يواجه الفلسطينيون في مدينة يافا المحتلة عام 1948 مخططات لتفريغ بيوتهم وتحويل وجه المدينة البحرية إلى طابع إسرائيلي بحت عبر قوانين ومشاريع تهويدية يتم تنفيذها من خلال شركات حكومة للاحتلال تستهدف ما تبقى من السكان.
ويطلق الفلسطينيون وصف “عروس البحر” على مدينتهم التي هجرت آلاف العائلات الفلسطينية منها مع سيطرة العصابات الصهيونية على المدينة عبر القوة أو حتى من خلال القوانين التي بات الاحتلال يسنها للسيطرة على المنازل الفلسطينية.
ويعد قانون “أملاك الغائبين” إحدى الأوراق التي يستخدمها الاحتلال للسيطرة على المنازل الفلسطينية في يافا أو غيرها من المدن الفلسطينية في الأراضي المحتلة عام 1948، فالقانون الذي تم سنه في 20 مارس/آذار 1950 يُعرف كل من هُجر أو نزح أو ترك حدود فلسطين المحتلة حتى نوفمبر/تشرين الثاني 1947، لأي سبب كان وبالذات بسبب حرب الاحتلال، على أنه غائب.
هذا التعريف يخول للسلطات الإسرائيلية الاستيلاء على أملاك الغائبين المهجرين الفلسطينيين، فقد كان هذا القانون بديلًا عن “إجراءات الطوارئ” التي نظمت الأمور منذ الاحتلال عام 1948 وحتى 1950 التي شهدت سن القانون.
أصدرت سلطات الاحتلال أوامر إخلاء لقرابة 400 عائلة من يافا، ويبلغ عددهم قرابة 1000 فرد، دون تقديم أي حلول لهم
يستهدف القانون منع عودة أي من المهجرين العرب “الفلسطينيين” إلى الأراضي أو الممتلكات التي تركوها قبيل النكبة أو في أثنائها أو بعدها، وهو ما حرم الكثير من العائلات من ملكيتها وجعلها ملكًا للاحتلال أو شركات إسرائيلية.
ومنذ أكثر من عام وتحديدًا مع بداية عام 2021 كثفت سلطات الاحتلال من أوامر إخلاء البيوت الصادرة، عقب استيلاء شركة “عميدار” الإسرائيلية على منازل للسكان الفلسطينيين بحجة أنها “أملاك غائبين”، وكانت مؤجرة سابقًا للفلسطينيين بمبالغ كبيرة لتطرحها للبيع فيما بعد بمبالغ طائلة.
وأصدرت سلطات الاحتلال خلال هذه الفترة أوامر إخلاء لقرابة 400 عائلة من يافا، ويبلغ عددهم قرابة 1000 فرد، دون تقديم أي حلول لهم، ما يعكس أهدافها الرامية إلى تهجير السكان وصولًا إلى إفراغها بشكل كامل ومحو مدينة يافا والمعالم التاريخية المميزة فيها، حيث إنها تضم بيوتًا قديمةً جدًا تعكس الهوية الفلسطينية وتثبت وجود الفلسطينيين منذ سنوات طويلة، كما يسعى لطمس الهوية المعمارية لها، تحت شعار التجديد والبناء الحديث.
تاريخ المدينة.. من قرار التقسيم إلى التدمير
قسَم القرار رقم 171 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947 فلسطين إلى دولتين: واحدة يهودية والأخرى عربية، ورغم أن مدينة يافا كانت مطوقة بتل أبيب وغيرها من البلدات اليهودية ضمن نطاق الدولة اليهودية المقترحة، فإنها نظرًا لأكثريتها العربية ومكانتها كعاصمة ثقافية واقتصادية لفلسطين العربية فقد ضُمت إلى أراضي الدولة العربية.
ومع نهاية احتلال فلسطين عام 1948 جرى تدمير كامل القرى العربية وعددها 26 قرية في محيط قضاء يافا وانهارت المدينة بعد أن خسرت 90% من سكانها العرب الذين بلغ تعدادهم 70 ألف نسمة قبل النكبة الفلسطينية.
وفي عام 1950 ضم الاحتلال المدينة إلى نطاق بلدية تل أبيب لتصبح بلدية مُوحدة تحت اسم “تل أبيب-يافا”، وتحويل الممتلكات التي هجرها أصحابها بما فيها البيوت والمؤسسات والمتاجر إلى شركات حكومية، بالتوازي مع الضغط على السكان الفلسطينيين ومنعهم من إحداث تغيير على أوضاعهم ومساكنهم.
وفي 1958 بلغ عدد الفلسطينيين فيها نحو 6500 نسمة، بينما بلغ عدد اليهود نحو 50 ألف نسمة، في حين قدر عددهم عام 1965 بنحو عشرة آلاف فلسطيني و90 ألف يهودي.
خضعت المدينة للتهويد بأشكال مختلفة منها تغيير المعالم والأسماء والآثار العربية والإسلامية، واستبدالها بمعالم ومسميات عبرية
وقدر عدد السكان الفلسطينيين في المدينة أواخر 2009 بنحو 15800 نسمة بارتفاع نسبته 3% عن العام الذي سبقه (2008) من مجموع سكان “تل أبيب–يافا” البالغ نحو 400 ألف نسمة، في حين قدر عدد اللاجئين الذين تعود أصولهم إليها عام 1998 بنحو 472.368 نسمة.
