قررت الجمعية العامة غير العادية لشركة “النصر لصناعة الكوك”، مساء 5 سبتمبر/أيلول الحاليّ، تصفية أعمال الشركة بشكل نهائي، لتُطوى صفحة الشركة بعد نحو 62 عامًا على تأسيسها، في خطوة كانت بمثابة الصدمة للمتابعين لملف قطاع الأعمال العام في مصر الذي ينفرط عقده حبة تلو الأخرى.
بهذا القرار تصبح “النصر لصناعة الكوك” الشركة الرابعة التي تمت تصفيتها منذ عام 2018، فقد سبقتها “الحديد والصلب” في مارس/آذار 2021، ومن قبلها “المصرية للملاحة البحرية” بداية 2020، وذلك بعد عامين على تصفية “القومية للأسمنت” عام 2018، فيما يبقى القوس مفتوحًا في انتظار شركات أخرى في ظل سياسة “التصفية” التي تتبعها الحكومة المصرية إزاء شركات القطاع العام.
القرار بررته الحكومة بالخسائر التي تتكبدها الشركة طيلة السنوات الماضية، فيما رد عليه ممثلو المؤسسة وبعض المطلعين على خطوط الإنتاج بها بالأرقام والإحصاءات التي تفند الأسباب التي دفعت للتصفية، في إشارة إلى وجود نية مبيتة لهدم هذا الكيان، وهو ما أثار الكثير من الشكوك بشأن تلك الإستراتيجية التي يبدو أنها تستهدف القلاع الصناعية التي كانت بالأمس حصن الأمان للدولة المصرية أوقات الأزمات.
62 عامًا من الصمود
أُسست شركة “النصر لصناعة الكوك والكيماويات” التي تعد واحدة من كبرى شركات الصناعة في الشرق الأوسط، عام 1960 بقرار من الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر، وتكونت من 4 مصانع رئيسية (مصنع الكوك والأقسام الكيماوية، مصنع تقطير القطران، مصنع النترات، والوحدة متعددة الأغراض) بجانب بعض الوحدات الخاصة الأخرى التي تخدم على تلك المصانع.
كانت باكورة الإنتاج للشركة عام 1964 ببطارية واحدة وعدد 50 فرنًا بطاقة إنتاجية 328 ألف طن كوك تعديني سنويًا، وبعد عشرة أعوام تقريبًا تم إنشاء البطارية الثانية بنفس عدد الأفران وذات الطاقة الإنتاجية عام 1974، وفي غضون خمسة أعوام أخرى كان إنشاء البطارية الثالثة بعدد 65 فرنًا وطاقة إنتاجية سنوية تبلغ 560 ألف طن كوك.
وفي عام 1993 وعدد 65 فرنًا وطاقة إنتاجية سنوية قدرها 560 ألف طن، تم إنشاء البطارية الرابعة، فيما أعيد بناء البطارية الأولى مرة أخرى لتطويرها عام 2000 والثانية 2006، وتخضع إعادة بناء البطارية الثالثة للدراسة، قبل قرار التصفية، في ضوء سياسة التطوير التي كانت تتبعها الشركة خلال العقدين الماضيين.
وتمتلك الشركة التي باتت المغذي الأول والأكثر حضورًا لشركات الحديد والصلب في مصر والشرق الأوسط، ثلاثة أرصفة تستخدمها في تسيير نشاطها: الأول بميناء الدخيلة بالإسكندرية ويختص بتفريغ الفحم الحجري بطاقة يومية قدرها 3000 طن وسعة تستوعب 100 ألف طن، والثاني بميناء الإسكندرية الرئيسي وخاص بتفريغ الفحم ومادته الخام بطاقة إنتاجية يومية 4000 طن وسعة تستوعب 45 ألف طن، أما الرصيف الثالث فيقع على نهر النيل وخاص بنقل الكوك والفحم عبر النهر بطاقة 4000 طن يوميًا.
