ترجمة حفصة جودة
في قلب منطقة الهلال الخصيب بالعراق، حفر عبد الهادي مظهر بئرًا في مزرعة العائلة، حفر الفلاح العراقي 16 مترًا داخل الأرض الصلبة، لكن رغم هذا العمق لم تنبثق أي قطرة مياه.
يشهد العراق صيفًا جافًا، لكن عائلة مظهر – 35 عامًا – تسكن هنا منذ 4 أجيال، تزرع القمح والخضراوات وتربي الماشية، وهذا العام كان استثنائيًا، يقول مظهر: “لقد تحولت الأرض الخضراء إلى صحراء قاحلة، لا أتذكر أنني رأيت مثل هذا طوال حياتي”.
انخفض منسوب المياه في أكبر نهرين بالبلاد: دجلة والفرات، إلى النصف، على ضفاف هذين النهرين التاريخيين ظهرت حضارات بلاد الرافدين قبل 8000 عام.
يقول مسؤولو الحكومة، إن المذنب في ذلك الأمر المشاريع الهيدرولوجية التي تنفذها تركيا وإيران أعلى النهر، وهي مشكلة أزلية تفاقمت بسبب سوء إدارة المياه وتراجع هطول الأمطار باستمرار.
يقع العراق في المرتبة الخامسة بين الدول الأكثر عرضة لأزمة المناخ، كما أنه دولة غنية بالنفط تجني نحو 10 مليارات دولار شهريًا وسط ارتفاع الأسعار، لكن الفساد متجذر بها، وقد فشلت الحكومات المتعاقبة في الاستعداد لما حذر منه الخبراء.
يقول نذير الأنصاري – مهندس مياه عراقي وأستاذ بجامعة لوليا في السويد: “لا يهتم المسؤولون بمستقبل البلاد، كل ما يهمهم الاستفادة بأكبر قدر ممكن من مناصبهم، فالمسؤولون في وزارة المياه ليس لديهم أي خبرة”.
يتنبأ بحث الأنصاري بتناقص هطول الأمطار في العراق بنسبة 15 إلى 20% هذا القرن، ما يعني نقص مستوى المياه في دجلة والفرات بنسبة تصل إلى 73%، مع تأثير خطير على مستويات المياه الجوفية.
أصبحت تداعيات الأمر مدمرة بالفعل بالنسبة للمزارعين المعتمدين على النهريّن، فقد ذبلت محاصيل مظهر تمامًا هذا العام، مما يتركه وعائلته المكونة من 13 فردًا دون دخل، بدأ مظهر في بيع أبقاره الهزيلة بأقل من السعر المعتاد، ما تسبب في نقص قاعدة أصول المزرعة.
يقول مظهر: “الحكومة العراقية هي المسؤول الأساسي عن توفير بنية تحتية، لا تخطيط في الحكومة ولا يوجد دعم للمزارعين”.
واجه قطاع الزراعة في العراق عقودًا من الانحدار، بسبب الصراع ونقص الاستثمارات والاحتباس الحراري، مع انخفاض هامش ربح المزارعين نتيجة ارتفاع تكلفة المدخلات والواردات الزراعية الرخيصة.
يستخدم المزارعون تقنيات الغمر المبددة للمياه بدلًا من الري بالتنقيط أو الري بالرش الأكثر حفاظًا على المياه
وبدلًا من تحديث القطاع، تقول الحكومة إنها ستقلل الأراضي الزراعية إلى النصف هذا العام بسبب الجفاف، ما يعد ضربة موجعة للقطاع الذي يوظّف نحو 18% من السكان.
تقع مزرعة مظهر على بعد عدة كيلومترات غرب مدينة بابل القديمة التي ازدهرت إمبراطوريتها في الألفية الثانية قبل الميلاد بفضل توسع الملك حامورابي في شبكة الري السومرية، ما زال العراق يعتمد على نفس طرق الري السطحي.
يقول الأنصاري: “استخدام التقنيات الحاليّة التي كانت مستخدمة قبل 8 آلاف عام، يتسبب في خسارة المياه بشكل كبير للغاية”.
تمر مياه الري في العراق عبر شبكة من القنوات المفتوحة، ما ينتج عنه ارتفاع مستوى التبخر في الصيف عندما تتجاوز درجات الحرارة 50 درجة سليزية، وبالتالي تتناقص المياه كثيرًا حتى تصل إلى الحقول، حيث يستخدم المزارعون تقنيات الغمر المبددة للمياه بدلًا من الري بالتنقيط أو الري بالرش الأكثر حفاظًا على المياه.
لجأت السلطات إلى التقنين، فقناة الري في مزرعة مظهر – فرع من أحد روافد الفرات – تمتلئ بالمياه مرة كل 3 أسابيع، عندما تصل المياه إلى المزرعة تكون قد تقلصت كثيرًا لتكفي بالكاد احتياجات المنزل ناهيك بري الحقول.
ذبلت جميع المحاصيل بما في ذلك العشب المخصص لإطعام الماشية، كما أن إحدى الأبقار ضعيفة للغاية، حتى إنها لا تستطيع الوقوف، بينما يحتاج عجلها إلى الحليب الذي لا تستطيع إنتاجه.
يقول مظهر: “هذه أول ضحية، لكنني أعتقد أنه سيكون هناك المزيد من ذلك بنهاية الصيف”، ولأنه لا يستطيع تحمل تكلفة علف الماشية، باع مظهر 11 من ماشية الأسرة البالغ عددها 17 بسعر 20 دولارًا فقط للواحدة، كان سعرهم عادة يتراوح بين 800 إلى 1000 دولار.
تسبب نقص المياه في تصاعد التوترات القديمة حول قنوات الري بين المزارع، مع اتهامات باستهلاك المياه أكثر مما هو عادل، يقول مظهر الذي تعاني مزرعته من سوء التوزيع: “لا يوجد إشراف حكومي يفرض عقوبات على هؤلاء الذين يسرفون في استهلاك المياه”.
نزح عشرات آلاف الناس في جنوب العراق بسبب ندرة المياه، فتوجه العديد منهم إلى المدن المزدحمة التي تعاني من نقص الوظائف والخدمات بما يثير اضطرابات، لكن مظهر يرفض التخلي عن مزرعته، فيقول: “إنها أرض أجدادي”.
المصدر: الغارديان