ترجمة وتحرير: نون بوست
فليحترس العالم: لقد كانت الترامبية مقبلة منذ أمد طويل، وستبقى لوقت أطول، فهي تهدد بمطاردتنا لأبعد نقطة في المستقبل، وبحلول الوقت الذي ستختفي فيه، قد لا يكون ما أسماه الرئيس الأمريكي جو بايدن يوم الخميس “التجربة الأمريكية” يمكن تمييزها؛ أو حتى إنقاذها.
هذا هو أكثر استنتاج جدير بالاعتماد والذي يمكننا استخلاصه من المشهد الخبيث للأشهر الـ 20 الماضية منذ أن تم جر الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب وهو يركل ويصرخ خارج البيت الأبيض، بعد أن سعى إلى تدمير ما تبقى من النظام الدستوري الأمريكي من خلال إثارة حشد حريص على شنق نائبه “بتأييد ترامب”، كما لا يبدو أن أي شيء فعله خليفة ترامب – بايدن – قد أخضع شبح ترامب؛ على النقيض من ذلك؛ اعتمد بايدن الكثير من أجندة ترامب الشعبوية “أمريكا أولاً” حتى عندما أدان مؤخرًا حركة ترامب ووصفها بأنها “شبه فاشية”.
وعلى نحو مماثل، فإن القليل جدًا الذي نتج من جلسات الاستماع في الكونجرس حول تمرد 6 كانون الثاني/ يناير 2021، والمقرر استئنافه في أيلول/ سبتمبر، يبدو أنه يغير آراء ملايين المؤيدين لترامب، فوفقًا لاستطلاع أجرته جامعة مونموث في أوائل آب/ أغسطس بعد ثماني جلسات استماع، والذي كشف تفاصيل لم يكشف عنها من قبل عن كيف حرض ترامب على التمرد في مبنى الكابيتول السنة الماضية، يعتقد حوالي 40 في المئة فقط من الجمهوريين أن ترامب ارتكب أي خطأ – وهو ما يشكل تقريبًا نفس النسبة المئوية قبل بدء جلسات الاستماع – ولا يزال 61 في المئة من الجمهوريين يتبنون ادعائه الكاذب بأن الانتخابات كانت مزورة.
رغم أنه قد تم تفريق الغوغاء في 6 كانون الثاني/ يناير، ومحاكمة أكثر من 900 من المشاركين المزعومين، إلا أن اللاأخلاقية الغاضبة لتلك الغوغاء لا تزال تهيمن على الحزب الجمهوري، مما يجعل العديد من مسؤوليه المنتخبين والمعينين مجرد متملقين للأكاذيب الترامبية.
الفارق الوحيد لترامب هو أنه كان أفضل في تلك الأكاذيب من أي جمهوري سبقه، ووصل في لحظة من التاريخ سمح فيها الإنترنت بدس الأكاذيب بشكل أعمق وعلى نطاق أوسع من أي وقت مضى
ويعد هذا خطرًا جسيمًا لدرجة أن بايدن، في خطابه يوم الخميس في قاعة الاستقلال في فيلادلفيا، أعلن أن ترامب وما أسماه بايدن “جمهوريو ماجا” – في إشارة إلى حركة ترامب اجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى – “يمثلان تطرفًا يهدد دعائم جمهوريتنا”.
لماذا تبدو ظاهرة ترامب وكأنها راسخة؟ يسعى عدد كبير من الكتب الجديدة والقادمة إلى إخبارنا. في أحدهم، الذي بعنوان المدمرون: الانهيار الذي دام خمسة وعشرين سنة للحزب الجمهوري، تقطع دانا ميلبانك، كاتبة العمود في واشنطن بوست، شوطًا طويًلا في شرح سبب استمرار آثار أظافر ترامب على أبواب المكتب البيضاوي، ولماذا يعتقد الكثير من الناس أنه أُجبر على الخروج على نحو غير منصف؛ حيث كتبت ميلبانك أن ترامب لم ينشأ من العدم مثل “نشأة فينوس في الأسطورة من صدفة”، وإنما بالأحرى، كان “وحشًا خلقه الجمهوريون على مدى ربع قرن، فهو أحد أعراض مرضهم وليس المسبب له”.