وقدرت مساحة أراضي المدينة عند احتلالها بنحو 17510 دونمات، معظمها للفلسطينيين، ونحو 1375 دونمًا تم تسريبها لليهود، استخدمت غالبيتها لأغراض السكن والبناء والزراعة، ومن أبرز معالم المدينة المسجد الكبير الذي يقع في البلدة القديمة، ومسجد حسن بك وكنيسة القلعة، وظل ميناؤها حتى احتلال المدنية واحدًا من أهم موانئ البحر المتوسط، إذ يعود تاريخه لأربعة آلاف عام، وظل يستقبل السفن إلى أن أغلقه الاحتلال عام 1965 وأنشأ بدلًا منه ميناء أسدود.
ظل اقتصاد المدينة حتى احتلالها يعتمد على ثلاث ركائز أساسية هي زراعة الحمضيات وخاصة البرتقال، وشركات الاستيراد والتصدير والمصارف وشركات النقل البري والبحري والمجال السياحي، بينما خضعت المدينة للتهويد بأشكال مختلفة منها تغيير المعالم والأسماء والآثار العربية والإسلامية، واستبدالها بمعالم ومسميات عبرية، إضافة لتغيير الطراز المعماري للمدينة من خلال هدم جزء كبير من المباني القديمة والقرى والأحياء المهجرة.
مخطط جديد.. سرطان الاستيطان والتهويد
يتركز المخطط في حيَيْن بالمدينة هما: العجمي والجبلية، ويعدان من أكثر المناطق كثافة، ويطلان على البحر المتوسط مباشرة، ما يكسبهما مكانةً ومركزًا إستراتيجيًا يزيد من أطماع الإسرائيليين لتفريغهما من أي وجود عربي.
ووفقًا للإحصاءات فإن الفلسطينيين يشكلون في يافا فقط ربع عدد السكان (70% منهم مسلمون، وقرابة 30% مسيحيون)، من أصل نحو 60 ألف نسمة، إذ وصل عدد سكان المدينة إلى هذا الحد المتدني، بفعل مخططات التهجير التي نفذها الاحتلال خلال العقدين الماضيين، حيث كان عدد السكان يبلغ بعد عام 1948 ما يقارب 3.900 نسمة من أصل 120 ألف نسمة، هو عددهم قبل احتلال المدينة.
واستولت شركة عميدار الإسرائيلية 1400 منزل في يافا من أصل 2800 شقة في جميع أراضي الـ48، إذ تم السيطرة على هذه المنازل إبان النكبة بموجب قانون “أملاك الغائبين”، فبعد تهجير سكانها الأصليين، قامت بتأجيرها لمن تبقى في يافا من الفلسطينيين بعد النكبة، وأسكنتهم فيها تحت بند “مستأجرين محميين”.
ووفقًا للاتفاق الذي جرى بين سكان المنازل الفلسطينيين والشركة فقد كان الاتفاق أن يسكنوا فيها وهم أحياء في حين أن بعض المنازل يسكنها الآن الجيل الثالث من أهالي يافا، بعد أن سكن الجد والأب في المنزل تحت بند “مستأجر محمي”.
تسعى الآن الشركة الإسرائيلية الحكومية لإخراج الفلسطينيين من هذه المنازل، لبيعها لمستثمرين إسرائيليين، في الوقت الذي ترفع أسعار المنازل بشكل جنوني كي لا يستطيع الفلسطيني شراء المنزل الذي سكن فيه منذ النكبة.
وتتركز مطالب الأهالي في المرحلة الحاليّة في تخفيض أسعار المنازل وبيعها لهم، لأنهم بحسب الاتفاقات القديمة مع شركة عميدار يملكون 60% من المنازل بينما تمتلك عميدار 40%، بيد أن المبالغ الطائلة التي تطلبها الشركة الإسرائيلية لبيع المنازل والعقارات للفلسطينيين فقط لتعجيزهم وسلب منازلهم.
تصدٍ شعبي
يخرج الفلسطينيون في الوقت الراهن للتظاهر إلى الشوارع بشكل شبه أسبوعي لمواجهة قرارات المصادرة التي يصدرها الاحتلال، رفضًا لما تطرحه شركة الاحتلال الحكومية وللمطالبة بحقهم في هذه المنازل باعتبارهم يسكنونها منذ عام 1948.
ويدور الحديث عن إمكانية الدخول في نزاعات قضائية مع الشركة الإسرائيلية الحكومية لمواجهة مخططات التهجير، إلى جانب تكثيف الحراك الشعبي للضغط على الاحتلال لمنع هذه المخططات التي نفذها في عدة مدن بالداخل المحتل.
ويعتبر الحراك الشعبي ورقة القوة الكبرى التي يمتلكها الفلسطينيون في مدن الداخل أمام سياسات الاحتلال، في ظل غياب الإسناد الرسمي الفلسطيني وصعوبة تبني سياسات ذات طابع مقاوم عسكري ضد الاحتلال.
ومع كل ذلك فإن الفلسطينيين في الداخل اعتادوا النضال ضد الاحتلال ومؤسساته التي لطالما سعت لأسرلتهم ودمجهم في المجتمع الإسرائيلي بما يذيب هويتهم الوطنية، لكن هبة القدس التي انطلقت عام 2021 تزامنًا مع معركة سيف القدس أكدت فشل هذه المخططات.
ورغم كل القرارات الإسرائيلية الأخيرة، فإن التحرك الفلسطيني المبكر من شأنه أن يسهم في إجهاض المساعي الإسرائيلية لإنهاء ما تبقى من وجه المدينة الفلسطيني “العربي” ويبقي على الوجود التاريخي للفلسطينيين فيها.