في أواخر العام 2021، وصلت خلود المصري، 40 عامًا، إلى تركيا، رفقة زوجها وأطفالها الثلاث، قادمة من لبنان بعد أن تدهورت الأوضاع الاقتصادية هناك.
وتزامن وصول عائلة المصري، مع تشديد السلطات التركية على إصدار “الكيمليك” للسوريين في إسطنبول، ما دفعها إلى استصداره من ولاية أورفة جنوب تركيا والعودة إلى إسطنبول لأن “فرص العمل فيها أكبر”، وعليه، حُرم أطفالها، البالغة أعمارهم 10 و13 و15 سنة، من الالتحاق بالمدارس التركية.
ترددت الأم الأربعينية على أكثر من مدرسة حكومية في إسطنبول لتسجيل أولادها، لكن في كل مرة “يطلب المسؤول كمليك إسطنبول كشرط لقبولهم”، وبالنسبة لها “العودة إلى أورفه غير ممكنة، إذا رجعنا من أين سنأكل ونشرب؟” تساءلت العلي.
المعاناة ذاتها دفعت الطفلة الفلسطينية نغم النجار إلى المناشدة عبر مقطع مصور تطالب فيه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وسفير بلادها مساعدتها وشقيقتيها للالتحاق بالعام الدراسي الجديد الذي يبدأ في 12 من الشهر الحاليّ.
نغم التي تحب أن تقرأ وتدرس لتصبح طبيبة، تخطت المعابر هروبًا من ضيق الحال بقطاع غزة والقصف الإسرائيلي، إلى مدينة إسطنبول التركية أملًا في حياة تمنحها حقوقًا أهمها التعليم والصحة، قبل أن تصدم بالقرارات التي تمنع من لا يملك تصريح إقامة ساري المفعول من الانتساب للمدارس التعليمية التركية.
تقول والدة نغم، إن عائلتها عبرت تركيا بشكل نظامي من خلال تأشيرة العبور “الفيزا” قبل أربع سنوات، لكن محاولتهم للعبور إلى أوروبا التي كلفتهم أموالًا كثيرةً، انتهت بالترحيل القسري من الحدود اليونانية إلى مطار إسطنبول، منذ تلك اللحظة لم تتمكن الأسرة من تغطيه تكاليف إصدار الإقامات للعائلة المكونة من الأم والأب وثلاث بنات، وحينما سنحت الظروف رُفضت إقامة الأب وصنف وجودهم على الأراضي التركية مخالفًا للقانون.
وتختم الأم قولها: “نعترف بخطئنا، فالظروف جاءت عكس ما كنا نتمناه، لكنني لم أتوقع أن يدفع أطفالي عبء ما اقترفناه من ذنب، فقلبي ينفطر كلما رأينا طلابًا من حولنا ذاهبين إلى المدارس وهن لا يبارحن المنزل”.
فيما تشكو المصرية عروبة محمد، بمنشور عبر الفيسبوك من رفض مسؤولي المدارس التابعة للحكومة التركية القريبة من محل إقامتها تسجيل أبنائها، لكون الإقامة تشارف على الانتهاء، وتقول إنها اضطرت مع انعدام الفرص، إلى دفع كل ما تملكه من أموال لإحدى المدارس الدولية التي تتبع القطاع الخاص، لإلحاق أولادها بالعام الدراسي الجديد، ولا تملك يقينًا بقدرتها على تغطية العام كاملًا كونها المعيل الوحيد لأسرتها، واستحالة العودة إلى بلدها في الوقت ذاته.
إلى هذه اللحظة، لم تطرح حلول مضمونة أو ملموسة لتلك المشكلة، فالعدول عن قوانين وقرارات مُعلنة غير وارد على طاولة المؤسسات الحكومية التركية المعنية
تحتضن المدن التركية المختلفة تجمعات عربية كبيرة من مختلف دول العالم العربي، منهم من لجأ إليها هربًا من الموت أو السجن أو التضييق، ومنهم من جاء مستثمرًا أو طالبًا للدراسة، وينقسم المهاجرون في تركيا إلى قسمين رئيسيين: من دخلوا البلاد بتأشيرة سياحية وحصلوا على إقامة سياحية، وأولئك الذين دخلوا كلاجئين (معظمهم سوريين) ويحملون ما يسمى بالـ”كمليك”.
عاش غالبية العرب المقيمين في تركيا إرباكًا كبيرًا إثر القيود الأخيرة على صعيد منح الإقامة السياحية أو تجديدها التي بفضلها يقيم الملايين في تركيا، هذه القرارات ألقت بظلالها على مصير عدد كبير من المهاجرين الذين فقد عدد منهم تصاريح الإقامة، ما تسبب في منع التحاق أبنائهم بالمدارس التابعة للدولة.