وكتبت ميلبانك أن السبب وراء وصول ترامب دون عناء إلى السلطة، وبقليل من المعارضة، هو أنه كان يشق طريقه عبر أنقاض ما كان في السابق الأجندة المؤسسة للجمهورية، فقد تفشت أكاذيب ترامب بمنتهى السهولة لأن القاعدة الحزبية تعرضت بالفعل لجيل كامل من الأكاذيب والتلميحات المبطنة الشريرة المماثلة لتلك التي يفضل ترامب استخدامها؛ حيث سعى القادة الجمهوريون إلى استرضاء قاعدتهم البيضاء المتقلصة بأناشيد شعبوية ونداءات عن أهمية كونهم أصليين، خاصة المشاعر المناهضة للهجرة.
الفارق الوحيد لترامب هو أنه كان أفضل في تلك الأكاذيب من أي جمهوري سبقه، ووصل في لحظة من التاريخ سمح فيها الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي والأخبار التلفزيونية المنقولة بالكابل على مدار 24 ساعة؛ بدس الأكاذيب بشكل أعمق وعلى نطاق أوسع من أي وقت مضى. وبدءًا من سنة 1992 مع بات بوكانان – الشعبوي من نواح كثيرة للحزب الجمهوري الحديث – وصعود نيوت جينجريتش الغاضب إلى منصب المتحدث باسم مجلس النواب بعد سنتين؛ قام متمردو الحزب بالعديد من التجارب التي أظهرت، مرارًا وتكرارًا، “القوة السياسية لكذبة مكررة بلا نهاية”.
حتى أن جينجريتش وأسلاف ترامب الآخرين ورثوه مفرداته: ففي سنة 1990، “أرسلت لجنة العمل السياسي لجينجريتش مذكرة بالبريد إلى المرشحين الجمهوريين للمكتب العام توجههم إلى الفنون الجميلة المتمثلة في شيطنة الديمقراطيين”، وفقًا لما كتبته ميلبانك. ومن بين المصطلحات الموصي بها لتشويه سمعة حزب المعارضة: “الخونة” و”السرقة” و”غير الأكفاء” و”مناهضة العلم”. وقد أنذرت أكاذيب ترامب التي لا يمكن دعمها بشأن انتخابات 2020 منذ أكثر من عقدين من الزمان؛ بمزاعم غير منطقية بنفس القدر حول فينس فوستر، محامي البيت الأبيض الذي توفي منتحرًا في وقت مبكر من إدارة الرئيس الأمريكي بيل كلينتون، فعلى الرغم من الأدلة الدامغة على أن فوستر مات منتحرًا، أصر النائب آنذاك دان بيرتون وغيره من الجمهوريين البارزين “بمساعدة قاضي المحكمة العليا المستقبلي بريت كافانو، الذي كان آنذاك عضوًا جمهوريًا يكتب آراء قانونية” على مقتل فوستر على يد بيل وهيلاري كلينتون، وكانت تلك فقط البداية.
وكتبت ميلبانك: “قبل الكذبة الكبيرة بشأن انتخابات 2020، اختلق الجمهوريون تشهيرات حول” لجان الموت ” لقانون أوباما كير، والاتهام الباطل بأن صدام حسين ارتكب حادثة 11 آب/ سبتمبر، وتيار لا نهاية له من نظريات المؤامرة التي تقول إن بيل وهيلاري كلينتون لم يكونا سوى قتلة متسلسلين”.
