في لقاء له مع صحيفة “الشرق الأوسط” في 4 أبريل/نيسان الماضي قال رئيس المسلسلات العربية في منصة “نتفليكس” العالمية: “نهتم في الدرجة الأولى بالمواضيع الشيقة التي قد تلقى قبولًا في أي مكان من العالم تُعرض فيه، بصرف النظر عن جنسية العمل. ولقد حظينا بفرصة العمل مع المواهب الناشئة والصاعدة في العالم العربي خلال السنوات القليلة الماضية، حيث كان لكل منهم توجهه الخاص في اختيار القصص النابعة من تجاربه الشخصية وبيئته المختلفة”، وأضاف “قدمنا الدعم اللازم لهم من الأدوات المطلوبة لسرد قصصهم بأفضل شكل ممكن، ولمنح الجمهور العربي والعالمي القدرة على متابعة محتوى لم يكن ليتوافر لهم لولا ذلك”.
وفي اللقاء ذاته قالت رئيسة الاستحواذ على المحتوى في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وتركيا لدى الشبكة، نهى الطيب: “أنا سعيدة بتنوع وغنى المحتوى في شبكتنا، إذ تدأب نتفليكس على أن تتبوأ مكانتها كموطنٍ للسينما العربية، وتصبح الوجهة الأولى في العالم لمتابعة أعظم القصص العربية”، وتابعت “قد تكون هذه القصص ذات طابع عربي أصيل وفريد، إلا أنها تحمل في جوهرها القيم والمبادئ الإنسانية، لذلك نعتقد أنها ستلاقي صدى بين الجمهور من حول العالم، وهذا برأيي ما يميز السرد القصصي الناجح”.
كثيرًا ما عزفت الشبكة العالمية التي تأسست عام 1997 كشركة متخصصة في خدمات توصيل الأفلام في أمريكا، على وتر مراعاة البعد الاجتماعي والقيمي فيما تقدمه للجمهور العربي بما يتلاءم مع أرضيته القيمية دون استفزاز لمشاعره، غير أنه سرعان ما نكصت الشبكة تعهداتها لتضرب بقوة في جذور الثقافة العربية والإسلامية، ما أثار حفيظة العرب، حكومات وشعوب.
وشهدت الساعات الماضية مطالبات مشددة من مصر ودول الخليج للمنصة بإزالة المحتوى الذي “يتعارض مع القيم المجتمعية” خاصة ذلك الموجه للأطفال في المقام الأول، محذرة من أنه في حال استمرار بث المحتوى المخالف “سيتم اتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة” دون تحديد طبيعة ونوعية تلك الإجراءات.. فهل تفقد المنصة العالمية سوقها العربي؟
استنكار وتهديد عربي
في السادس من الشهر الحاليّ نشرت وكالة الأنباء السعودية على حسابها على تويتر بيانًا للجنة مسؤولي الإعلام الإلكتروني بدول مجلس التعاون لدول الخليج، طالبت فيه منصة نتفليكس – Netflix بإزالة المحتوى المخالف، وذلك “نظرًا لما لوحظ في المدة الأخيرة من بث المنصة بعض المواد المرئية والمحتوى المخالف لضوابط المحتوى الإعلامي في دول مجلس التعاون الذي يتعارض مع القيم والمبادئ الإسلامية والمجتمعية”.
البيان أشار إلى تواصل تم بين اللجنة والشبكة بهدف إزالة المحتوى خاصة الموجه للأطفال بعدما ثبت انتهاكه للكثير من القيم والأعراف، فيما هددت الدول الخليجية الستة بتصعيد الأمر حال عدم الاستجابة، محذرة من أنه “في حال استمرار بث المحتوى المخالف سيتم اتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة”، دون توضيح ماهية المحتوى المخالف أو الإجراءات التي يمكن أن تتخذها دول الخليج ضد الشبكة.
وبالتوازي مع الموقف الخليجي الذي يضم دول مجلس التعاون الستة، أصدرت الإمارات بشكل موازٍ بيانًا آخر بشأن المحتوى المقدم وضرورة مراعاة القيم والأعراف الخليجية، قائلة إنها ستتابع ما يتم بثه عبر تلك المنصات في الأيام المقبلة، بهدف تقييم التزامها بضوابط البث في البلاد وعليه سيكون اتخاذ القرارات اللازمة.
وبعد ساعات قليلة من بيان الدول الخليجية طالبت مصر عبر المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام (الجهة الرسمية المعنية بتنظيم شؤون الإعلام)، نتفليكس وغيرها من المنصات التليفزيونية الإلكترونية بالالتزام بما وصفه بالقيم والأعراف المجتمعية للدولة، كما قرر إصدار قواعد تنظيمية وتراخيص لمثل هذه المنصات، دون تحديد طبيعة تلك القواعد، علمًا بأن المجلس ليس لديه سلطة سحب تراخيص مثل تلك المنصات الدولية.
