يبدو أن مخاوف تسليع التعليم في مصر وخصخصة القطاع برمته بدأت تلوح في الأفق بعدما كانت في السابق مجرد هواجس تداعب خيال المتشائمين، إذ خيمت على الساحة التعليمية الأعوام الماضية العديد من المؤشرات التي تسير في هذا الاتجاه المثير للقلق للكثير من التربويين والمهتمين بهذا الملف تحديدًا.
وبعدما كانت الجامعات الخاصة البعبع الذي يرعب الجميع، ظهر على مسرح الأحداث لاعب جديد لا يقل خطورة عن التعليم الخاص، وهي الجامعات الأهلية التي تنتمي في ظاهرها لوزارة التعليم الحكومية والخاضعة تمويلًا وإدارةً للحكومة، لكنها في الباطن نموذج مقنن ومقنع من الجامعات الخاصة، خاصة فيما يتعلق بالمصاريف المرتفعة والمناهج المدرسة والمنظومة التي تدير القطاع برمته.
وتشير التقديرات إلى أن هناك خطة مصرية ممنهجة للتوسع في الجامعات الخاصة والأهلية، فوفق الإحصاءات الأخيرة هناك 28 جامعة خاصة إلى جانب 20 جامعة أهلية منها 16 تابعة لجامعات حكومية، هذا بخلاف 27 جامعة حكومية، ما يعني أن الجامعات الخاصة والأهلية تقترب من ضعفي الجامعات الحكومية، مع الوضع في الاعتبار نية الدولة بناء جامعات أخرى خلال السنوات القادمة.
القفزة الكبيرة في عدد الجامعات الأهلية والخاصة من 26 جامعة عام 2014 إلى قرابة 50 جامعة في 2022، التي تضم من بينها كليات الطب البشري والأسنان والصيدلة والعلاج الطبيعي، فضلًا عن الهندسة، طرحت الكثير من علامات الاستفهام عن دوافع إنشاء تلك الجامعات ومصادر تمويلها الباهظة والهدف الحقيقي منها، وما إذا كانت ستضيف فعلًا للعملية التعليمية أم ستحول التعليم إلى سلعة لا يقدر عليها سوى الميسورين بما يهدد مستقبل الملايين من محدودي ومتوسطي الدخل.. كل تلك الأسئلة سنحاول الإجابة عنها عبر هذا التقرير.
المزيد من الجامعات الأهلية.. هل هناك حاجة؟
هناك 3 أنواع من الجامعات في مصر، بحسب أستاذ النانو تكنولوجي بجامعة زويل الخاصة، إبراهيم الشربيني، أولها: الجامعات الحكومية الخاضعة لوزارة التعليم العالي ويعين مجالس إدارتها وعمداء كلياتها بأمر مباشر من رئيس الجامعة ورئيس الجمهورية وفق التعديل الجديد، ثانيها: الجامعات الأهلية وهي المنبثقة عن الجامعات الحكومية وتكون خاضعة للحكومة، تمويلًا وإدارةً، لكنها أكثر تطورًا في مناهجها وتساير التقييمات العالمية.
هذان النوعان من الجامعات، الحكومية والأهلية، لا يهدفان إلى الربح المادي، ليأتي النوع الثالث وهو الذي يستهدف تحقيق المكاسب في المقام الأول، مع الوضع في الاعتبار الجانب التعليمي الجيد، وهي الجامعات الخاصة، التي تكون مملوكة بالكامل لأشخاص يكونون فيما بينهم مجلس إدارة وتقسم الأرباح عليهم وفق النسب واللوائح الداخلية الخاصة بكل جامعة على حدة.
خلال مشاركته في حلقة 25 أغسطس/آب 2022 من برناج “بتوقيت مصر” المقدم على شاشة “بي بي سي عربي”، أكد وزير التعليم المصري السابق معتز خورشيد، أن هناك حاجة ماسة للتوسع في إنشاء الجامعات في مصر، بما يستوعب الأعداد الكبيرة، فقد بلغ عدد الطلاب المتقدمين لامتحانات الثانوية العامة هذا العام 689.745 طالبًا وطالبةً، نجح منهم 457.062، وفق وزارة التربية والتعليم، فيما بلغ عدد الطلاب المقيدين بالجامعات والمعاهد المصرية نحو 3.4 مليون طالب للعام الجامعي 2020-2021، حسب تقرير الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء (حكومي).
وأوضح الوزير السابق أن التطورات العصرية والطفرة الكبيرة في عالم التكنولوجيا، وتداعياتها على سوق العمل ومتطلباته الجديدة، دفعت إلى ضرورة وجود جامعات نوعية ذات مستويات خاصة، تتناغم وتلك المستجدات بما يساعد في تخريج أجيال من الشباب قادرة على التعاطي مع سوق العمل الجديد.