الفرق هو أنه في حين أن هذه الإصدارات التجريبية من ترامب تعثرت في النهاية بسبب المبالغة، إلا أن ترامب قد أظهر أن المبالغة لم تعد مشكلة في أمة مستقطبة لدرجة أن كل ادعاء من قبل الطرف الآخر يعتبر خاطئًا عند قوله؛ “في النهاية تطلب الأمر حقيقة مصغرة لا يمكن إنكارها، وهي كوفيد-19 لتحويل غالبية الناخبين ضده”. اليوم؛ الحزب الجمهوري هو أكثر بقليل من مجرد طائفة ترامبية، أو ربما عائلة تشبه المافيا يديرها عراب سياسي عديم الرحمة – يطلق عليه دون دونالد – مبنية على الفساد والرشاوي والخداع الذي لا نهاية له، ويفتقر فقط إلى القتلة المأجورين الفعليين، بأي طريقة تريد تعريف “الغوغاء”، فهذه هي قاعدة الغوغاء.
لم يتبق سوى بعض أو لا شيء من حزب دافع ذات مرة عن النزعة المحافظة العقلانية والتسوية. في سنة 2016؛ أصر زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ الأمريكي ميتش ماكونيل لصحيفة بوليتيكو على أن ترامب “لن يغير الفلسفة الأساسية للحزب”، كما كتب مارك ليبوفيتش متهكمًا في كتاب جديد آخر، بعنوان شكرًا لك على استرقاقك: واشنطن دونالد ترامب وثمن الخضوع: “تبين أن هذا صحيح بنسبة 100 في المئة، باستثناء” فلسفة ترامب الأساسية” في السياسة الخارجية والتجارة الحرة وسيادة القانون والعجز، والتساهل مع الديكتاتوريين والنشاط الحكومي والقيم العائلية والتشديد الحكومي والخصوصية والمزاج المتفائل، وكل صفة إيجابية طمح إليها الحزب الجمهوري، في أفضل حالاته قبل ظهور ترامب”، كما أضاف ليبوفيتش أنه بحلول الوقت الذي بدأت فيه انتخابات 2020؛ “لم يكلف الحزب نفسه عناء وضع أهداف جديدة، لأول مرة منذ سنة 1856”.
يشرح ليبوفيتش بالتفصيل كيف أن “الجمهوريين العاديين قد انسجموا – واحدًا تلو الآخر – مع غوغاء ترامب، وشكلوا موكبًا للجمهوريين المستعدين للتخلي عن كل مبدأ تبنوه سابقًا بغرض البقاء في المنصب”. وقد فهم معظمهم منذ البداية، نوايا ترامب، فقد لاحظت نيكي هالي، حاكمة كارولينا الجنوبية آنذاك، قبل انتخابات سنة 2016، أن ترامب يمثل “كل ما نسمعه وكل ما نعلم أطفالنا ألا يفعلوه في رياض الأطفال”، وقد وصفه حاكم ولاية تكساس السابق ريك بيري بأنه “كرنفال ينبح”، في حين وصفه السناتور ليندسي جراهام بأنه “متعصب فيما يتعلق بالعرق وكاره للأجانب ومتعصب ديني”، ووصفه السناتور تيد كروز بأنه “غير أخلاقي” و”جبان باكي“. ومع ذلك؛ أصبحوا جميعًا – بدلًا من ذلك – يسخرون من أنصار ترامب، وقد هُزمت النائبة ليز تشيني، ألد خصوم الحزب لترامب، في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري في وايومنغ بفارق 40 نقطة تقريبًا؛ حيث يكاد يكون من المؤكد أن حياتها المهنية السياسية – على الأقل في الحزب الجمهوري – قد انتهت.
هل هناك أي سبيل للتراجع عن الترامبية؟ أي خطة على الإطلاق؟ قال عضو جمهوري سابق في الكونغرس لـ ليبوفيتش: “نحن فقط ننتظر موته”، ومن المؤكد أن انسحاب ترامب الدائم من المشهد سيساعد على ذلك نظرًا لأنه لم يسبق وأن سيطر أي شخص مَرَضِي مثل ترامب على السياسة الوطنية، ومن المرجح أن يتطلب القيام بذلك من قبل شخص خبيث جدًا ولا يمكن التنبؤ به بعض الوقت. وفي كتاب آخر سيصدر قريبا بعنوان “الحاجز: ترامب في البيت الأبيض، 2017-2021″ والذي كتبه كل من بيتر بيكر وسوزان جلاسر، لا تزال بعض المؤسسات الأمريكية صامدة؛ والأهم من ذلك صمود أقوى جيش في العالم.