بيان مشترك بين الهيئة العامة للإعلام #المرئي_والمسموع، ولجنة مسؤولي الإعلام الإلكتروني بدول مجلس التعاون، حول التوجيه بإزالة منصة نتفلكس “Netflix” للمحتوى المخالف. pic.twitter.com/bAm7xy1LLd
— الهيئة العامة للإعلام المرئي والمسموع (@gcamsa) September 6, 2022
توتر في العلاقة
التوتر الحاليّ في العلاقة بين العرب ومنصات البث العالمية ليس اﻷول من نوعه، فالسنوات الأخيرة شهدت بعض الأحداث التي تكشف عن سير تلك الشبكات عكس اتجاه البوصلة العربية، وهو ما يمكن قراءته في ردود الفعل التي اتخذتها بعض الحكومات العربية بشأن المحتوى المقدم رغم ما تتمتع به تلك البلدان من مرونة في عرض المحتوى غير الملائم للثقافة الإسلامية بوجه عام.
ففي الإمارات على سبيل المثال تم حظر عرض فيلم الرسوم المتحركة “لايت يير” المنتج من شركتي والت ديزني وبيكسار في دور السينما، العام الماضي، بسبب عرضه شخصيتين بينهما علاقة مثلية، كما أثار عرض مسلسل “ساندمان/رجل الرمل” على شبكة نتفليكس موجة غضب شعبي عارمة وطالبت أبو ظبي بإزالة هذا المحتوى من دول الخليج العربي.
وفي السعودية طالبت المملكة أبريل/نيسان الماضي بحذف بعض المشاهد التي تروج لمجتمع المثليين من فيلم “دكتور سترينج” الذي أنتجته مجموعة “والت ديزني” وذلك ليتسنى عرضه في السينما السعودية، غير أن الشركة رفضت هذا الطلب ليُمنع عرض الفيلم في دور العرض داخل المملكة.
أواخر العام الماضي منعت السعودية وقطر والكويت ومصر عرض فيلم “الأبديون” أو “Eternals”، بطولة النجمة الأمريكية أنجيلينا جولي، بسبب احتوائه على مشاهد جنسية بين بطلين مثليين، وذلك بعد رفض حذف تلك المشاهد، حيث قالت مخرجة العمل الحائزة على أوسكار الصينية كلوي تشاو إنها رفضهت تعديل أي مشاهد لـ”إرضاء الهيئات الرقابية”، وهو الرأي ذاته الذي تبنته جولي التي قالت إنها “فخورة بسبب رفض (مارفل) الرضوخ لطلبات حذف المشاهد”.
السوق العربي.. إلى أين؟
رغم أن بعض الدول الخليجية تتبنى سياسة أكثر مرونة في التعاطي مع المحتوى الجريء نسبيًا، غير أن اشتباك هذا المحتوى مع الخلفية القيمية والدينية للمجتمع العربي والمسلم ربما تثير حفيظة الشارع العربي الذي يميل معظمه إلى التدين رغم الانفتاح والتحرر الذي يحياه خلال العقود الثلاث الأخيرة.
عدم مراعاة المنصات العالمية لتلك الجزئية ربما يفقدها الكثير من حضورها داخل السوق العربي الثري بطبيعة الحال في عائداته خاصة السنوات الثلاثة الماضية منذ انتشار جائحة كورونا التي دفعت عشرات آلاف العرب للاشتراك في منصة نتفليكس تحديدًا لقضاء وقت الفراغ الإجباري نتيجة العزل والحظر المفروض رسميًا على الشعوب خلال تلك الآونة.
وقد تصاعدت مؤخرًا العديد من الأصوات التي تحذر من محتوى نتفليكس وديزني، داعية إلى مقاطعتها بشكل كامل لما تنطوي عليه من مخططات خبيثة تستهدف العقل العربي والإسلامي وتشويه تاريخه وحاضره وبناء أرضية جديدة لمستقبل يتناقض شكلًا ومضمونًا مع الإرث الديني والثقافي للمجتمع المسلم.
في تعليقه على خطر تلك المنصات العالمية يقول الناقد الأدبي أكرم الديك: “نتفليكس في جوهرها إمبريالية، وصاحبة أجندات صهيونية وأمريكية، وشبكة رأسمالية، وخطرها يفوق العادي”، لافتًا في مقال له أن الشبكة لم تعد شبكة تقدم خدمة أفلام ومسلسلات فقط، لكنها أصبحت جزءًا من الحياة اليومية للفرد وركنًا أصيلًا في جنبات بيته لا يمكن الاستغناء عنه.
