منذ تعاقب السلطات الحاكمة للأراضي الفلسطينية عبر الأزمنة الماضية، كان المسجد الأقصى مطمعًا للسيطرة عليه وطمس معالمه الدينية والتاريخية، لكن العثمانيين – طوال فترة حكمهم التي استمرت لأربعة عقود -، حافظوا عليه، فعينوا “الدرك” على بواباته العشرة لمنع دخول غير المسلمين إليه.
وكان المسجد الأقصى ولا يزال وجهة زائري مدينة القدس من المسلمين وغيرهم، ومنذ عقود طويلة كانت تأتي مجموعات من السياح العرب والأجانب، بأهداف مختلفة، فمنهم من جاء للبحث والتنقيب الأثري، وغيرهم تسلل لإحراق معالم المسجد، وآخرون جاءوا للصلاة فيه باعتباره أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين.
استغل الاحتلال الإسرائيلي تاريخ السياحة في الأقصى لبسط نفوذه وسيادته من أجل تهويده وفرض التقسيم الزماني والمكاني عليه عبر الاقتحامات اليومية الممتدة منذ عشرين عامًا بشكل متواصل وتسيير رحلات لطلبة المدارس التوراتية، بالإضافة إلى إدخال سياح أجانب من ديانات مختلفة لممارسة طقوسهم البوذية والسيخية وغيرها من أجل استفزاز مشاعر المسلمين.
يستعرض “نون بوست” أبرز محطات السياحة التي شهدها المسجد الأقصى وكيف استغلت سلطات الاحتلال الإسرائيلي سيطرتها على القدس سنة 1967، رغم أن هناك شرعية يهودية صادرة عن الحاخامات اليهود تقتضي بحرمة دخوله بسبب ما يسمونه “الصعود إلى جبل الهيكل” – أي كأنهم يدوسون الهيكل وهم يسيرون في باحات الأقصى -.
تاريخ السياحة في الأقصى
يعود تاريخ السياحة في الأقصى إلى العصر العثماني، حين كان يمنع دخول غير المسلمين للمسجد بما فيهم الأمراء والملوك إلا بموافقة “حرّاس التكارنة” – من الجالية الإفريقية التي تسكن اليوم عند باب المجلس -، واستمر منع غير المسلمين من دخول الأقصى حتى أواخر الدولة العثمانية وضعفها، عندما بدأ يتسلل بعض الأجانب إليه على هيئة علماء آثار.
وبعد انهيار الدولة العثمانية وفي فترة الانتداب البريطاني تشكل المجلس الإسلامي الأعلى عام 1922 واستلم زمام الأمور، ومعه انتظم دخول الزوار الأجانب للمسجد الأقصى بأذونات خاصة مختومة من “شيخ الحرم” أو إدارته.
وهنا يؤكد المرشد المقدسي إيهاب الجلاد أن السياحة في الأقصى مهمة جدًا بالنسبة للحقب التاريخية التي مرت بها، حيث بدأت في أواسط القرن الـ19 وتحديدًا عام 1860 حين سمحت السلطات العثمانية بدخول أمير أوروبي، وكانت الحادثة حينها غير عادية، واعتقد الجميع بـ”اقتراب موعد القيامة”، فبحسب معتقداتهم بمجرد دخول سائح أجنبي ستقوم القيامة، خاصة أنه في الفترة الصليبية لم يدخل المسجد أجنبي.
وبحسب إطلاعه، فقد تبدل في زمن الحكم البريطاني وأصبحت السياحة في الأقصى رسمية، حيث تباع التذاكر في قبة يوسف وصحن الصخرة ويسمح للسياح بالدخول من ثلاثة أبواب وهي “السلسلة والمغاربة والناظر”.
استمرت السياحة بتوافق ما بين وزارة الأوقاف الأردنية والسلطات الإسرائيلية مع بداية احتلال مدينة القدس 1967، ثم انقطعت لعدة أشهر بعد حريق اندلع في المسجد القبلي، وبقي الحال كما هو عليه إلى وقت اقتحام الأقصى وتدنيسه من رئيس الوزراء آنذاك أرئيل شارون في سبتمبر/أيلول 2000 لتندلع انتفاضة الأقصى الثانية، ثم بعدها بثلاث سنوات فرضت “إسرائيل” عودة السياحة ودخولهم من باب المغاربة حتى يومنا هذا.
الحكومة الإسرائيلية اليوم تهدف إلى إدخال أكبر عدد من المجموعات الدينية الأجنبية للأقصى لإعطاء صورة أنه تحت سيطرتها ولتعزيز عملية التقسيم المكاني والزماني
وذكر الجلاد لـ”نون بوست” أن أنواع تذاكر دخول الأقصى قبل إغلاق باب بيعها بعد اندلاع الانتفاضة الثانية، فمنها ما خصص للساحات فقط، وأخرى للمصليات جميعها، وكانت للعرب مجانًا، بينما للأجانب بعشرة دولارات.
