ترجمة وتحرير: نون بوست
لقد تلاشى اقتصاد الانتباه على ما يبدو بعد أن كانت وسائل الإعلام والشركات الأخرى تتنافس على جذب انتباه الجماهير حتى يتمكنوا من الإعلان عن المنتجات أو الحفاظ على اهتمامنا لنقضي المزيد من الوقت في استهلاك خدماتهم. لكن المستهلكين حاليا يشعرون كما لو أنهم يهتمون بهذه المنصات أو الخدمات طواعيةً. أما فكرة “استراق الانتباه” لا تكون منطقية سوى في حال امتلاك الشخص للسلع.
لا تزال وسائل الإعلام والشركات الأخرى تتنافس على جذب انتباه الناس حتى الآن، مع أنه لا يبدو أن الناس يختارون بوعي الرضوخ لها بل أصبحوا بدلا من ذلك مشتتي الانتباه أكثر فأكثر. لا تشهد فترات الانتباه تراجعًا فقط، بل أصبح محور الاهتمام خارج السيطرة إلى حد كبير. لقد أصبح الاستهلاك السلبي هو العرف السائد وأصبحت منصات التواصل الاجتماعي هي الشاشة التي نستقطب من خلالها العالم. لم تعد “الحرب من أجل الانتباه” قائمة بين مستهلكي وسائل الإعلام وصناعة الإعلام وإنما بين شركات إعلامية مختلفة، ليغدوا الجمهور هو محل النزاع.
يصف ماكس فيشر في كتابه الأخير “آلة الفوضى: القصة الخفيّة عن كيفيّة إعادة وسائل التواصل الاجتماعي تجديد عقولنا وعالمنا” التكتيك الذي استخدمته منصة يوتيوب للوصول إلى مليار مشاهدة يوميا بحلول سنة 2016. فبدلا من تقديم أفضل المعلومات المتاحة بالنظر إلى طلب البحث، تعطي خوارزمية يوتيوب الأولوية لمقاطع الفيديو التي تثير مشاعر الناس من خلال نقل الإحساس بأن المجتمع الذي هم جزء منه، وبالتالي الذي يمثّل هويتهم الخاصة، تحت التهديد.
من الممكن استعادة السيطرة وتحديد كيفية قضاء المرء لوقته من خلال تقديم تصحيح إيجابي لنموذج اقتصاد الانتباه، لأنه يعيد صياغة الانتباه من كونه سلعة فقدنا السيطرة عليها إلى مهارة يمكننا تطويرها واستخدامها لأغراضنا الخاصة.
بالنسبة إلى يوتيوب، لا يتمثل الهدف في إرضاء اهتمامات العملاء وإنما في زيادة عدد مقاطع الفيديو التي يتم مشاهدتها، والتأثير العاطفي على المشاهدين هو ببساطة الوسيلة الأكثر فاعلية لجذب انتباههم.
أدت ضراوة اقتصاد الانتباه إلى تراجع قدرة الناس على الحفاظ على علاقات قوية والانخراط في التفكير العميق. علاوة على ذلك، يؤدي الإلهاء وتعدد المهام إلى الإضرار بالإنتاجية الشخصية وإنتاجية الشركات. ورغم الاعتقاد بأنه من الممكن إنجاز مهمتين في نفس الوقت بكفاءة، إلا أن تعدد المهام يقلل من الإنتاجية ويسبب الإجهاد ويمكن أن يتسبب في النهاية في الإرهاق.
وفي دراسة نُشرت سنة 2020، وجدت وحدة الاستخبارات الاقتصاديّة أن 28 بالمئة من ساعات العمل في العمل المعرفي في الولايات المتحدة تضيع بسبب الإلهاءات، وهذا يعادل حوالي 581 ساعة لكل عامل من أصحاب المهارة المعرفيّة سنويًا. ووفقًا لتقرير منصة يوديمي عن الإلهاء في مكان العمل لسنة 2018، أفاد 36 بالمئة من جيل الألفية / الجيل زد بأنهم يقضون ساعتين أو أكثر من يوم العمل على هواتفهم لأسباب شخصية. لكن التكلفة لا تأتي فقط من استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في العمل، إذ يتشتت انتباه الموظفين من خلال أنواع أخرى من الانقطاعات أيضا، سواء كانت شخصية أو متعلقة بمقر العمل.
في كتابه الجديد بعنوان “قوّة التركيز الثابت“، يوضح دانداباني أنه من الممكن استعادة السيطرة وتحديد كيفية قضاء المرء لوقته من خلال تقديم تصحيح إيجابي لنموذج اقتصاد الانتباه، لأنه يعيد صياغة الانتباه من كونه سلعة فقدنا السيطرة عليها إلى مهارة يمكننا تطويرها واستخدامها لأغراضنا الخاصة.