وفي مقتطف نُشر في آب/أغسطس؛ كتب بيكر وجلاسر أنه على مدار السنوات الأربع المضطربة من رئاسة ترامب، غالبًا ما كان الجيش – الذي عادة ما يكون لاعبًا مركزيًّا في الانقلابات الناجحة في البلدان التي تمتلك جيوشا أكثر استقلالية – يتمكن من إحباط جهوده، بما في ذلك جهود يوم 6 كانون الثاني/يناير 2021 وقد كتب بيكر، مراسل صحيفة “نيويورك تايمز”، وجلاسر، الكاتب في صحيفة “نيويورك”: “اتضح أن للجنرالات قواعد ومعايير وخبرات، وليس ولاءً أعمى”.
وتذرع ترامب في وقت من الأوقات بجنرالات أدولف هتلر كنماذج للسلوك؛ عندما كان غير راضٍ عن مقاومة البنتاغون لمطالبه المتعلقة بنشر جنود في الخدمة الفعلية لسحق احتجاجات العدالة العرقية المحلية في صيف سنة 2020 (أراد ترامب التذرع بقانون الانتفاضة نادر الاستخدام لسنة 1807)؛ وفي الأيام التي أعقبت انتخابات سنة 2020، خشي رئيس هيئة الأركان المشتركة مارك ميلي من أن ترامب قد يلجأ إلى الأحكام العرفية، وكتب بيتر وجلاسر أن تبني ترامب – شأنه شأن هتلر- لأكاذيبه الخاصة المتعلقة بالانتخابات سيقوده إلى السعي وراء “لحظة الرايخستاغ” عندما أشعل أتباع هتلر النار في البرلمان الألماني للسيطرة على البلاد سنة 1933، وفي الأسابيع التي تلت الانتخابات؛ طمأن ميلي الديمقراطيين المقربين من بايدن بأنه لن يسمح لترامب باستخدام الجيش للبقاء في السلطة، وأنه في 6 كانون الثاني/ يناير قام مع وزير الدفاع بالوكالة كريستوفر ميللر بإرسال قوات الحرس الوطني إلى مبنى الكابيتول لوقف التمرد.
ومع ذلك؛ وضع ترامب سوابق مشينة يمكن أن تدوم طويلًا، بما في ذلك عدم الرغبة في قبول نتائج الانتخابات والتداول السلمي للسلطة، وقد يواجه في الوقت الراهن لائحة اتهام لسوء التعامل مع وثائق سرية بعد مغادرته منصبه، وهو أمر من غير المرجح أن يوقفه (أو يوقعه في السجن)، وإذا ما تمكن من ترسيخ هذه السوابق في سنة 2024، فيمكن دعمه بمجموعة من مسؤولي الدولة المتحالفين معه والذين يترشحون لمناصب مسؤولة عن المصادقة على الانتخابات – ويؤمن الكثير منهم بما وصفه البعض بـ “الكذبة الكبيرة”.
تُبرز متانة ترامب والترامبية الكثير من العيوب الأعمق في النظام السياسي الأمريكي، ففي العديد من الكتب والمقالات؛ يشكك العلماء في الآباء المؤسسين ودستور الولايات المتحدة بوقاحة نادرُا ما تُسمع من قبل. ضع في اعتبارك المؤسسة غير الديمقراطية السخيفة مثل مجلس الشيوخ الأمريكي، مع نفس القوة التصويتية المخصصة للولايات الحمراء ذات الكثافة السكانية المنخفضة مثل داكوتا الشمالية ووايومنغ مثل الولايات الزرقاء المكتظة بالسكان مثل نيويورك وكاليفورنيا، ومجلس الشيوخ منقسم بنسبة 50/50؛ وهو ما سمح بالكاد لبايدن أن ينفذ أكبر خططه التشريعية، لكن في الحقيقة؛ يمثل أعضاء مجلس الشيوخ الديمقراطيين ما لا يقل عن 40 مليون أمريكي أكثر مما يفعل الجمهوريون.