وكانت مديرية الهجرة التركية قد أصدرت بيانًا مكتوبًا جاء فيه “إننا سنمنح الأجانب بإقامة قصيرة المدى للبقاء في تركيا بغاية السياحة لمدة سنة واحدة فقط، وفي حال عدم وجود أسباب حقيقية للبقاء لغرض تصريح الإقامة الجديدة غير السياحية، فاعتبارًا من تاريخ 1 يناير/كانون الثاني 2020 فإنه لن يسمح بالحصول على الإقامة السياحية وتمديدها للغرض نفسه نهائيًا”.
في التفاصيل، يقول أسامة حنفي، موظف سابق في وزارة التربية التركية والمتابع لشؤون الطلبة السوريين في تركيا، إن أي طفل في تركيا يحمل الأوراق الرسمية (الإقامة أو “الكيمليك”) سواء كان تحت الحماية المؤقتة أم الدولية الدائمة، لا يوجد أي مانع من إتمام تسجيله أو التحاقه بالمدارس التركية.
واستدرك حنفي خلال حديثه مع “نون بوست”، قائلًا: “لكن المستجد فيما يخص العائلات العربية والإيغور والأفغان الذين قدموا إلى تركيا عبر الفيزا متأملين تحويلها إلى إقامة أطول، ففي الفترة الماضية بدأت الحكومة التركية بفرض تشديدات على قانون منح تصاريح الإقامة للوافدين الجدد، هؤلاء واجهوا مشكلات، خاصة أن البعض منهم غير قادر على الرجوع لبلاده، وصنّف وجودهم بـ”غير القانوني”، ما تسبب بحرمان أطفالهم من الوصول إلى المؤسسات التعليمية التركية.
ويستكمل “أما حملة الكيمليك للسوريين وفق نظام الإقامة الدائمة، لا مشكلة لديهم باستثناء من قدموا من ولاية أخرى، فتمنع الوزارة تسجيل أي طالب في غير الولاية التي استصدر منها الكيمليك”.
مخارج قانونية ضيقة
إلى هذه اللحظة، لم تطرح حلول مضمونة أو ملموسة لتلك المشكلة، فالعدول عن قوانين وقرارات مُعلنة غير وارد على طاولة المؤسسات الحكومية التركية المعنية، بينما تترك بعض النوافذ الضيقة التي يقدمها محامون بجهود فردية للساعين إلى معالجة أمورهم بشكل قانوني بغض الطرف عن المدة الزمنية.
يقول المحامي والاستشاري في الشؤون القانونية مجد طباع، إن الإشكالية الكبرى تتمثل في إصدار الإقامة لأول مرة، في ظل التشديدات الأخيرة الصادرة عن إدارة الهجرة التركية، لذلك لا تقبل المدارس تسجيل الطالب في حالة عدم وجود إقامة من الأساس، فيمكن لرب الأسرة هنا التقديم على طلب الإقامة الإنسانية، إلا أن إجراءاتها تسير ببطء.
أما في حال رفض التجديد مع وجود قيد مسبق للطالب من السنة السابقة، يقول الطباع: “يبقى الرقم الوطني TC فعالًا وأغلب المدارس تتجاوز المشكلة في حال تم رفع “ديليكتشة” أي طلب استرحام لإدارة التربية والتعليم”.
من خلال تقديم طلب استرحام، تدرس السلطات التركية الطلب وحالة الشخص، وبعدها تُصدِر النتيجة بالقبول أو الرفض، وكل شخص يقدم الطلب في مركز الأمنيات أو شعبة الأجانب في الولاية الموجود فيها الشخص (التقديم يكون شخصيًا أي لا يسمح أن يقدم لك شخص آخر بنيابة عنك).
ويكون الطلب عبارة عن عريضة مكتوبة باللغة التركية “Merhamet dilekçesi” تبين المشكلة التي يعاني منها الشخص أو الطالب ويذكر تفاصيل هذه المشكلة، ويكتب فيها جميع المعلومات الشخصية ويجب أن يُكتَب اسم مقدم الطلب في نهايته مع التاريخ والتوقيع، ولا يقبل الطلب إذا لم يكن عليه اسم مقدم الطلب وتوقيعه وتاريخ التقديم، مع الإشارة إلى ضرورة أن تكتب العريضة “ديليكتشة” عند ترجمان مُحلَّف أو محامٍ تركي، وفق شرح المحامي مجد الطباع لـ”نون بوست”.
وعن الطلاب الخاضعين للحماية المؤقتة “الكيمليك”، نصح الطباع أن يحاول المخالفون في مكان إقاماتهم “الحصول على إذن عمل ومن ثم نقل الكيمليك إلى مكان الإقامة”، مستدركًا “الأمر صعب، لكنه ليس مستحيلًا”.
ماذا عن الخدمات التعليمية البديلة؟!
فيما يخص بدائل تعليم الأطفال، اعتبر الدكتور مهدي داوود المنسق العام لطاولة الحلول، وهي مجموعة من المنظمات والشخصيات الأكاديمية المهتمة بالشأن السوري العام في تركيا، أن الحل الأمثل للأطفال الذين فقدوا حقهم في التعليم بالمدارس الحكومية “الدراسة عن بعد أو الدراسة الحرة، وهو خيار موجود في تركيا، ويحصل الطلبة المسجلون في هذه البرامج على شهادات رسمية موثقة من وزارة التربية التركية.
