بين الحين والآخر نسمع دومًا عن ضحايا يسقطون في سوريا نتيجة انفجار لغم قديم أو انهيار مبنى، وذلك نتيجة لإجرام نظام الأسد الذي أشبع المدن السورية بمختلف أنواع القصف سواء بالراجمات أم الطيران الحربي أم البراميل، ما تسبب بوجود قذائف لم تنفجر في وقتها أو تهالك المباني والبيوت السكنية التي يرجع ساكنوها إليها ولا يعلمون ما إذا سيلقون حتفهم فيها آجلًا أم عاجلًا.
انهيار المباني
في آخر الأخبار الواردة من أحياء مدينة حلب التي يسيطر عليها النظام السوري، انهار مبنى سكني مؤلف من خمس طوابق في حي الفردوس، ما أدى إلى مقتل 11 شخصًا وجرح آخرين، فيما تحاول فرق الإنقاذ البحث عن ناجين تحت ركام هذا المبنى، وقد أخلت السلطات بعض المباني المجاورة من السكان خوفًا من انهيارات مشابهة خاصة بعد انهيار سقف أحد المباني المحاذية للمبنى المنهار.
قصة المباني المعرضة للانهيار في هكذا مناطق تتكرر يومًا بعد آخر، خاصة أنها تعرضت للقصف الشديد خلال السنوات التي كانت تقبع تحت حصار قوات نظام الأسد، ويبدو أن لحلب وأحيائها النصيب الأكبر من هذه الانهيارات، حيث عانت الأحياء التي كانت تحت سيطرة المعارضة ما بين أعوام 2012 و2016 قصفًا شديدًا من طائرات النظام وروسيا ومدافع الميليشيات الإيرانية وصواريخ أرض أرض شديدة التدمير.
وشهدت الأحياء الشرقية من مدينة حلب انهيار العديد من المباني، ففي أغسطس/آب عام 2020 توفي 4 مدنيين نتيجة انهيار مبنى سكني في حي الصالحين، وفي يوليو/تموز من ذات العام توفي شخص وأصيب آخرون بجروح جراء انهيار مبنى سكني من طابقين في حي كرم القاطرجي، وفي عام 2019 انهار مبنيان سكنيان قتلت في أحدهما عائلة كاملة مكونة من 4 أشخاص، بالإضافة إلى امرأة أخرى، وفي المبنى الآخر قُتلت امرأة.
كذلك في فبراير/شباط 2019 توفي 11 شخصًا إثر انهيار مبنى سكني مؤلف من خمسة طوابق في منطقة أرض الناصر بحي صلاح الدين بحلب، الذي يعد من أكثر الأحياء تضررًا إثر القصف المكثف الذي طاله من قوات النظام لسنوات.
لم يقتصر الأمر على حلب، حيث شهدت العديد من المناطق انهيار مبانٍ سكنية، وهو ما حصل في مدينة داريا بريف دمشق الغربي، حيث سقط بناء مؤلف من أربعة طوابق، توفي فيه رجل وابنه، وكذلك حصل في مدينة دوما بالغوطة الشرقية دون وجود ضحايا، وفي دير الزور توفيت طفلة نتيجة سقوط جدار عليها من أحد الأبنية السكنية.
يتخوف الأهالي في هذه المناطق من انهيار المباني فجأة، خاصة أن الكثير من المباني التي تعرضت للقصف لا يتم إعادة تقييم صلاحيتها للسكن من المختصين والإدارات المعنية بالأمر في النظام السوري، كما أن المسؤولين لا يأخذون مناشدة الأهالي بعين الاعتبار حينما يوجهون نداءً عن الأبنية الآيلة للسقوط من أجل التعامل معها لكي لا يتأذى أحد من انهيارها.