يذهب الخبراء إلى أن التمويل مسؤولية الحكومة المنوط بها متابعة عملية البناء والتدشين واستمرار العمل بتلك الكيانات
الوزير ورغم تلك الطفرة الكبيرة في الجامعات الأهلية أشار إلى أنها لن تكون قادرة على استعياب كل الأعداد المطلوبة، موضحًا أن الجامعات الحكومية تستوعب 80% من خريجي الثانوية العامة، وعليه فإن هناك حاجة إلى مزيد من الجامعات، وهو ما تسعى الدولة لتنفيذه خلال الفترة المقبلة بناءً على توجيهات رئاسية مباشرة.
ولم تكن فكرة إنشاء الجامعات الأهلية مستحدثة أو مفاجئة كما يتوقع البعض، لكنها تعود إلى سنوات عدة مضت، حين أدخلت الحكومة نظام البرامج الخاصة داخل الجامعات التقليدية، وهي البرامج الدراسية ذات الرسوم العالية نسبيًا، لتسير بالتوازي مع البرامج الحكومية العادية، وتترك حرية الاختيار أمام الطالب لتحديد وجهته، إما البرامج التقليدية المجانية ذات الإمكانات المحدودة وإما البرامج الممولة الخاصة التي يتم توفير الإمكانات والمحفزات بداخلها.
ومن نظام البرامج الخاصة جاءت فكرة إنشاء جامعات أهلية بأكملها، تكون منبثقة عن الجامعات الحكومية التقليدية، لتسير الجامعات جنبًا إلى جنب، واحدة مجانية بمناهج تقليدية ونظام تدريس متوسط أو رديء المستوى ولا يراعي سوق العمل الحديث، وأخرى ذات إمكانات عالية ونظام تعليمي مختلف وتراعي التقييمات العالمية في العملية التعليمية بما يساعد الخريج على إيجاد فرص عمل مناسبة في ضوء المناهج التي درسها والمنبثقة في الغالب من احتياجات ومتطلبات سوق العمل.
وعن تمويل هذه النوعية من الجامعات، يذهب الخبراء إلى أن التمويل من الألف إلى الياء مسؤولية الحكومة المنوط بها متابعة عملية البناء والتدشين واستمرار العمل بتلك الكيانات، لكن في الغالب لا يستمر هذا التمويل كثيرًا، فالعوائد المحققة بعد العام الأول من دخول تلك الجامعات حيز التنفيذ سيغطي نفقاتها المستقبلية وربما يحقق أرباحًا طائلةً قريبةً من تلك التي تحققها الجامعات الخاصة.
ما المميزات عن الجامعات الحكومية؟
أولًا تتبنى تلك الجامعات مناهج متطورة نسبيًا مقارنة بالتي عليها الجامعات الحكومية التقليدية، وفق تصريحات الخبراء التربويين، هذا بخلاف الميزة الإضافية التي تقدمها للطلاب وأسرهم، إذ تسمح لهم بالالتحاق بكليات القمة بدرجات أقل من التنسيق الرسمي، وهذا لب الموضوع ودافع الإقبال على تلك الجامعات.
تقدم الجامعات الأهلية تنسيقًا أقل من التنسيق العام بنسب تتراوح بين 8 – 10% في المتوسط، فإن كان التنسيق في الجامعات الحكومية هذا العام كالتالي: الطب البشري 91.6%، طب الأسنان 91.34%، الصيدلة 90%، العلاج الطبيعي 90.73%، الهندسة 83.17%، فإنه في الجامعات الأهلية هكذا: كلية الطب 82%، طب الأسنان 80%، العلاج الطبيعي 78%، الصيدلة 74%، الطب البيطري 70%، الهندسة 68%.
ويمكن لتلك الجامعات تحقيق حلم نحو قرابة 110 آلاف طالب حصلوا على مجموع درجات في الثانوية العامة بين 75 -90% في الالتحاق بكليات القمة لا سيما الطب والهندسة، بعدما أبعدهم التنسيق العام عن هذا الحلم، ما يسمح للأسر ميسورة الحال بتحقيق طموحاتهم في أبنائهم مقابل مبلغ مالي يدفع للجامعة.