الخسائر سبب التصفية.. بيان حكومي
البيان الصادر عن الشركة وفق المذكرة المعروضة على الجمعية العامة أرجع قرار التصفية إلى الخسائر التي تتكبدها الشركة وقدرت بنحو 339.3 مليون جنيه العام المالي الماضي فقط، وفقًا للملاحظات الواردة بتقرير الجهاز المركزي للمحاسبات، مستعرضًا بعض النقاط التي كانت دافعًا محوريًا لاتخاذ هذا القرار التي هي في الأساس خلاصة التقرير الصادر عن اللجنة المشكلة بقرار رئيس مجلس الوزراء رقم 1308 لسنة 2020 لدراسة أسباب تعثر عملاق صناعة الكوك.
النقطة الأولى تتعلق بالتكاليف الاستثمارية لإنشاء عدد 2 بطارية لإنتاج 1.8 مليون طن من فحم الكوك، كأحد مسارات تطوير الشركة، حيث تبلغ 644 مليون يورو، بخلاف الاستثمارات المطلوبة لتجديد معدات المناولة والغربلة التي تقدر بمبلغ 100 مليون يورو أي بما يعادل إجمالي تكلفة استثمارية نحو 15 مليار جنيه، وهو رقم تعتبره الحكومة كبيرًا ويفوق قدراتها في الوقت الحاليّ.
أما النقطة الثانية فتطرقت إلى سوق الفحم في العالم، لافتة إلى “عدم الاستقرار الشديد في أسعار الفحم الحجري وفحم الكوك، حيث يصل تذبذب الأسعار إلى 300% بالزيادة والنقصان، ما يجعل أي توقعات مالية مستقبلية لهذا الاستثمار غير مطمئنة ومتقلبة”، وعليه فإن المزيد من الاستثمار فيه مغامرة محفوفة بالمخاطر.
كذلك مسألة الاعتماد على الاستيراد الكامل للمادة الخام من الكوك نظرًا لعدم وجود المادة في مصر – بحسب البيان -، فضلًا عن الالتزام بالتوجه العام الدولي الخاص بالحفاظ على البيئة وتقليل الانبعاثات الملوثة، “حيث تؤثر صناعة الصلب بنسبة 7% من إجمالي الانبعاثات الكربونية، لذا تدرس الشركات الكبرى لإنتاج الصلب التحول إلى استخدام الهيدروجين في اختزال خامات الحديد بديلًا عن استخدام فحم الكوك تحت مسمى صناعة الصلب الخضراء التي من المتوقع انتشارها عالميًا في غضون 15 عامًا”.
وفي ضوء ما تضمنته دراسة اللجنة الاستشارية المشكلة بقرار وزاري، جاء قرار تصفية الشركة بشكل رسمي، خاصة بعد تصفية شركة الحديد والصلب بتاريخ 11/1/2021 التي كانت تعد المستوعب الأول والأكبر لإنتاج شركة صناعة الكوك، الأمر الذي يجعل من استمرارها غير ذي جدوى.. هكذا جاء بيان التصفية.
تشكيك في مبررات الحكومة
مبررات الحكومة لتصفية الشركة لم تقنع طيفًا واسعًا من المقربين للمؤسسة أو من المطلعين على كواليسها، وهو ما تكشفه التصريحات المتواترة منذ الحديث عن قرار التصفية، التي شككت في بيان اللجنة الاستشارية ومدى ما تضمنه من مسببات لا علاقة لها بالواقع، بحسب العديد من المصادر.
فقبل شهرين ونصف تقريبًا أدلى رئيس قطاع المصانع بالشركة، صلاح حسين جنيه، بتصريحات صحفية كشف فيها عن استعادة “النصر لصناعة الكوك” عافيتها مرة أخرى، وأنها على الطريق الصحيح، وذلك حين كشف عن أن خسارتها في عام 2020 تقدر بنحو 30 مليون جنيه فقط، وهذا رقم ضعيف ومقبول مقارنة بحجم الخسائر عام 2019 التي بلغت 237 مليون جنيه، منوهًا إلى أن الخسارة كانت بفعل فاعل دون تفصيل.
رئيس قطاع المصانع أكد أنه “من المتوقع أن تحقق شركة الكوك، 22 مليون جنيه أرباح للعام المالي الحاليّ، والشركة تلقت طلبات من عدة دول، لإبرام عقود طويلة الأجل”، وأضاف أن إنتاج الشركة التي تعد الوحيدة من نوعها في الشرق الأوسط يمكنه تغطية السوق الخارجي بما يدر عليها أرباحًا كبيرةً خلال الفترة القادمة.