وتسببت مشاكل نظام الهيئة الانتخابية التي لا تعكس دائمًا التصويت الشعبي في حدوث تداعيات قليلة في الماضي، ولكن في آخر ست انتخابات رئاسية أمريكية؛ سمحت الهيئة الانتخابية لرئيسين – ترامب وجورج دبليو بوش، وكلاهما من بين الأكثر كارثية في تاريخ الولايات المتحدة – بتولي المنصب على الرغم من خسارة التصويت الشعبي، أما أحْدثُ خرق للسلم المدني؛ وهو إلغاء حقوق الإجهاض الفيدرالية، جاء من المحكمة العليا والتي تغلبت فيها الإيديولوجية الحزبية بوضوح على مقتضيات العدالة.
دستور الولايات المتحدة نفسه، الذي كان يُعتبر يومًا ما كتابًا مقدسًا، “مكسور”، كما كتب مؤخرًا اثنان من علماء القانون، رايان د. دورفلر من جامعة هارفارد وصمويل موين من جامعة ييل. لقد جادلا بأن الدستور “متصل” بالعديد من الميزات القديمة، مثل مجلس الشيوخ والهيئة الانتخابية، المصممة لعرقلة التغيير، “وهذا هو السبب في أنه يخدم الرجعيين بشكل جيد”. لقد جادلوا بأن الدستور “متصل” بالعديد من الميزات القديمة ، مثل مجلس الشيوخ والهيئة الانتخابية ، المصممة لعرقلة التغيير ، “وهذا هو السبب في أنه يخدم الرجعيين بشكل جيد”.
لقد تبنى اليمين المتطرف الحجة القائلة بأن الديمقراطية الأمريكية تتضرر أيضًا بشكل لا يمكن إصلاحه. ففي ولاية أريزونا؛ دعا المرشح الجمهوري لعضوية مجلس الشيوخ الأمريكي، بليك ماسترز، علانية إلى تفكيك العديد من مؤسسات الديمقراطية الأمريكية، التي وصفها بأنها “عالم جحيم بائس”، وكذلك الملياردير في وادي السيليكون بيتر ثيل، الذي صرح ذات مرة: “لم أعد أعتقد أن الحرية والديمقراطية متوافقان”.
في الماضي؛ كانت هذه المخاوف بشأن العيوب في النظام الدستوري – هشاشته أمام الرئاسات الإمبريالية، وعدم المساواة والتلاعب في توزيع الدوائر، وما إلى ذلك – تميل إلى التلاشي، على الرغم من أنه لم يتم تصحيحها أبدًا، لأن النظام أصلح نفسه على النحو الذي أراده المؤسسون. فخلال فترة الذعر الأحمر في الخمسينيات من القرن الماضي على سبيل المثال، وقف زملاء السيناتور الديماغوجي، جوزيف مكارثي، الجمهوريون في وجهه – في نهاية المطاف – متغلبين على التهديد الذي شكله هو وحملته المكارثية على العملية الديمقراطية. وفي ذروة قضية ووترغيت؛ ضغطت مجموعة من المشرعين الجمهوريين الأقوياء – السيناتور باري غولدووتر وزعيم الأقلية في مجلس النواب جون جاكوب رودس وزعيم الأقلية في مجلس الشيوخ هيو سكوت – على رئيس الولايات المتحدة آنذاك ريتشارد نيكسون للاستقالة، وقد فعل، وظلت التهديدات المتطرفة الأخرى للنظام مثل جمعية جون بيرش على الهامش.