وفيما يتعلق بالمستوى الدراسي وطبيعة المناهج، فإن كل ما يقال في هذا الخصوص لا يتعدى مجرد تكهنات في ظل عدم القدرة على تقييم التجربة التي ستدخل حيز التنفيذ هذا العام، إلا أن معظم الآراء تذهب في اتجاه الربط الواضح بين سوق العمل والمناهج التي يتم تدريسها مع التأكيد على تعزيز مساحات التكنولوجيا واللغات في العملية الدراسية بوصفهما محورين أساسيين في الحصول على وظيفة جيدة مستقبلًا.
هل تهدف للربح؟
تؤكد وزارة التعليم العالي في الكثير من البيانات أن الهدف الرئيسي من إنشاء الجامعات الأهلية هو المنافسة العالمية في مجال العلوم والتكنولوجيا وتنمية الثقافة، من خلال طرح برامج تعليمية متخصصة، تحاكي سوق العمل والتخصصات المطلوبة، مشددة على أنها لا تهدف مطلقًا إلى الربح، وأنها تستثمر في طلابها من خلال معامل على أعلى مستوى وتطوير المنظومة التعليمية.
لكن الواقع يقول عكس ذلك، فالمصروفات الخاصة بتلك الجامعات لا تختلف كثيرًا عن مصروفات الجامعات الخاصة التي تهدف إلى الربح في المقام الأول، إذ تقل عنها بنسب طفيفة، فتتراوح مصاريفها سنويًا بين 105 آلاف جنيه (5.4 ألف دولار) و55 ألف جنيه (3 آلاف دولار) في العام الواحد، هذا بخلاف النثريات الأخرى الخاصة بالسكن والتنقل والكتب الدراسية والمراجع.
ففي جامعة بنها الأهلية على سبيل المثال تبلغ مصروفات كلية الطب البشرى (90 ألف جنيه سنويًا)، كلية الهندسة (60 ألف جنيه سنويًا)، كلية علوم الحاسب والذكاء الاصطناعى (45 ألف جنيه سنويًا)، كلية الاقتصاد وإدارة الأعمال (45 ألف جنيه سنويًا)، كلية الفنون البصرية والتصميم (45 ألف جنيه سنويًا).
بمقارنة تلك الأسعار بمصاريف الجامعات الخاصة التي تهدف إلى الربح يلاحظ أنها تتقارب إلى حد كبير وهو ما يفند تصريحات ومزاعم الحكومة بشأن عدم وجود نية للربح من خلال تلك الجامعات
أما الجامعة الأهلية بأسيوط الجديدة، فالبرنامج الدراسي الواحد تترواح مصاريفه ما بين 30 ألف و90 ألف جنيه وفق كل برنامج، وكذلك أعداد الطلاب المقترح قبولها في كل برنامج، ففي كلية الهندسة هناك برنامجان دراسيان هما الهندسة الطبية الحيوية وهندسة العمارة الداخلية، وتبلغ مصاريف الدراسة لأي منهما قرابة 45 ألف جنيه، كذلك الصيدلة لها برنامجان، مصاريف كل منهما 55 ألف جنيه، مقارنة بـ90 ألف جنيه لبرنامج الطب الواحد.
وفيما يتعلق بجامعة الملك سلطان، فتبلغ مصاريف كلية الزراعة لهذا العام 43 ألف جنيه في العام الدراسي للطلاب المصريين، أما العلوم الأساسية (تكنولوجيا حيوية – كيمياء البترول) فتصل مصاريفها إلى 48 ألف جنيه في السنة للطلاب المصريين، مقارنة بـ49 ألف جنيه لبرنامج الفنون والتصميم و40 ألف للسياحة والضيافة و69 ألف للعلوم وهندسة الحاسب، فيما تبلغ مصاريف الصيدلة 85 ألف جنيه و105 آلاف جنيه للطب و79 ألفًا لطب الأسنان.
وبمقارنة تلك الأسعار بمصاريف الجامعات الخاصة التي تهدف إلى الربح يلاحظ أنها تتقارب إلى حد كبير، وإن كان هناك فوارق فستكون ضئيلة جدًا، وهو ما يفند تصريحات ومزاعم الحكومة بشأن عدم وجود نية للربح من خلال تلك الجامعات، وإلا فلماذا هذه الرسوم الكبيرة إن لم يكن الهدف هو المكسب المادي.
ما القيمة المضافة التي تقدمها تلك الجامعات؟
مع إعلان التنسيق المبدئي للجامعات الأهلية أثيرت حالة من الجدل على منصات التواصل الاجتماعي من التربويين والمعنيين بالعملية التعليمية ممن اتهموا هذه الكيانات الجديدة بإفساد العملية التعليمية برمتها، رغم تأكيد الحكومة على أنها ستحدث حالة من المنافسة وتعزز من جودة التعليم.