وفي السياق ذاته يقول الباحث المقدسي روبين أبو شمسية إن هناك فرقًا بين السياحة والتنقيب الأثري في الأقصى، فالأخير بدأ بشكل مبكر منذ سنة 1872 والوحيد الذي سمحت له الدولة العثمانية بذلك عالم الآثار النمساوي كونغراد تشيك، ووقتها اكتشف الكثير من قنوات المياه تحت بلاط الأقصى وبعد التنقيب استوجب إعادة ترميمه على يد السلطان العثماني عبد الحميد الثاني.
وتطرق في حديثه إلى أن بداية الاحتلال الإسرائيلي كانت تأتي أفواج سياحية مخطط لها من وكالات سياسية يهودية وأخطرها كان سنة 1969 حين حاول الأسترالي مايكل روهان حرق منبر الأقصى، وفي 1982 انسل متطرف يهودي من بين فوج أمريكي وهاجم المصلين بقبة الصخرة وقتل اثنين من الحراس.
وضمن محاولات السيطرة على الأقصى واعتباره معلمًا سياحيًا يهوديًا، أعلن شارون قبل زيارته للمسجد واندلاع الانتفاضة الثانية، أن باحاته حديقة وطنية يسمح لأي شخص دخولها ووضع عناصر من الشرطة الإسرائيلية على جميع أبوابه بعدما كان يقتصر دخولهم على باب المغاربة فقط.
وأكد أبو شمسية أن الحكومة الإسرائيلية اليوم تهدف إلى إدخال أكبر عدد من المجموعات الدينية الأجنبية للأقصى لإعطاء صورة أنه تحت سيطرتها ولتعزيز عملية التقسيم المكاني والزماني – تحديد أماكن ومواقيت للمسلمين واليهود – كما فعلت في الحرم الإبراهيمي في الخليل جنوب الضفة الغربية.
السياحة أداة لتهويد الأقصى
بلغ الاستهداف الإسرائيلي ذروته من بوابة السياحة للمسجد الأقصى عام 2017 مع إطلاق جهات يهودية وجمعيات استيطانية مشروع (القدس 5800) الذي يديره رجل الأعمال اليهودي من أصول أسترالية كيفين بيرمستر، ويهدف إلى تحويله لمركز سياحي يقصده الزوار من مختلف دول العالم خلال الـ30 سنة المقبلة، عبر تغيير ملامحه الإسلامية.
يقول ناصر هدمي رئيس الهيئة المقدسية لمناهضة التهويد إن ما شجع الاحتلال على اقتحامات الأقصى المستمرة هو ما كان يجري زمن الوصاية الأردنية حين سمحت وزارة الأوقاف آنذاك بتنظيم جولات سياحة تستقبل الأجانب داخل الأقصى.
وأضاف “الاحتلال استغل الدخول للأقصى عبر مجموعات المقتحمين، لكن وزارة الأوقاف تصدت لهم ورفضت دخولهم حتى يغيروا سلوكياتهم، لكنها بعد سنوات انسحبت وأصبحت سلطات الاحتلال تسيطر وتنظم دخول المقتحمين والسياح، وكانت هذه النواة الأولى تجاه الاقتحامات التي يشهدها الأقصى اليوم”.
رحلات الطلبة اليهود للمسجد الأقصى تأتي لترسيخ مفهوم الرواية الإسرائيلية بفرض سيطرته على المكان
وفي الأيام الأخيرة شهد المسجد الأقصى دخول العشرات من السياح الأجانب خاصة عارضات الأزياء بلباس لا يليق بحرمة المكان، ويعلق هدمي على ذلك بالقول: “تلك الصور تهدف إلى الترويج بأن ساحات الأقصى تعتبر حدائق عامة كما يريد الاحتلال أن تكون”، لافتًا إلى أن الاحتلال يسعى ليؤكد أنه صاحب السيادة على مدينة القدس والمسجد الأقصى وهو يقرر من يدخله.
ولا يقتصر الأمر عند هذا الحد للسيطرة على الأقصى، فمنذ سنوات تشجع لجنة التعليم في الكنيست الإسرائيلي على إدراج المسجد ضمن برنامج الرحلات للمدارس الإسرائيلية، ودمج مواد تعليمية في البرنامج التعليمي لدروس التاريخ، وذلك لأول مرة منذ احتلال القدس عام 1967، ودعت إلى “إدخال موضوع جبل الهيكل والهيكل في الامتحانات وشهادة الثانوية البجروت، والتشديد على تدريس تراث الهيكل في المدارس، وتشجيع وزيادة الزيارات الطلابية والرحلات المدرسية”.
ويذكر هدمي أن رحلات الطلبة اليهود للمسجد الأقصى تأتي لترسيخ مفهوم الرواية الإسرائيلية بفرض سيطرته على المكان، لافتًا إلى أن الاحتلال يرى سيادته منقوصة طالما لم يسيطر بشكل كامل على المسجد خاصة والقدس عامة.
وأمام محاولات سلطات الاحتلال فرض واقع جديد وجلب المزيد من الأجانب وممارسة طقوس استفزازية، يبقى الأقصى بحاجة إلى دعم عربي وإسلامي لحماية هويته، والوقوف في وجه المشاريع التهويدية التي تحاول تشويه صورته.