إن استمرار حشد ترامب أكثر إثارة للقلق، فترامب هو الديماغوجي الأول في تاريخ الولايات المتحدة، ليس فقط ليكون رئيسًا حقيقيًا ولكن أيضًا ليبقى صانع الملوك بعد ذلك بوقت طويل؛ وهو تناقض صارخ مع معظم المرشحين الرئاسيين الخاسرين، الذين يختفون سريعًا في مكان غير مهم. وكما قال المذيع السابق في قناة “إم إس إن بي سي”، برايان ويليامز، عند تقاعده: “امتد الظلام في ضواحي المدينة إلى الطرق الرئيسية والطرق السريعة والأحياء”، وأضاف ويليامز على الهواء في أواخر سنة 2021، كما يروي ليبوفيتش، إن كبار المسؤولين المنتخبين في أمريكا اختاروا “الانضمام إلى الغوغاء وأن يصبحوا شيئًا لا يشبههم. لقد قرروا حرق كل شيء معنا في الداخل”.
لقد هلكت الجمهوريات في الماضي – وبدأت الحروب الأهلية – لأسباب أقل أهمية، فوفقًا لاستطلاع جديد مثير للذهول أجرته شركة “يوجوف” وصحيفة “ذا إيكونوميست”، فإن أكثر من 40 في المائة من الأمريكيين يعتقدون أن الحرب الأهلية ستكون محتملة إلى حد ما على الأقل في العقد المقبل، وفي استطلاع حديث آخر، اتفق أكثر من 40 في المائة من المستجيبين على أن “وجود زعيم قوي لأمريكا أهم من وجود ديمقراطية”، وأن “الأشخاص البيض المولودين في أمريكا يتم استبدالهم بالمهاجرين”.
لكننا هنا نحتاج إلى تحليل أعمق للاتجاهات التي استمرت لجيل طويل والتي أوصلت إلى ترامب؛ فإذا لم يكن ترامب قد ظهر من العدم، كما كتب ميلبانك، فإن ذلك لم يحدث مع غينغريتش وبوكانان أيضًا. فالكذب لم يكن مجرد تسوية مؤقتة؛ حيث حظيت الشعبوية والوطنية بقدر كبير من الجاذبية – وكانت الشعبوية الترامبية في الحقيقة هي الجانب الآخر، وإن كان الأكثر شراسة، من عملة السيناتور الأمريكي بيرني ساندرز من اليسار- لأن كلا الحزبين السياسيين قد خذل الشعب الأمريكي بسياسة سيئة أدت إلى تفاقم عدم المساواة والظلم. كما أن بعض هذه الكتب لا تستكشف بطريقة أعمق كيف أدى الإنترنت إلى تجزئة الرأي العام والسماح للأكاذيب بالانتشار على نطاق أوسع وبشكل أكثر ديمومة من أي وقت مضى، مما أدى إلى تحويل شعار الولايات المتحدة التقليدي: “من بين الكثرة تولد الوحدة”، إلى كثرة دون بقاء الكثير مما يوحدها معًا.
وينسب ميلبانك تزايد الأكاذيب والديماغوجية في الحزب الجمهوري – ووضعه الحالي على أنه “فصيل استبدادي يحارب الديمقراطية” – إلى حد كبير إلى العرق، فقد خذلت الوسائل الديمقراطية الحزب بينما أصبحت أمريكا أقل بياضًا من الناحية الديموغرافية؛ حيث كتب: “عبر المنافسات الرئاسية الثمانية منذ سنة 1988، فاز مرشح الحزب الجمهوري بالتصويت الشعبي مرة واحدة فقط في سنة 2004”.