العديد من الأطباء أشاروا إلى أنه ليس من المنطقي أن يكون تنسيق كلية الطب 82%، فهذا الأمر يفتح الباب أمام غير المؤهلين من الطلاب للالتحاق بمثل تلك التخصصات الدقيقة التي تؤثر على حياة الناس، وفي النهاية يتم تخريج أطباء غير أكفاء بما ينعكس على الخدمات الصحية المقدمة وعلى سمعة الطب في مصر بصفة عامة.
الأمر كذلك مع المهندسين، فالالتحاق بكليات الهندسة من تنسيق لا يتجاوز 68% هو تهديد واضح وصريح لمهنة الهندسة وتشويه صورتها دوليًا، وهو ما أشار إليه نقيب المهندسين المصريين طارق النبرواي عبر منشور على صفحته على فيس بوك قال فيه: “انطلاقا من مسؤوليتي كنقيب للمهندسين، أرفض التنسيق الذي أعلنته وزارة التعليم العالي بخصوص التعليم الهندسي، حيث بلغت نسبة القبول في بعض المعاهد الهندسية الخاصة نسبة 60%”، وتابع “وهي السياسة التي انتُهجت على مدار سنوات سابقة، وأدت إلى مشكلات التعليم الهندسي في مصر، ومعاناة المهندسين، إذ أصبح عدد الخريجين يفوق احتياجات سوق العمل، فضلًا عن تدني مستوى بعض الخريجين، ما نجم عنه تأثير سلبي، ومشكلات جسيمة بينها ارتفاع معدلات البطالة، وتدني الأجور في قطاعات العمل الهندسية بفعل زيادة العرض على الطلب”.
ومن ثم فهناك تخوفات عدة من البعض بتأثير هذا المسار على مستقبل التعليم في مصر بصفة عامة، لافتين إلى أنه لو أن هناك رغبة في تحسين مخرجات العملية التعليمية فلا بد أن يكون طلاب تلك الجامعات من الأكفاء في الثانوية العامة، وأن يتم دعم قدراتهم من خلال برامج إضافية نوعية في هذه الكيانات بما يمهد الطريق نحو تخريج جيل جديد من المتميزين فعلًا والقادرين على إحداث الفارق في سوق العمل بعد ذلك.
الطبقية وغياب العدالة
ينطوي عمل الجامعات الأهلية في الأساس على الطبقية وغياب العدالة، فمن يملك المال يستطيع الالتحاق بكليات القمة حتى لو كان مجموعه في المرحلة الثانوية أقل من زميله الذي لم يستطع الالتحاق بتلك الكليات لعدم قدرته المادية، وهو ما يعد مؤشرًا مجتمعيًا خطيرًا ينذر بإشعال الاحتقان والفئوية بين أطياف الشعب الواحد.
كما أن الإكثار من تلك الجامعات بما لديها من مغريات مادية سيجعلها قبلة لأساتذة الجامعات والإداريين ممن يهرولون إليها بحثًا عن ميزات أفضل، خاصة في ظل وضعيتهم المادية المتدنية في جامعاتهم، ما يعني باختصار تفريغ الجامعات الحكومية من كوادرها، بما ينعكس سلبًا على ما تقدمه من مستوى، ومن ثم على مستوى خريجيها.
وهنا تساؤل يسأله البعض: إن كانت الحكومة تملك فائضًا ماليًا لتدشين جامعات أهلية جديدة ذات مستوى وإمكانات عالية فلماذا تبخل على الجامعات الحكومية التي تئن من العجز في كل شيء؟ وهو ما يعيد الملف إلى نقطته الأولى بأن الهدف الرئيسي لم يكن تطوير العملية التعليمية، وإلا فالجامعات الحكومية أولى بصفتها قائمة بالفعل ولا تحتاج إلى جهد وكلفة البناء مجددًا، ومن ثم يصبح الربح هو الاتهام الأبرز الذي يواجه تلك الجامعات الجديدة.
القلق هنا من سحب البساط شيئًا فشيئًا من تحت أقدام الجامعات الحكومية لصالح الأهلية، حتى تتحول الأولى إلى جامعات مع إيقاف التنفيذ، وعامًا تلو الآخر تفقد حضورها وبريقها وتأثيرها وأثرها ليتحول الجميع نحو النوع الجديد من الجامعات لينتقل التعليم في مصر من المجانية إلى الخاص، ويصبح سلعة يحصل عليها من يدفع أكثر، وفي ظل سياسة الربح والبرغماتية التي ينتهجها النظام المصري الحاليّ فكل شيء قابل للتسليع، حتى التعليم والصحة، ولا عزاء لمحدودي ومتوسطي الدخل.