في هذا السياق، يقول المهندس السوري بسام العلي خلال حديثه لـ”نون بوست” عندما يعود الأهالي من رحلة نزوحهم يقومون بأمور تجميلية خفيفة للمنزل كتوصيلات المياه والكهرباء وإغلاق النوافذ، لكنهم في الغالب لا يطلبون تقييمًا هندسيًا في حال كان البناء قد تعرض للقصف سابقًا.
ويشير المهندس العامل في مدينة كفربطنا في الغوطة الشرقية إلى أن الأهالي بعد رحلة نزوح استمرت 7 سنوات لاقوا فيها كل أصناف العذاب باتوا يعودون ويقولون “عادي أن نعيش بين الركام، فالمهم أننا في بيوتنا”.
ويضيف المهندس العلي أن أكثر من “90% من منازل الغوطة الشرقية تحتاج إلى تقييم جديد من السلطات المختصة والمهندسين الفنيين العاملين في مجالس البلديات التابعة للنظام السوري، لكن هذا الأمر لا يتم بسهولة، فهناك الكثير من الإهمال والتسيب في هذا الأمر”، ويقول إنه قيّم أكثر من 20 مبنى سكنيًا بالإضافة إلى بيوت ليست طابقية وغالبها يحتاج إلى إعادة تدعيم ونصفها غير صالح للسكن حتى مع التدعيم.
ويتابع المهندس “أقول للأهالي هذا الكلام، لكنهم يفضلون العيش فيها على وضعها الحاليّ لأن حالتهم الاقتصادية لا تسمح لهم أن يدخلوا مواد البناء ويعيدوا تدعيم منازلهم”، مشيرًا إلى أن إدخال مواد البناء بات صعبًا، فهو يحتاج إلى موافقة أمنية من حواجز النظام ومن ثم أنت مضطر لدفع الرشاوى لإدخالها، وكذلك يأتي المسؤول الأمني ليشارك البنّاء والمعماريين في أجرتهم وهو ما يجعل الأمر صعبًا أو مستحيلًا في بعض الأحيان.
عن ذات الموضوع، توجهنا بالسؤال إلى السيد رائد الصالح مدير منظمة الدفاع المدني السوري “الخوذ البيضاء”، حيث قال إن “الحرب التي تشنها قوات النظام وروسيا منذ 11 عاما لم تقتصر على الأثر المباشر، فهناك أثر طويل المدى، إذ يتعلق الأمر بالبنية التحتية بشكل عام وآثار الغارات الجوية والقصف المدفعي والصاروخي عليها، وخاصة منازل المدنيين، والتي تعرضت لهجمات ممنهجة”.
وأشار الصالح إلى أن “آلاف العائلات في سوريا تعيش اليوم في منازل متداعية بسبب القصف وقد تتحول هذه المنازل لقبور لها، فهي بمعنى آخر قبور مع وقف التنفيذ حتى حين وهذه ليست مبالغة وإنما حقيقة. وللأسف تجبر ظروف التهجير والنزوح وتردي الأوضاع الاقتصادية السكان على العيش في هذه المنازل الآيلة للسقوط في أية لحظة، وشهدنا في جميع المناطق السورية التي تعرضت للقصف انهيارات للمنازل راح ضحيتها عشرات المدنيين”.
خلال العام الحالي، استجابت فرق الدفاع المدني لثلاث حالات انهيار مبان في شمال غربي سوريا، بينها حالتان كانتا تعرضتا للقصف من قبل قوات النظام وروسيا في وقت سابق، الأولى في مدينة بنش حيث أجلت فرق المنظمة 7 عائلات من مبنى معرض للانهيار وانهار لاحقا، كما تعرضت مزرعة للانهيار في ريف إدلب الجنوبي جراء تعرضها لقصف سابق، أما الحادثة الثالثة كانت لانهيار منزل متداع قرب مدينة إدلب، ما أدى إلى وفاة 5 مدنيين جميعهم من عائلة واحدة وإنقاذ 3 آخرين.
