نطوف حول آثار الانقلاب على تونس، فالآثار الاقتصادية مست كل بيت والجميع يجأر بالشكوى إلا مكابر يتحدث عن نجاح لا يراه غيره، وعلى أسفلت الطريق قتيل آخر برصاص الدولة ومن مسافة صفر، والشعور بالتوتر العالي يطفح على الوجود وردود الفعل متشنجة في الطرقات ووسائل النقل العامة، هذا قبل أسبوع من العودة المدرسية وما تخلقه من اختناقات مرورية، كما أن الصفحات والمواقع تعج بالتفاصيل والشهادات.
سنتجه إلى أثر آخر يبدو لنا من الأهمية بمكان وهو عجز الجيل السياسي الحاليّ عن الخروج من الأزمة التي خلقها الانقلاب ثم حمل البلد نحو أفق سياسي مقبول في الداخل والخارج، أسباب العجز لا تعود بالضرورة إلى الانقلاب، فالعجز البنيوي لهذا الجيل تعرى ونعتقد أنه غير قادر على تجديد نفسه وقيادة مرحلة أخرى، فمن سيقود تونس نحو المستقبل؟ هل يولد جيل جديد من رحم هذه المعاناة السياسية التي فضحها الانقلاب؟
الانقلاب قضى على من سانده
أولى علامات العجز السياسي كانت من مجموعة متنوعة من الحزيبات اليسارية تحتكر لنفسها صفة التقدمية والديمقراطية وقد قفزت إلى جانب الانقلاب، بل بعضها خطط له وشارك في تهيئة الأرضية السياسية له.
لكن الانقلاب لم يقسم غنيمته مع أحد وترك هؤلاء المساندين أمام باب المتسولين، فاستعاد البعض لسانه ليطلقه على الانقلاب بزعم خيانته للديمقراطية. تغيير الموقف من أحزاب ديمقراطية إلى أحزاب انقلابية ثم العودة (بعد الطرد) إلى ادعاء الديمقراطية نسف كل سمعة أخلاقية وسياسية لهذه الأحزاب والشخصيات وأفقدها مصداقيتها، حتى إن أنصارها سكتوا عن الكلام المباح في وسائل التواصل وعادوا ينشرون الأغاني الحزينة، ونسمعهم الآن يحاولون العودة إلى التشنيع على الانقلاب من باب إظهار الشفقة على الفقراء.
لكن يتبين أن هؤلاء الفقراء منتبهون جدًا لمن يتكلم باسمهم بعد أن سوَّق لانقلاب يملك مفاتيح الجنة فإذا هو كارثة اجتماعية، كما انتزع من مسانديه موضوعهم النضالي المفضل وهو محاربة الإسلاميين، فقد تولى الأمر بنفسه وحرمهم من مركوبهم المريح.
لقد صغر الانقلاب هؤلاء وأفقدهم كل دور في معارضته ولا نرى لهم مستقبلًا بعد انكشاف حقيقة إيمانهم بالديمقراطية والتعايش.
الانقلاب همش معارضيه أيضًا
المناورة الكبيرة التي فرضت على الغنوشي (من أصدقائه) بالابتعاد من سكة الانقلاب أنقذت حزبه وشخصه من استهداف مباشر، لكنها أفقدته شرف معارضته في الشارع، لقد ظل حتى الآن أعلى صوت معارض وقد استعرض قوته في الشارع طيلة السنة الأولى لكنه لم يسقط الانقلاب.
مبادرة “مواطنون ضد الانقلاب” كانت الصوت الأكثر جذرية والأشد وضوحًا ضد الانقلاب، وقد كرست الرؤية ديمقراطية ضد انقلاب وفرضت لغتها على الشارع رغم أنها لم تملك جهازًا إعلاميًا، ونعتقد أن جملها السياسية التي أطلقتها شتاء 2022 قابلة للتحول إلى قاعدة بناء بدائل ديمقراطية أصيلة ولو بعد حين.
بعد فاصل زمني للتأمل نظن أن “مواطنون ضد الانقلاب” لم يثقوا في أنفسهم بالقدر الكافي، لذلك انشغلوا بالبحث عن حماية داخل جمهور أوسع (للخروج من وصم النخبة المعزولة)، فدخلوا تحت سقف جبهة الخلاص الوطني التي لم تصنع لها جمهورًا لعيب بنيوي قامت عليه هو شخصية نجيب الشابي الذي صرف ظهوره في الصورة كثيرًا من المتحمسين.
