بات ثقيلًا جدًا على مسامع الناس في لبنان إقامة حفل زفاف، فمن يتحمل كل تلك التكاليف ويتزوج في بلد مستقبله ضبابي يميل إلى السواد؟ أما حدث الولادة فصداه أكثر حدّة لما ستلاقيه تلك العائلة التي تستقبل الطفل الجديد من معاناة في إيجاد حليب وحفاضات ناهيك بالأدوية والتطعيمات.
تشير الأرقام بعد الأزمة عن تراجع في النمو السكاني، فأعداد الوفيات تشهد تفوقًا على أعداد المواليد في بعض المحافظات اللبنانية، حتى بات جليًا أن الشباب اليوم يفكرون ألف مرة قبل الشروع بالزواج ناهيك بعزوف البعض عن الإنجاب لأسباب اقتصادية.
الواقع مخيف، والأرقام على ضبابيتها ترسم للمستقبل صورةً قاتمةً لا يوجد حل لها، الهجرة، اللجوء، وشيخوخة السكان عناوين تهدد بتغيير وجه لبنان إلى الأبد ونسف ديموغرافيته وتوازنه الهش، فهل من يسمع ويعي نواقيس الخطر!
أزمات تتراكم فوق بعضها البعض وتتداخل مفاعيلها ملقية بظلالها الثقيلة على الواقع اللبناني الذي تشتد أزماته مع الوقت، فالتقهقر السكاني بدأ مع الحرب اللبنانية لتتوالى عليه الأحداث مع النزاعات والصراعات الداخلية، لتكتمل فصوله مع انهيار العملة الوطنية والأزمات الاقتصادية وارتفاع التضخم وبلوغ الفقر مستويات غير مسبوقة في لبنان.
ومع بدء الأزمة الاقتصادية التي عصفت بلبنان منذ عام 2019 تراجع عدد الولادات بشكل كبير، وبحسب أرقام المديرية العامة للأحوال الشخصية تم تسجيل 86.584 ولادة عام 2019 و74.049 عام 2020، أما عام 2021 فتم تسجيل 68.130 ولادة.
فما الأسباب التي أدت إلى تراجع الولادات في لبنان؟ وما تأثيراتها المختلفة على شرائح المجتمع اللبناني وأطيافه؟ وكيف ستبدو صورة المستقبل الديمغرافي اللبناني في حال استمرت تلك الأسباب؟
أسباب تراجع النمو السكاني
تركت الأزمة الاقتصادية وتفشي كورونا تداعياتها على الأوضاع في لبنان، فبالإضافة إلى التداعيات الاقتصادية الواسعة هناك تداعيات اجتماعية خطيرة أبرزها تراجع معدلات الزواج والطلاق والولادات عام 2020 مقارنة بعام 2019 ومقارنة بمتوسط الأعوام الخمس الأخيرة (2015-2019)، في حين ارتفعت معدلات الوفيات.
وتشير الأرقام إلى أن معدل الولادات بين عامي 2015 و2019 كان 16.2% ثم تراجع مؤخرًا إلى 14.5% بين عامي 2019 و2020، ويؤكد موقع populationpyramid انخفاض تعداد سكان لبنان بحسب ما يشير كل من هرم 2019 و2021.
ويعد الفقر من أبرز أسباب تراجع النمو السكاني، فقد تضاعفت نسبة الفقر المتعدد الأبعاد في لبنان بحسب تقرير “الإسكوا” من 42% عام 2019 إلى 82% من مجموع السكان في عام 2021، وبلغ عدد السكان الذين يعانون من الفقر المتعدد الأبعاد 4 ملايين نسمة تقريبًا، وهم يمثلون نحو مليون أسرة، بينها 77% من الأسر اللبنانية، أي ما يوازي 745.000 أسرة لبنانية تقريبًا.
كذلك الهجرة أحد أهم الأسباب أيضًا، فالشاب اللبناني يبحث اليوم عن فرصة للرحيل ومغادرة البلاد بدلًا من الزواج والارتباط بالعائلة التي بات حملها ثقيلًا في الوضع الراهن، ففي تقريرها الأخير أشارت “الدولية للمعلومات” إلى أن عدد المهاجرين والمسافرين من لبنان وصل في عام 2021 إلى 79134 شخصًا مقارنة بـ17721 شخصًا في العام 2020 أي بارتفاع مقداره 61413 شخصًا ونسبته 346%.