من خلال تعاليمه وتمارينه، يوضح دانداباني لقرائه كيفية تطوير مهارات التركيز والانتباه وبالتالي تحسين إنتاجية الفرد وصحته العقلية وعلاقاته، كما أنه يوفر أدوات لقادة الشركات لتقليل الإلهاءات في العمل من أجل مصلحة موظفيهم. وبالنسبة للمفاهيم والتعريفات التي يستخدمها، فهي متجذرة في الميتافيزيقا الهندوسية وتعاليم معلمه غوروديفا، ولكن يمكن تقديرها من قبل أي شخص مهتم بتعلم كيفية اكتساب المزيد من السيطرة على حياته. علاوة على ذلك، تتماشى العديد من تفسيراته للطريقة التي يعمل بها الانتباه والتركيز مع علم النفس المعاصر.
إذا كان بإمكان المرء صقل قدرته على الحفاظ على التركيز وتوجيه هذا التركيز نحو ما يريده في الحياة بدلا من ما يريده الآخرون منهم، فستكون السعادة نتيجة ثانوية.
من بين أفضل الأفكار الموجودة في الكتاب الاعتراف بأن معظم الناس لا يعرفون كيفية التركيز لأنهم ببساطة لم يتعلموا ذلك أبدًا؛ وأن القدرة على التركيز فطرية وهو أمر غير دقيق وخطير، لكن من خلال التعليمات والممارسة، يمكن للناس أن يتعلموا طريقة زيادة قوّة تركيزهم ومدّته، كما أنه سيكون من الأسهل الانتباه ويستغرق اتقان ذلك جهدا أقل. بمجرد أن يفهم المرء آليات التركيز، يمكنه تعليم الآخرين كيفية صقل هذه المهارة، وكتاب دانداباني هو أكبر شهادة على ذلك. والاعتقاد بأن التركيز هو ببساطة قدرة جوهرية خطير لأنه يجعل الأطفال – والبالغين – عرضة للفشل. فما هي الظروف الأخرى التي نفترض فيها أن الشخص ببساطة قادر على فعل شيء ما، وفعله بشكل جيد دون أن يتم تعليمه كيفيّة فعله؟
يقضي الآباء والمعلمون ساعات لا تحصى في تعليم الأطفال وتدريبهم ليكونوا أفضل في القراءة والرياضة والأنشطة الأخرى. وعندما لا يستطيع الأطفال التركيز بعد أن يُطلب منهم القيام بذلك، يُنظر إليهم على أنهم مشكلة. وعندما يواجه البالغون صعوبة في التركيز، يصبح من الصعب التعامل معهم.
هناك فكرة أخرى يشاركها دانداباني وهي ما يسميه “قانون الممارسة”. على غرار الفكرة المنسوبة إلى دبليو إدواردز دمينغ، التي تفيد بأنه “قد تم تصميم كل نظام بشكل مثالي للحصول على النتائج التي يحققها”، ينص قانون دانداباني على أن “الإتقان هو نتاج ما تواظب على ممارسته”. لكن هذا القانون سيف ذو حدين، لأن دانداباني يصف انخراط الشخص في المشتتات على أنه ممارسة تمامًا مثلما يصف العمل على تعزيز الانتباه على أنه ممارسة أيضا. بعبارة أخرى، “نصبح جيدين فيما نمارسه حتى لو لم يكن ما نمارسه جيدا بالنسبة لنا”.
وفقا لقانون الممارسة، من أجل تحسين تركيزنا لا يجب أن نفكر فقط في عدد المرات التي نمارس فيها التركيز أو الحفاظ على انتباهنا، بل علينا أيضًا التفكير في عدد المرات التي نسمح فيها بأن يتشتت تركيزنا. لذلك، قد يستغرق تطوير هذه المهارات وقتا أطول ويكون أكثر صعوبة مما يدركه المرء، لأننا أصبحنا بالفعل نتقن فن تشتيت انتباهنا ونحتاج إلى التخلص من هذه المهارات.
يستحق هذا الأمر كل هذا العناء، وقد كتب دانداباني أن “القدرة على التركيز هي واحدة من أعظم أصول البشرية. فهي محور جميع نجاحات ومساعي البشرية، لأن القدرة على التركيز هي ما يساعد الشخص على إظهار أهدافه في الحياة”. بالنسبة إلى دانداباني، إذا كان بإمكان المرء صقل قدرته على الحفاظ على التركيز وتوجيه هذا التركيز نحو ما يريده في الحياة بدلا من ما يريده الآخرون منهم، فستكون السعادة نتيجة ثانوية.
المصدر: فوربس