يقول الصالح إن “مسألة إنقاذ المدنيين من تحت ركام الأبنية هي مسألة حساسة جدا ويجب أن يكون القائمون على العمل مدربون بشكل جيد وإلا فإن أي خطأ قد يكلفهم حياتهم وحياة الضحية التي يحاولون إنقاذها، وخاصة أن الأبنية المنهارة تكون ضعيفة جدا وقد يكون الانهيار غير مكتمل، لذلك مباشرة تبدأ فرقنا في مناطق عملها عند الاستجابة بأبعاد المدنيين عن المكان قدر المستطاع وتدعيم الاسقف والجدران التي يوجد تحتها ضحايا وتبدأ بالقيام بكافة الخطوات لإنقاذهم”.
تنشط منظمة الدفاع المدني في مناطق سيطرة المعارضة وذلك لأن النظام يحاربها كما لم يحارب منظمة من قبل، وتمتلك الخبرة الكبيرة في التعامل مع حالات انهيار الأبنية خاصة أنها شبيهة بالانهيارات التي يسببها القصف، ويقول الصالح “تتعامل فرقنا مع حالات الانهيار وإنقاذ المدنيين من تحت الركام منذ تأسيسها، وبشكل دائم تقوم فرقنا برفع جاهزيتها للتأكد من قدرتها على التعامل مع مختلف الحالات، كما يتم بشكل مستمر تدريب المتطوعين ورفع سويتهم وقدرتهم على الاستجابة وإنقاذ المدنيين من تحت الركام”.
يعدد الصالح الأسباب التي تؤدي لانهيار المباني وهي:
– قصف قوات النظام وروسيا للأحياء السكنية على مدار السنوات الماضية، ما خلف عشرات آلاف المباني المتضررة والتي تختلف درجة تأثرها، ومع موجات النزوح والتهجير اضطر عدد كبير من المدنيين للسكن في منازل آيلة للسقوط رغم الخطر الشديد الذي يهددهم لغياب المساكن البديلة.
– البناء العشوائي وعدم وجود جهات ضابطة للبناء في أغلب مناطق شمال غربي سوريا، لاسيما خلال السنوات الماضية وتوسع عدد كبير من البلدات والقرى وتحولها إلى مدن، حيث بنيت غالب المساكن على عجل ودون أي تخطيط مسبق.
مخلفات الأسلحة والألغام
إضافة إلى مقتل السوريين نتيجة انهيار المباني، فإنهم أيضًا يلاقون الموت بواسطة القذائف غير المنفجرة أو الألغام ومخلفات الأسلحة الأخرى، فمنذ أيام قليلة قتل أربعة أطفال أشقاء جراء انفجار لغم من مخلفات الحرب داخل منزل عائلة نازحة انتقلت قبل أسبوعين فقط إلى منزل قيد الإنشاء في بلدة بنش شمال شرق مدينة إدلب.
وقد أظهرت إحصائية أصدرها الدفاع المدني السوري “الخوذ البيضاء”، مقتل 23 شخصًا وإصابة 24 جراء 22 انفجارًا لمخلفات الحرب في شمال غربي سوريا، منذ بداية العام الحاليّ.
يذكر أن النظام السوري قصف المدن والبلدات السورية بمختلف أنواع الأسلحة بما فيها الألغام البحرية التي تستخدم عادة لحماية المناطق البحرية والساحلية، لكن النظام استخدمها في قصف السوريين، وكثير من هذه الألغام لم ينفجر، ما يجعلها قنابل موقوتة بحسب ما ذكر المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان.
وإضافة إلى الألغام البحرية توجد الكثير من العبوات المتفجرة والناسفة التي زرعت في الأراضي الزراعية أو في البيوت التي كانت تستخدم كنقاط عسكرية، ومما يجعل الأمر خطيرًا عدم وجود خرائط لهذه الأجسام القاتلة التي تهدد حياة السوريين.