كشف رئيس الشركة السيد الطيب العديد من الأمور التي تفضح مخطط وأد الشركة واقتلاعها من جذورها، بداية من توجيه الدراسة في المقام الأول للوصول إلى النتيجة الحاليّة، مؤكدًا أنه كان هناك مؤامرة للحيلولة دون تحقيق الشركة أي أرباح
الإشارة إلى أن الشركة كانت في مسار التعافي واستعادة حضورها مرة أخرى من خلال تعاقدات جديدة وأرباح متوقعة، يذهب إلى وجود نية مبيتة نحو التصفية بصرف النظر عن معدلات الأداء، وأن مبرر الخسائر ليس إلا “شماعة” لإقناع الرأي العام بهذه الخطوة وهو ما كشفه الكاتب محمد بصل، الصحفي بجريدة “الشروق” المصرية، حين أوضح أن مخطط وأد هذا العملاق الصناعي الضخم بدأ منذ خريف 2020.
استعرض الصحفي المصري العديد من الشواهد التي كانت بمثابة التمهيد لخطوة التصفية، أبرزها: تعديل لائحة النظام الأساسي للشركة وفقًا للقانون 185 لسنة 2020 بتعديل قانون قطاع الأعمال العام، بجانب تعيين رئيس مجلس إدارة جديد غير تنفيذي للشركة هو السيد الطيب، الذي كان رئيسًا للفريق الاستشاري الذي وضع تقريرًا تم على أساسه تصفية الشركة القومية للأسمنت، إضافة إلى التعاقد مع استشاري ألماني هي شركة DMF على إعداد دراسة مبدأية (مقابل 65 ألف دولار تقريبًا) عن الوضع المالي والاقتصادي للشركة ودراسة السوق وخلافه.
وفي لقاء متلفز له مع الإعلامي مصطفى بكري، كشف رئيس الشركة السيد الطيب العديد من الأمور التي تفضح مخطط وأد الشركة واقتلاعها من جذورها، بداية من توجيه الدراسة في المقام الأول للوصول إلى النتيجة الحالية، مؤكدًا أنه كان هناك مؤامرة للحيلولة دون تحقيق الشركة أي أرباح، وأن الهدف الرئيسي كان إغراقها في الديون والخسائر لتبرير تصفيتها، إلى الحد الذي طالب فيه بتدخل رئيس الجمهورية لوقف هذا المخطط.
اللقاء تضمن الرد على كل النقاط التي تطرق إليها بيان التصفية الحاليّ، وأبرزها مستقبل الإنتاج وتسويقه، مؤكدًا أن السوق المصري يمكنه استيعاب الإنتاج تمامًا، حيث تطرق إلى أن أقصى إنتاج لشركة الحديد والصلب كان مليوني طن أي كانت تستهلك طن كوك، وأن إجمالي ما تحتاجه مصانع الحديد الأخرى الخاصة (عز وبشاي والسويس والمصريين) يبلغ سنويًا 300 ألف طن، بجانب استهلاك المسابك المصرية التي تعمل بفحم الكوك نحو 100 ألف طن.
وفيما يتعلق بأسعار الخامات وارتفاعها، وتذبذب سوق أسعارها بصفة عامة، فكان يمكن تعويض ذلك بعقود طويلة الأجل، مع المزيد من الإنتاج في ضوء مؤشرات التعافي التي فرضت نفسها خلال العامين الماضيين تحديدًا، أما البعد البيئي في هذا الملف، فكان هناك اقتراح بأن يُنقل المصنع إلى مكان آخر أو عمل خطين للإنتاج في منطقة جديدة وبالقرب من المصانع والموانئ.