وأضاف أنه رغم المغريات التي تتمتع بها الشبكة من جودة التكنولوجيا ونوعية المحتوى المقدم وسعرها المنخفض نسبيًا ومرونتها الكبيرة في منظومة الاشتراك والحصول على الخدمة، فإن الأضرار الناجمة عنها كبيرة للغاية، فبعيدًا عن المخاطر الصحية المحتملة بسبب طبيعة عمل المنصة والتكنولوجيا المستخدمة، فإن الأضرار الثقافية والاجتماعية والنفسية والفكرية التي تسبّبها هذه العادة لمشتركي نتفليكس، خاصة أن الشركة تتبنى نظامًا أمريكيًا مشابهًا لثقافة الأكل السريع، وغياب دور المتلقّي في التحكم حتى ولو في تغيير أو تبديل الحلقة أو الفيلم، فالبرنامج يقوم بكل شيء، وما عليك أنت كمتلقٍّ إلا الجلوس كجثة هامدة والاستقبال، في هذا خطورة كبيرة، وخاصة إذا كان المحتوى يشبه مسلسل “الأصدقاء” مثلًا”.
الرأي ذاته ذهب إليه آخرون ممن يرون أن المخاطر الناجمة عن المحتوى المقدم عبر نتفليكس وديزني يفوق الامتيازات المقدمة بمراحل، وهو ما يتطلب اتخاذ موقف حاسم للحفاظ على الهوية العربية والإسلامية التي ينفرط عقدها حبة تلو الأخرى إذا استمر الوضع على ما هو عليه.
البعض يطالب بموقف عربي موحد يشكل عامل ضغط على إدارة تلك المنصات لمراعاة البعد الاجتماعي والقيمي في المحتوى المقدم للعرب والمسلمين، مستغلين في ذلك العائد المحقق من المنطقة العربية جراء الاشتراكات المتزايدة عامًا تلو الآخر، والتلويح بورقة حظر تلك المنصات في المنطقة وهو ما يمكن أن يسبب خسارة فادحة لهذه الشبكات التي تحارب لوقف نزيف الخسائر التي تتلقاها خلال الآونة الأخيرة.
فيديو | منصة نتفليكس.. إسفاف وترويج الشذوذ للأطفال#الإخبارية pic.twitter.com/W5vQbTuyAa
— قناة الإخبارية (@alekhbariyatv) September 6, 2022
شبح الخسائر يطل برأسه
وتواجه المنصة الأمريكية التي تطورت بسرعة الصاروخ من مجرد شركة متخصصة في خدمات توصيل الأفلام إلى مزود هائل للأقراص المدمجة عبر البريد ومنها إلى توفير مشغلات الأقراص في المنازل وصولًا إلى هيمنتها على عالم عرض الأفلام على الإنترنت حتى باتت تغطي ما يقارب 200 دولة عالميًا وبعدد مشتركين يتجاوز 200 مليون مشترك، أزمات حادة في السنوات الأخيرة، حيث تعرضت للعديد من الخسائر التي أفقدتها الريادة لصالح ديزني.
ورغم بلوغ عدد المشتركين بنتفليكس بنهاية الربع الأول من عام 2022 نحو 222 مليون مشترك، فإن الرؤية العامة المستقبلية تسير نحو التراجع، وهو ما أكدته الأرقام الخاصة بالربع الثاني من هذا العام، حيث فقدت المنصة 970 ألف مشترك، وهي الخسارة الأكبر لها طيلة تاريخها الممتد نحو ربع قرن تقريبًا.
التوقعات الخاصة بالشركة تذهب إلى احتمالية استضافة مليون مشترك جديد في الرابع الثالث من هذا العام، لكن الخسائر التي تكبدتها الشركة بعد انسحابها من السوق الروسي في أعقاب الحرب الأوكرانية التي اندلعت في فبراير/شباط الماضي ربما تنسف تلك التوقعات، هذا إن تم التعامل مع التهديدات العربية على محمل الجد.
لم يعد أمام نتفليكس سوى خيارين لا ثالث لهما: إما المضي قدمًا فيما تقدمه من محتوى متطرف قيميًا رغم إثارته لتحفظات العرب، وذلك انتصارًا لحريات الرأي والتعبير المزعومة، وإما الاستجابة لتلك التحذيرات بمنطق برغماتي وتلبية المطالب العربية للحفاظ على سوقها في المنطقة، وفي كلتا الحالتين يبقى العرب كـ”رد فعل” إزاء ما يتم عرضه دون التحرك قيد أنملة واحدة لبناء منصات شبيهة – رغم امتلاك الإمكانات المادية والبشرية – تُنتج محتوى يتناغم والهوية العربية والإسلامية .