في الأثناء كان الانقلاب يتقدم في فرض أجندته ويضع الجميع أمام أمر مقضي بما في ذلك إسقاط دستورهم وفرض دستوره، وهو يتقدم إلى انتخابات ستفرض برلمانًا مهما كان عدد المصوتين (نحن ننتظر قانونًا انتخابيًا مفصلًا على رغبة الرئيس وذوقه).
انكشاف قصور المساندين وخيانتهم للديمقراطية وانكشاف عجز المعارضة وقلة حيلتها يدفع الآن إلى التأمل في مستقبل هذا الجيل السياسي التونسي الذي أهدته الثورة حريته فلم يحفظها وسلمها إلى انقلاب.
علامات النهاية
مؤشر أعمار القيادات والزعماء لا يقدم أي بشارة للمستقبل، ولا نرى لهؤلاء الزعماء خلفاءً من بعدهم باستثناء حزب النهضة (دون الخوض هنا في الصراع الداخلي على كرسي الغنوشي).
الدكتور المرزوقي والشيخ الغنوشي يتركان وراءهما حتى الآن تراثًا سياسيًا مكتوبًا، أما السيد نجيب الشابي فكتب سيرته مبررًا كل الفراغات التي تركها حوله بما فيها عجزه وهو الذي انتقل بين كل الأفكار والإيديولوجيات على كتابة نص سياسي مرجعي يعاد إليه من بعده، ولا يعرف لحمة الهمامي غير كتاب ضد الظلامية وهو منشور طلابي مما خطب به في السبعينيات.
وإذا هوّنا من أهمية المكتوب في صناعة الأجيال السياسية، فإن سيرة هذا الجيل (وليس فقط الزعماء المذكورون) تحرك دومًا بطريقة من يحاول سد ثقوب كثيرة في دلوه بسدادة واحدة بنقلها من ثقب إلى آخر ظنًا منه أن ذلك يحفظ الماء في الدلو.
جيل كامل تربى على الاستفادة من الفرص المتاحة دون صناعتها، لذلك لاحق السلطة ورضي بما تتكرم به ولم يستبقها إلا بجمل رنانة لم تشحن بأي مضامين.
هذا الجيل هو قيس سعيد نفسه في أجساد معارضة وكلهم منتهيي الصلاحية
ليس للجيل الحاليّ تقاليد وتراث سياسي مكتوب أو غير مكتوب تعتمده الأجيال من بعدهم لتبني عليه، وكان هذا خافيًا أو مخفيًا تحت سقوف عالية من الخطب حتى جاء الانقلاب فتعرى العجز.
طبعًا ضمن الجيل السياسي الحاليّ توجد رؤوس المنظومة التي أسقطتها الثورة وعادت بالانقلاب، هذه المنظومة ليست مؤهلة أصلًا لإنتاج فكر أو إنضاج بدائل، إنها عصابة لصوص تعيش على ريع الدولة، وقد فشلت حتى في استعادة جمل بورقيبة السياسية لأن الأجيال الشابة (أغلبية القوة الناخبة) ولدت بعد بورقيبة وعرفت خاصة كيف فعل به البورقيبيون (التجمعيون)، فلم تنطل استعادته على أحد.
كان الانقلاب اختبارًا لعمق إيمان هذا الجيل بالديمقراطية وقدرته على صيانتها والتقدم بها نحو الكمال السياسي، ففشل كل الجيل في الاختبار، بل أثبت عجزًا كبيرًا في إنتاج الأفكار التي تتألف حولها الأجيال وتتأسس بها الجماعات السياسية ولو بعد حين، فالنرجسية والمحدودية الفكرية والاستعجال على المكاسب واللهفة على المجد الصغير كلها سمات ثابتة لهذا الجيل السياسي تمنعه من التجدد الذاتي وتسد طرق الأجيال القادمة نحو بناء ذواتها ومشاريعها.
نختم بصورة تعليمية، هذا الجيل هو قيس سعيد نفسه في أجساد معارضة وكلهم منتهيي الصلاحية.