بينما تنحصر باقي الحلول التعليمية ما بين غير نظامية أي لا تعترف الدولة بشهادته، وأخرى باهظة الثمن وتتمثل الأخيرة بالمؤسسات التعليمية الدولية التي تتبع للقطاع الخاص، وتقع معظم هذه المدارس في تركيا بأنقرة وإسطنبول، وتقدم مجموعة متنوعة من المناهج الدولية، بما في ذلك الإنجليزية والألمانية والفرنسية، كما تقدم بعض هذه المدارس أيضًا برنامج البكالوريا الدولية المعتمدة (IB).
حسب وزارة التربية التركية، نحو 35% من الأطفال السوريين لا يتلقون التعليم في تركيا في العام الدراسي 2021-2022.
ولا تملك الكثير من العائلات المهاجرة رفاهية اختيار مدارس “إنترناشيونال” نظرًا للتكلفة المادية التي تتراوح بين 1200 و7000 دولار أمريكي، وفقًا للمرحلة التعليمية للمنتسب التي تسير مع التكلفة بشكل طردي، بالإضافة إلى المواصلات والكتب والزي والوسائل التعليمية.
من ناحية ثانية، يحصل بعض الأطفال غير المنتسبين للمدارس الحكومية على تعليم غير نظامي في المساجد أو في مراكز تعليمية مؤقتة غير مسجلة أو من منظمات غير حكومية، ولا توجد بيانات شاملة عن أعداد الأطفال الذين يصلون إلى تلك الخدمات في تركيا، فتلك البرامج مكرسة بالكامل لدراسة القرآن وغالبًا ما تكون مجانية.
أما مراكز التعليم المؤقتة التي تظل بغير تسجيل أو التي لم تلب المعايير التنظيمية لوزارة التعليم الوطني التركية فهي لا تحصل على اعتماد من أي نوع، ولا ينال طلبتها شهادات معترف بها عند استكمال دراستهم فيها.
وتقدم مراكز خدمات المنظمات غير الحكومية دروس في اللغات العربية والإنجليزية والتركية وعلوم الحاسوب والموسيقى وموضوعات أخرى، مرة أو مرتين أسبوعيًا.
الأرقام الرسمية عن التسرب
في سياق متصل، قالت وزارة التربية التركية، إن نحو 35% من الأطفال السوريين لا يتلقون التعليم في تركيا في العام الدراسي 2021-2022.
وأظهر تقرير للوزارة، صادر شهر مارس/آذار الماضي، بأن من أصل مليون و124 ألف طفل سوري، يذهب 730 ألف طفل سوري إلى المدرسة، بينما 35% منهم محرومون من التعليم، أي ما يعادل 393 ألفًا و547 طفلًا.
تصريحات وزارة التربية التركية عن تسرب الأطفال من المدارس، أعادت إلى الواجهة مشكلة اللاجئين السوريين مع “الكيمليك”، وتداعيات ذلك على أطفال “المخالفين” وحرمانهم من حقوقهم الأساسية، بما فيها التعليم والصحة.
وقال الدكتور مهدي داوود، إن عدم وجود كيمليك لدى العائلة السورية يعني “حرمان الطفل من الصحة والتعليم والمساعدات الإنسانية والاجتماعية، باستثناء الحالات الإسعافية”.
وأكد أسامة حنفي، موظف سابق في وزارة التربية التركية، أن “الفقر والعوز المادي من أهم أسباب تسرب الأطفال السوريين عن المدارس”، لكن هذا لا ينفي أن مشكلة “الكيمليك” تعد أحد الأسباب أيضًا.
العالم بصدد فقدان جيل كامل من الأطفال في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، نتيجة عدم تمكنهم من التعلم
وأشار حنفي إلى أن تداعيات “الكيمليك” على حق الأطفال السوريين في التعليم بدأت بعد عام 2018، فقبل ذلك كان يسمح للاجئين “استصدار الكيمليك من الولاية التي يقيمون فيها، ويمكن لأطفالهم الحصول على التعليم في المدارس الحكومية”.
وفي تعقيبٍ ذي صلة، أوضحت اليونيسيف أن الأطفال الذين يحرمون من التعليم قد ينتهي بهم الحال بالقيام بأعمال غير مشروعة، وكثيرًا ما يصبحون هم من يعيلون أسرهم، ويصبحون عرضة للاستغلال، ومن الممكن أن يتم تجنيدهم في الجماعات المسلحة بسهولة أكبر.
ولفتت منظمة الأمم المتحدة للطفولة، في تقارير لها، أن العالم بصدد فقدان جيل كامل من الأطفال في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، نتيجة عدم تمكنهم من التعلم، ويجب التحرك بشكل عاجل وإلا سيلحق ضرر على المدى البعيد بالأطفال في المنطقة ويتعذر تغييره.