كان للاختلافات الطبقية الناشئة علاقة كبيرة بالاستقطاب السياسي الحادث اليوم مثلها مثل العرق، مما يساعد أيضًا في تفسير استمرار الانجذاب الشعبي للترامبية
كان للعرق علاقة كبيرة بتطرف الحزب الجمهوري ومحاولاته التلاعب بالانتخابات المستقبلية من خلال التلاعب في الدوائر الانتخابية واستبعاد الناخبين غير البيض؛ ففي كتاب آخر صدر مؤخرًا اسمه: أنصار: المحافظون الثوريون الذين أعادوا صياغة السياسة الأمريكية في التسعينيات، كتبت نيكول همر، الباحثة في جامعة فاندربيلت، أنه حتى قبل انتهاء عهد رونالد ريغان، كان ما يسمى باليمين الجديد ينهض، تحركه المعارضة لبرنامج “المجتمع العظيم”، وتحديدًا قانون الحقوق المدنية لسنة 1964 وقانون حقوق التصويت لسنة 1965.
تم دعم هذا الاستنتاج في السنوات الأخيرة من خلال كتاب قوي صدر لسنة 2020 كتبه إدواردو بورتر، كاتب العمود الاقتصادي في صحيفة نيويورك تايمز اسمه: السم الأمريكي: كيف دمر العداء العنصري وعدنا، والذي جادل بأن العداء العنصري بسبب تقلص عدد السكان البيض، الذي يعود إلى نصف قرن أو أكثر، أدى إلى ظهور حزب الشاي وعرقلة الجمهوريين تقريبًا لكل جدول أعمال تقدمي. وأكد بورتر أنه منذ الصفقة الجديدة، تم كسر عقد الرعاية الاجتماعية للأمة بشكل قاتل بسبب العداء تجاه المستفيدين من الأقليات من جانب البيض الذين “لا يرغبون في مشاركة فضل الدولة مع أشخاص من أعراق ومعتقدات وتراث وألوان مغايرة”.
ومع قدوم ترامب؛ بانيًا حملته على تحدي شرعية ميلاد أول رئيس أمريكي من أصل أفريقي، أصبحت قضية العرق كومة جافة سريعة الاشتعال بشكل خطير، وبالتالي، فإن انتصار ترامب المذهل في عام 2016 كان له علاقة كبيرة بما وصفه الخبير السياسي فان جونز بـ “العنف الأبيض” (علامة على “رد الفعل الأبيض العنيف”). وقال لي جوزيف إيليس، المؤرخ الرئاسي، في سنة 2020 خلال ذروة حركة الاحتجاج التي اندلعت بسبب مقتل جورج فلويد: “ما كشفه ترامب في رئاسته هو أن هناك جزءًا كبيرًا من الشعب الأمريكي لم يقبل أبدًا الآثار الكاملة لحركة الحقوق المدنية”.
إلا أن هناك المزيد في القصة؛ فقد كان للاختلافات الطبقية الناشئة علاقة كبيرة بالاستقطاب السياسي الحادث اليوم مثلها مثل العرق، مما يساعد أيضًا في تفسير استمرار الانجذاب الشعبي للترامبية. فمن الناحية الجيوسياسية والاجتماعية، هناك شيئين رئيسيين قادا التحول الجمهوري الذي استمر لجيل طويل؛ أولًا: انتهاء الحرب الباردة، مما حرم ريغان من أكبر قضية موحِدة بالنسبة له. وبعد ذلك وبالتدريج؛ بدءًا من عهد كلينتون في أعقاب انهيار اقتصاديات القيادة على النمط السوفيتي، بدأ الديمقراطيون في الميل إلى رسالة اليمين الريجانية للأسواق الحرة؛ حيث تبنوا أيضًا نظرية “الأثر الانتشاري”؛ مثل الانصياع إلى وول ستريت، وتحويل الرفاهية إلى “عمل”، والسماح للسياسات الضريبية التراجعية بالبقاء في مكانها.
أدى هذا إلى تحويل محور الأجندة الاقتصادية إلى اليمين بشكل حاد، مما ترتب عليه تحويل التيار الديمقراطي الرئيسي إلى “جمهوريي أيزنهاور” – كما أعرب بيل كلينتون عن أسفه – وتحويل الجمهوريين المعتدلين سابقًا إلى متعصبين مناهضين للحكومة قاوموا أي برامج جديدة تهدف إلى التخفيف من عدم المساواة، وكان كلا الحزبين مذنبين في تشويه سمعة دور الحكومة في إنقاذ الطبقة الوسطى، لأن الصدمة الصينية المزعومة والازدهار التكنولوجي أهلكا سبل عيش غير المتعلمين، مما أدى إلى رد فعل عنيف ضد التجارة الحرة.