يعاني أطفال سوريا بشكل خاص من مئات حالات بتر الأطراف والإعاقة، بسبب استخدام قوات النظام السوري وروسيا للذخائر العنقودية بشكل كثيف وعلى مناطق واسعة، كما أن الألغام ومخلفات القنابل العنقودية تشكل عائقًا كبيرًا أمام عمليات عودة النازحين وتحرك عمال الإغاثة والدفاع المدني وآلياتهم، وتشكل خطرًا على عملية إعادة الإعمار والتنمية.
في هذا الخصوص، وصفت الشبكة السورية لحقوق الإنسان سوريا أنها من أسوأ دول العالم في كمية الألغام المزروعة والمجهولة الموقع، مشيرة إلى مقتل 2829 مدنيًا بينهم 699 طفلًا بسبب الألغام في سوريا منذ عام 2011 حتى الآن، وأشارت الشبكة إلى أن قرابة نصف ضحايا الألغام الأرضية قتلوا في محافظتي حلب والرقة، فقد بلغت نسبة الضحايا في المحافظتين قرابة 49%، تليهما محافظة دير الزور بنحو 17%، وتم توثيق مقتل أكبر حصيلة ضحايا ألغام في عام 2017، وتقدّر الأمم المتحدة أن أكثر من 10 ملايين سوري معرضون لخطر المواد المتفجرة في شتى أنحاء البلاد.
في ذات السياق، أصدرت “مجموعة الحماية العالمية” تقريرًا بشأن الذخائر المتفجرة في سوريا والخطر الذي تشكله على حياة السكان، وأفاد التقرير أن مخلفات الحرب تعرّض شخصًا من بين كل شخصين في سوريا لخطر الموت والإصابة، وتعيق إيصال المساعدات الإنسانية الحيوية، ووثق التقرير مقتل أكثر من ثلث ضحايا الذخائر بينما يعاني واحد من كل ثلاثة ناجين من بتر أحد الأطراف، واثنان من كل ثلاثة تعرضوا لإصابات يستمر أثرها مدى الحياة.
في عام 1997 رفض النظام السوري التوقيع على اتفاقية أوتاوا التي تنص على “حظر استخدام وتخزين وإنتاج ونقل الألغام المضادة للأفراد”، وأوجبت الاتفاقية تدمير الألغام سواء كانت مخزنة أم مزروعة في الأرض، خلال عشر سنوات كحد أقصى، واتخاذ التدابير اللازمة لضمان إبعاد المدنيين فعلًا عن تلك المناطق، عبر تنفيذ برامج للتوعية بخطر الألغام.
تطالب الجهات الحقوقية والإنسانية السلطات الحاكمة في مناطق السيطرة المختلفة وبشكل أساسي قوات النظام بالتوقف عن زراعة الألغام والالتزام بما جاء في نصوص القوانين الدولية، وتطالب أيضًا بتدمير هذه المخزونات بالكامل، كما أن الهيئات الحقوقية السورية طالبت بضرورة تدخل فرق دولية للمساعدة في كشف أماكن توزع الألغام والضغط على القوى المسيطرة في سوريا لتحديد أماكن انتشارها، بهدف التقليل من عدد الإصابات والضحايا المدنيين بسببها.
بالمحصلة، يعاني السوريون اليوم من الموت نتيجة أسلحة مخفية لم تكن بحسبانهم من انهيار المباني المتهالكة والألغام المخفية في الأراضي الزراعية والمناطق السكنية، وتقع كامل المسؤولية على السلطات الحاكمة في كل مناطق السيطرة من أجل العمل على تسهيل عمل المنظمات العاملة في الكشف عن الأبنية المتهالكة والنظر في أمرها أو المنظمات التي تمسح المناطق للبحث عن الألغام وتحديدها للحد من ضحاياها، وفي حال لم يتم تيسير أعمال هذه المؤسسات فإن قطار الموت بهذه الوسائل لن يتوقف رغم انخفاض المعارك والاشتباكات العسكرية.