ويعد تأخر سن الزواج أحد أسباب تراجع النمو السكاني، فالمرأة تسعى للتعليم والعمل أولًا، وبالتالي تأخير سن الزواج يؤخر إنجاب الأولاد ويحد من عددهم، وهذا يعني الاتجاه إلى مجتمعات شبيهة بالمجتمعات الأوروبية.
وتؤكد مصادر لدى المرجعيات الدينية في لبنان لسكاي نيوز عربية أن معاملات الزواج توقفت جزئيًا لأن الناس فعليًا لا يضمنون المستقبل بسبب الظروف، لكن هذا يختلف بحسب الطوائف والمناطق.
وقال أحد مخاتير العاصمة بيروت لسكاي نيوز عربية: “لا يمكننا القول إن معاملات الزواج وعقود القران قد توقفت بشكل كامل، لكننا نجزم بأن عدد هذه المعاملات تراجع بشكل خطير وملحوظ”.
من الناحية الطبية ينعكس تراجع مستوى الولادات على مدى جهوزية الطواقم الطبية، ما دفع العديد من المستشفيات إلى إغلاق أقسام الولادة فيها.
تأثيرات وانعكاسات تراجع النمو السكاني
إذا طالت الأزمة في لبنان يخشى من تغييرات ديموغرافية تشهدها المدن بشكل خاص وبعض المجتمعات المحددة حيث تقل نسبة الولادات فيها كما ستتراجع أيضًا في المجتمعات الريفية لكن بمستوى أقل.
الباحث المتخصص في علم اجتماع الأسرة الدكتور زهير حطب، أكد لموقع الحرة أن العوامل والأسباب المؤثرة لتراجع الولادات متوافرة في هذا المجتمع إلى أبعد الحدود “منها عامل الحرب والاضطرابات الداخلية، حيث يستمر النزاع والخلافات بين مكونات المجتمع وسكانه منذ سبعينيات القرن الماضي وما قبله وحتى اليوم بوتيرة تشتد أو تضعف، الأمر الذي أنتج ظواهر مكونها الأساسي سكاني وهي:
أولًا النزوح والانتقال السكاني من منطقة إلى أخرى لأسباب مختلفة منها: تنقية السكان، اشتداد العمليات والمخاطر والاضطرار لتجنب التنقل من أماكن السكن إلى أماكن العمل، ثانيًا: الهجرة إلى الخارج بهدف البحث عن العمل وتأمين مصادر الدخل واستمراريته، ثالثًا: ارتفاع معدلات البطالة وتراجع استقرار العملة الوطنية”.
باحث: محافظة سكان لبنان على حجمهم العددي سيكون صعبًا وسيؤثر على حجم القوى البشرية اللازمة في فترات لاحقة
هذه العوامل الثلاث تضافرت لتؤكد بحسب الدكتور حطب “على تغيير السلوك السكاني خصوصًا على مستوى الزواج والطلاق واستقرار الأسرة، مع ما يصاحب ذلك، من إنجاب ووفيات وعزوف عن الزواج، هذه الظروف لا تشجع الشباب كثيرًا على تأسيس أسر لهم والإقدام على مشروع توسيع أسرتهم وترسيخها، بل على العكس يقدم المترددون في زيجاتهم على التراجع إما عن مشروع الخطبة وإما على إنهاء الزواج نفسه وإما إلى انفجار مشكلات زوجية تؤدي إلى الطلاق”.
كذلك صرحت الدكتورة فياض لموقع الحرة أنها تخشى من تضرر الهرم السكاني اللبناني حيث “سيفتقد لبنان بعد بضع سنوات لفئة الشباب، في وقت ترتفع فيه نسبة الولادات الأجنبية”.
كذلك شددت الدكتورة نوفل على أن “تراجع الخصوبة الكلية ينعكس تراجعًا نسبيًا في فئة الفتيان أي ممن هم دون سن الخامسة عشر، بموازاة ذلك ترتفع نسبيًا فئة كبار السن، ونكون أمام مجتمع معمّر، وهنا يدخل عامل الرعاية الصحية حيث في ظل ارتفاع كلفة الاستشفاء وأسعار الأدوية هناك خطر كبير على صحتهم”.