وأدى هذا الاتجاه بدوره إلى الحملة الرئاسية لقطب الأعمال روس بيروت لسنة 1992 – مثل بوكانان شعبوي منشق عن الأفكار الرئيسية للحزب الجمهوري- والذي كان التكرار الأول للأجندة الحمائية التي تبناها ترامب لاحقًا (والتي تبناها بايدن جزئيًّا). كما تحرك كلا الحزبين يمينًا بشأن الهجرة كذلك، وأدى ذلك إلى إثارة الجناح التقدمي في الحزب الديمقراطي – وأدى إلى زيادة شعبية ساندرز المذهلة – والتي بدورها دفعت الجمهوريين إلى المزيد من الاتجاه اليميني، وفي ظل تلك الدوامة الشريرة – والفتنة الناشئة – صعد ترامب.
لذلك هناك الكثير من اللوم الذي يجب تحمله؛ ففي واحدة من أكبر المفارقات اليوم هي أن ليز تشيني تحظى بالإعجاب باعتبارها أكبر معارضة جمهورية ضد ترامب، ومع ذلك فقد لعب والدها ديك تشيني دورًا كبيرًا كنائب للرئيس جورج دبليو بوش في تدمير الأجندة الجمهورية نفسها التي جعلت ترامب ممكنًا، لا عن طريق حرب العراق الكارثية والمكلفة فقط؛ والكذبة التي رعاها تشيني حول العلاقة الزائفة بين العراق و11 سبتمبر، والتي غذت حركات التمرد لأوباما وترامب لاحقًا، ولكن أيضًا عندما دافع تشيني بلا هوادة عن المزيد من التخفيضات الضريبية، وأظهر وزير الخزانة الأمريكي في فترة ولايته الأولى، بول أونيل، قلقه بصوت عالٍ في اجتماع بشأن العجز المتزايد، فصرخ تشيني قائلاً: “لقد أثبت ريغان أن العجز غير مهم”.
يتمنى المرء أن يكون هناك ما يشبه الخط الساخن للانتحار متاحًا للديمقراطية، لكن الجمهوريين ليس لديهم من يهاتفونه إلا أنفسهم
يعود الفضل بشكل كبير إلى نفوذ تشيني في فشل محاولة بوش أن يكون خليفة لريغان – “المحافظ الرحيم” – عن طريق توجيهه الخاطئ فيما يسمى بالحرب على الإرهاب والفشل الكارثي للرقابة الحكومية التي أدت إلى الأزمة المالية والركود العظيم لسنة 2008؛ حيث تركت عواقب كل هذه السياسات أثرياء أكثر ثراءً والفقراء أفقر، كما كتب الخبير الاقتصادي جوزيف ستيغليتز.
لقد عمل بايدن بجد لتصحيح هذه التفاوتات دون أي مساعدة تقريبًا من الحزب الجمهوري، كما يتضح من موقف الحزب في خطة بايدن التحفيزية لسنة 2021 وقانونه الأخير لخفض التضخم. والسؤال الحقيقي الوحيد المتبقي هو ما إذا كانت التجربة الأمريكية غير قابلة للإصلاح بعد أن أصبح أحد حزبيها السياسيين الرئيسيين شريرًا تمامًا؟ فقد كتب جون آدامز، الرئيس الثاني للأمة، في عام 1814: “تذكروا، الديموقراطية لا تدوم طويلاً. سرعان ما ترهق وتقتل نفسها. فليس هناك ديمقراطية قط لم تنتحر”.
يتمنى المرء أن يكون هناك ما يشبه الخط الساخن للانتحار متاحًا للديمقراطية، لكن الجمهوريين ليس لديهم من يهاتفونه إلا أنفسهم.
المصدر: فورين بوليسي