنتظر المنتصر في الصراع بين الإطار التنسيقي والتيار الصدري، ومن ثم تجلس على طاولة الحوار للتفاهم على شكل العملية السياسية المقبلة، في استنساخ واضح لطبيعة الدور الأمريكي من الصراع الجاري في ليبيا، حيث لم تمارس الولايات المتحدة دورًا فاعلًا في إيقاف الصراع المسلح مؤخرًا في طرابلس، وبقيت متفرجة حتى تتضح ملامح المنتصر من هذا الصراع.
معضلة أمريكا في العراق
تبدو أبرز معضلة تواجهها الولايات المتحدة في العراق، هي إيران وحلفاؤها، هذه المعضلة التي حاولت الولايات المتحدة تجاوزها حتى قبل الشروع في عملية غزو العراق عام 2003، عندما دخلت في مفاوضات سرية معمقة مع الجانب الإيراني في عام 2002، حسب ما أعلنه أول سفير أمريكي في العراق بعد الغزو زلماي خليل زاد في كتابه الذي صدر عام 2016 بعنوان “المبعوث”، إذ تحدث زلماي عن مفاوضات سرية جرت مع مبعوث إيران الدائم في الأمم المتحدة آنذاك محمد جواد ظريف، تم الاتفاق على أساسها بتقاسم خريطة النفوذ في العراق بعد إزاحة نظام صدام، وهو ما لم يتحقق، فقد انقلبت إيران على ما تم الاتفاق عليه.
وتكررت الأخطاء الأمريكية بعد ذلك، عندما سحبت قواتها عام 2011 وتركت العراق ساحة مفتوحة لإيران التي ملأت الفراغ الأمريكي، ومن ثم تكرر الخطأ في عام 2014، عندما سمحت لإيران باستغلال ظروف ما بعد “داعش”، فضلًا عن دعمها جهود قائد فيلق القدس السابق قاسم سليماني الذي أنتج حكومة عام 2018، وتخلت عن توفير غطاء دولي/أممي يدعم جهود تظاهرات تشرين الاحتجاجية عام 2019، لتعود وتتخلى عن العراق مرة أخرى في نهاية عام 2021، عندما سحبت قواتها القتالية من العراق.
تعتري الأدوار الأمريكية العديد من نقاط الضعف، ومن أبرزها عدم وجود إستراتيجية أمريكية واضحة للتعامل مع الحالة العراقية
في كل هذه الأحداث خرجت إيران منتصرة بالنهاية، ومن ثم فإن هذا ما يدفعنا للقول، بأن الحديث عن تصاعد الدور الإيراني في العراق، هو النتيجة المركزية للأخطاء الأمريكية في العراق، وهو ذات الخطأ الذي تكرره الولايات المتحدة اليوم، وعلى ما يبدو فإن إدارة بايدن لا مشكلة لها في أن يشكل الإطار أم التيار الحكومة، ما يهمها هو طبيعة الضمانات التي ستحصل عليها من أي طرف، لضمان مصالحها في العراق، التي يأتي في مقدمتها ضمان استمرار الإمدادات النفطية من العراق، وتوفير بيئة آمنة لعمل الشركات النفطية والاستثمارية الأمريكية في العراق، دون الذهاب بعيدًا في معاداة طرف على حساب آخر.
وإلى جانب ما تقدم، يتضح من المواقف الأمريكية الأخيرة، وتحديدًا ما صدر عن الرئيس بايدن الأربعاء الماضي، عن دعم بلاده لعراق مستقل وذي سيادة، داعيًا جميع القادة العراقيين إلى الانخراط في حوار وطني، لوضع خريطة طريق من أجل الخروج من الانسداد الحاليّ، تخلٍ أمريكي واضح عن الأزمة الحاليّة، وإيكال الأمر لحلول ومبادرات داخلية، كما تعكس انشغال الإدارة الأمريكية بملفات أكثر أهمية لها، أبرزها الأزمة الأوكرانية والتايوانية والاتفاق النووي الإيراني، والأكثر من ذلك الدخول في انتخابات التجديد النصفي للكونغرس الأمريكي في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل دون مفاجآت، عبر ترميم الداخل الأمريكي، اقتصاديًا وخدماتيًا، وعدم منح فرصة للجمهوريين للعودة مجددًا.
هل من أوراق تمتلكها في العراق؟
يمكن القول إن مجالات القوة الأمريكية في العراق تتضح عبر مسارات عدة أبرزها: التأثير السياسي الذي تملكه واشنطن في العراق، سواء عبر تأثيرها في مجلس الأمن الدولي أم من خلال تأثيرها في مسارات العملية السياسية العراقية، وارتباط الاقتصاد العراقي بمحركات الاقتصاد الأمريكي، تحديدًا في مجالات تصدير الطاقة أو حركة العملة أو سياسات مكافحة الفساد، أو حتى فيما يتعلق بملف العقوبات الأمريكية على إيران، أو على حلفائها بالعراق، إلى جانب ارتباط العراق باتفاقات أمنية مع الولايات المتحدة، وتحديدًا في مجال تطوير القدرات العسكرية العراقية، وانخراط واشنطن في التحالف الدولي ضد تنظيم “داعش”، وكذلك في عملية إصلاح قطاع الأمن في العراق، وهي مسارات قد تنعكس سلبًا على الواقع الأمني في العراق، فيما لو قررت الولايات المتحدة الانسحاب في أي وقت من الأوقات، دون أن يكون هناك التزام إستراتيجي يربط علاقاتها بالعراق.
وفي مقابل ذلك، تعتري الأدوار الأمريكية العديد من نقاط الضعف، ومن أبرزها: عدم وجود إستراتيجية أمريكية واضحة للتعامل مع الحالة العراقية، فخلال إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، جرى التعامل مع العراق من زاوية المواجهة مع وكلاء إيران فقط، في حين ما زالت إدارة بايدن لم تبلور رؤية واضحة لطبيعة دورها في العراق، كما أن نجاح وكلاء إيران في الانخراط بالمؤسسات السياسية والأمنية العراقية، جعلت عملية استهدافهم أمريكيًا، تندرج ضمن إطار انتهاك السيادة العراقية، وهو ما عطل الكثير من سياسة الردع الأمريكية، فضلًا عن نجاح إيران في ربط نفوذها السياسي في العراق، كملف في المفاوضات الجارية مع واشنطن، وهو ما جعل الدور الأمريكي في العراق، مرتبطًا في جزء منه بمسارات العلاقة مع طهران.
إجمالًا.. يبدو أن إدارة بايدن في إطار صياغة نهج جديد للتعامل مع إيران وحلفائها من جهة، والتعامل مع الواقع العراقي من جهة أخرى، مع الحفاظ على أولويات الولايات المتحدة السياسية والاقتصادية والعسكرية، وإعطاء الواقعية السياسية هامشًا واضحًا في نهجها، لأن الظروف السياسية الحاليّة في العراق تتداخل مع التطورات الإقليمية والدولية، وطالما أن حلفاء إيران في العراق، يطرحون أنفسهم اليوم ضمن معادلة إقليمية تتجاوز الحدود العراقية، فإن التعاطي الأمريكي معهم، سيكون وفق منظور إستراتيجي شامل، يعالج وضعهم السياسي والأمني العام، وليس في العراق فقط.