من جانبه اعتبر الدكتور حطب أن “محافظة سكان لبنان على حجمهم العددي سيكون صعبًا وسيؤثر على حجم القوى البشرية اللازمة في فترات لاحقة (بعد عقدين من الزمن) كي يقوموا بإعادة البناء الاقتصادي وتجديد الحياة الاجتماعية فيه وتطويره والعمل على ازدهاره”.
مستقبل لبنان الديمغرافي
مشكلة النزوح والأعداد المخيفة لغير اللبنانيين على أرض لبنان ليست مصدر الخطر الوحيد، وإليها يضاف عامل ديموغرافي خطر يهدد بإحداث خلل كبير في البنية السكانية للبنان ويضع البلد أمام خطر وجودي حقيقي، يتمثل في تضاؤل نسبة النمو السكاني بحيث بات يطرح سؤال جدي: هل يكون لبنان في العام 2040 بلد الطفل الواحد؟
تؤكد الدراسات السكانية أن المحافظة على النمو السكاني تتطلب أن تكون نسبة النمو 4.1، لكن في لبنان وفق آخر دراسة سكانية نشرت عام 2019 بلغت 3.6 في القرى و3.5 في بيروت، ومن المتوقع أن تنخفض هذه النسب لا سيما مع ارتفاع كبير لموجة الهجرة بين الشباب التي تمنع تكوين أسر جديدة، وقد تصل نسبة الولادات وفق التوقعات في حال استمرار الهجرة والأزمة الاقتصادية إلى 1.6 للمرأة الواحدة، في حين أن المعدل الذي يؤمن الاستمرارية هو 2.1 طفل لكل امرأة، الأمر الذي يؤدي إلى تغيير البنية السكانية للبنان وتعريض مستقبله للخطر.
يمكن أن نفهم بوضوح كيف أن سكان لبنان يتناقصون بشكل مرعب، وتشير بعض الدراسات إلى أن عدد اللبنانيين دون الخمس سنوات يبلغ 5% من مجمل السكان، بينما يبلغ ما بين 18 إلى 20% وسط النازحين السوريين.
لبنان بلد طائفي يتبع نهج المحاصصة في كل شيء، ليس فقط في المناصب الرفيعة بل في الوظائف البسيطة التابعة للدولة كموظف أو حارس أمن
ولفت رئيس “حركة الأرض اللبنانية” طلال الدويهي إلى “أننا لطالما تحدّثنا عن هذا الواقع، وقُمنا بإحصاءات في هذا الإطار، تُظهِر ملموسات التغيُّر الديموغرافي، الذي يؤثر على المكوّن اللبناني خاصة المسيحي”.
وأشار في حديث إلى وكالة “أخبار اليوم” إلى “تغيير ديموغرافي يحصل لأسباب معيشية واقتصادية، وأخرى أمنيّة تتبع نهج القوة الأمنية والعسكرية، فوضع اليد على عقارات ومشاعات في بعض المناطق، يحصل في ظروف أمنية غير منضبطة، تستفيد من الفوضى، ومن ضعف الدولة، وهذا يُضاف إلى الواقع المعيشي المتردي منذ أكثر من عام، الذي يتسبب بمزيد من التغيير الديموغرافي”.
لبنان بلد طائفي يتبع نهج المحاصصة في كل شيء، ليس فقط في المناصب الرفيعة بل في الوظائف البسيطة التابعة للدولة كموظف أو حارس أمن، فلكل طائفة عدد من الموظفين، فهل ستتغير هذه التركيبة في حال حدث خلل في حجم الطائفة أو نقص عددها؟
يخشى المسيحيون خاصة وغيرهم من الطوائف والأقليات في لبنان من هذا التغيير الديمغرافي خوفًا على مناصبهم لا سيما المركز الأعلى وهو كرسي الرئاسة، ويشدد الدويهي على أن “المشكلة واضحة، ونحن نتابعها ونعمل على معالجتها، لكن الصعوبة كبيرة طالما أن لا دولة تراجع وتلاحق أو تتحرك، تجاه كل ما يحصل”.