وفي سياق المخطط ذاته كشف عضو في اللجنة النقابية بالشركة – رفض ذكر اسمه – أن “التصفية مهد لها رفض وزارة البيئة خلال الشهر الماضي منح الشركة قرار بالتوافق البيئي، بسبب زيادة الانبعاثات عن الحد المسموح به”، وتابع “اطلعنا قبل شهور على تقرير من رئيس مجلس إدارة الشركة يصر فيه على أنها لن تتمكن من العمل نهائيًا، الذي استندت إليه الشركة القابضة للصناعات المعدنية في الترويج لضرورة تصفية الشركة، الرأي الذي تبنته وزارة قطاع الأعمال بحسب تصريحاته لـ”مدى مصر“
اللافت أن تلك التصريحات كانت في ربيع 2021، أي قبل اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية التي فرضت تحديات جديدة في مجال الاقتصاد عمومًا والصناعة على وجه التحديد، حيث دفعت كل دولة للتمسك بما لديها من صناعات وعدم التفريط فيها، هذا بجانب حاجة العالم لفحم الكوك بعد الهزة العنيفة في سوق الطاقة العالمي، ما يعني أن الإبقاء على الشركة كان واجبًا قوميًا وضرورة اقتصادية في تلك الظروف الحرجة، لكن رغم ذلك جاء قرار التصفية.
تصفية القطاع العام وبيع الأصول.. سياسة جديدة
لم تكن “النصر لصناعة الكوك” الشركة الوحيدة التي طالتها يد العبث والتصفية، كما أنها لن تكون الأخيرة، إذ بات واضحًا أن هناك سياسة مكتملة الأركان لتصفية شركات القطاع العام بصفة عامة، وهو ما شهدته الأعوام الماضية، ما بين غلق ودمج، بما يهدد مستقبل الصناعة المصرية بشكل واضح.
يذكر أن عدد الشركات القابضة في مصر يبلغ 8 شركات: القابضة للقطن والنسيج والملابس (31 شركة) والتشييد والبناء (19) والصناعات الكيماوية (17) والمعدنية (15) والنقل البري والبحري (15) والأدوية والمستلزمات الطبية (11) والسياحة والفنادق (7) وأخيرًا القابضة للتأمين وتضم 3 شركات، معظمهم تحت مجهر الاستهداف.
إن تفريغ البلاد من مواردها الاقتصادية وأصولها ينطوي على العديد من المخاطر التي تشتبك بين الحين والآخر مع سيادة الدولة واستقلالها السياسي والاقتصادي
ويبدو أن الأزمة الخانقة التي تواجهها الدولة المصرية من عجز وبطالة وفقر وتضخم وزيادة معدلات الديون لمستويات غير مسبوقة، في ظل سياسة استدانة لم تشهدها الدولة في تاريخها، حتى في المراحل التي خضعت فيها للاستعمار الأجنبي، دفعتها للبحث عن سبل إنقاذ عاجلة وسريعة دون أي اعتبارات أخرى، وذلك عبر مسارين متوازيين: الأول بيع أسهم بعض الشركات لدى القطاع الخاص المصري، والثاني بيع أصول الدولة للخارج، سواء كانت شركات أم صناديق سيادية تابعة لدول بعينها.
وبعيدًا عن تصفية الشركات الصناعية العملاقة، فتزايدت وتيرة صفقات الاستحواذ على الأصول المصرية خلال الأشهر الأخيرة بصورة غير مسبوقة، ليصل عددها إلى 233 صفقة بقيمة 9.9 مليار دولار، منها 118 صفقة خارجية بقيمة 6.5 مليار دولار، و115 محلية بقيمة 3.4 مليار دولار، بزيادة قدرها 49% في 2021 مقارنة بما كانت عليه في 2020، بحسب تقرير سابق لـ”نون بوست”.
وبعيدًا أيضًا عن البعد الإنساني الاجتماعي المهدر في هذا المخطط والمتوقع أن يزج بعشرات آلاف العمال إلى أتون البطالة ومعهم أسرهم إلى مستنقع الفقر والعوز، فإن تفريغ البلاد من مواردها الاقتصادية وأصولها ينطوي على العديد من المخاطر التي تشتبك بين الحين والآخر مع سيادة الدولة واستقلالها السياسي والاقتصادي، فهل يعي القائمون على هذا البلد تلك المخاطر وحجم ما تمثله من تهديد للأجيال القادمة؟ وإن كانت الإجابة بنعم فعلى ماذا يكون الرهان إذًا؟