في اليومين الأخيرين، ركزت أغلبية وسائل الإعلام التونسية اهتمامها على شحنة سكر قادمة من الجزائر، لا تتجاوز كميتها 20 ألف طن، تتبع مسيرتها وفي كل ساعة نقرأ عناوين تفيد بقرب وصولها إلى الحدود التونسية، كأننا أمام إنجاز لا مثيل له.
يمكن اعتبار وصول شحنة سكر إنجازًا لنظام قيس سعيد، وهكذا يُريد الإعلام تصويره للتونسيين، فالسكر مفقود ومصنع إنتاجه متوقف عن العمل منذ فترة، وأغلبية مصانع المواد الغذائية توقفت عن العمل بسبب غياب هذه المادة الأساسية.
لا تفتقد السوق التونسية السكر فقط، إذ يغيب عنها أيضًا الزيت النباتي والحليب والألبان والمياه المعدنية والعديد من المواد الأساسية الأخرى، ما يؤكد حجم الأزمة التي وصلت إليها البلاد، في ظل عجر نظام سعيد عن مواجهتها وتخفيف أثرها على التونسيين، لغياب الرؤية والعجز الكبير في الموازنة العامة وعدم وجود مصادر تمويل غير البنوك المحلية التي تفرض شروطًا مجحفةً على الدولة.
هذا الوضع زاد من حدة الاحتقان الاجتماعي في تونس، وهو ما نلاحظه بالعين المجردة، حيث ارتفعت الاحتجاجات رغم غلق الفضاء العام، وتنامت ظاهرة الهجرة غير النظامية وبلغت أرقامًا قياسية، فأغلب التونسيين ضاقوا ذرعًا ببلادهم ولا يرون فيها مستقبلًا للحياة.
بضائع مفقودة
قبل يومين، أعلن كاتب عام الفرع الجامعي للسياحة والتجارة والصناعات الغذائية بمحافظة بن عروس (شمال تونس) سهيل بوخريص عن نفاد مادة السكر بصفة تامة بكامل مخازن ديوان التجارة بكامل تراب الجمهورية، موضحًا أن شح مادة السكر بدأ منذ أواخر شهر يونيو/حزيران وتواصل حتى شهر يوليو/تموز.
وتقدر حاجة السوق المحلية من السكر بألف طن يوميًا، إذ يبلغ الحجم السنوي للاستهلاك الوطني 365 ألف طن، فيما يبلغ المخزون الإستراتيجي 90 ألف طن، ولأول مرة في تاريخ البلاد ينفد المخزون الإستراتيجي لهذه المادة.
تسبب هذا الأمر في توقف نشاط بعض المصانع لأيام معدومة من بينها مصانع البسكويت والمشروبات الغازية والشيكولاتة، ثم تم تزويدهم بصفة دورية بنسبة 20% فقط من الكميات المطلوبة للإنتاج، والآن هي مهددة بالتوقف عن العمل كليًا.
دفع هذا الأمر بالعديد من المصانع على غرار مصنع كوكاكولا ومصنع بسكويت سيدة إلى إحالة عدد من العمال للبطالة إلى حين توافر مادة السكر، ويقدر عدد المتضررين بشكل مباشر وغير مباشر بأكثر من 30 ألف.
تعاني تونس من شح الموارد المالية، في ظل توقف الإنتاج في قطاعات عديدة ورفض الصناديق المانحة تمويل موازنة الدولة العامة
فضلًا عن السكر، تشهد الأسواق التونسية ندرة القهوة، ما اضطر العديد من المقاهي إلى غلق أبوابها، فيما اضطرت أخرى لرفع الأسعار بسبب لجوئها إلى شراء هذه المادة من الأسواق السوداء بعيدًا عن المسالك القانونية.
كما تشهد الأسواق التونسية، فقدانًا للزيت النباتي الذي عرفت أسعاره ارتفاعًا كبيرًا، ورغم حديث الدولة عن ضخ كميات كبيرة من الزيت النباتي المدعم في الأسواق، لم يحصل ذلك إلى الآن، فمن الصعب جدًا أن تجد لتر زيت في أي محل.
إلى جانب ذلك، يشهد قطاع الدواجن هو الآخر ومنذ أسابيع عديدة ارتفاعًا لافتًا في الأسعار، فقد تجاوز سعر الكيلوغرام الواحد للسكالوب 20 دينارًا، وهو أعلى سعر خلال السنوات الأخيرة، حتى الحليب ومشتقاته يشهد أزمة، فالمنتج الإستراتيجي الحاليّ لا يكفي إلا لأسبوعين، ونفس الشيء بالنسبة للدقيق والأرز.
تشهد تونس نقصا في مواد غذائية أساسية أدى إلى اضطراب في عمل مصانع وغياب منتجات عن رفوف المتاجر، في البلاد التي يرى خبراء أن “الصعوبات المالية” التي تعاني منها هي السبب الرئيسي للأزمة.
ملا بلاد و ملا حالة ? الواحد كينو عايش في الادغال
— Malek Amri (@MalekAmri13) September 9, 2022
وتكفي جولة سريعة بكبرى الفضاءات التجارية في تونس حتى نتبين حجم الأزمة، حيث تكاد رفوف المواد الغذائية تكون فارغة، ويُفرض على المواطنين – إن وجدت بعض المواد – شراء كميات محدودة فقط، حتى لا تنفد نهائيًا.
حتى المحروقات عرفت إضرابًا كبيرًا في الأسابيع الأخيرة، فدائمًا ما تشهد البلاد أزمة وقود وفقدان العديد من المواد البترولية، وقد سجلنا ذلك في مرات عديدة بأماكن مختلفة خاصة في العاصمة التي يزداد فيها الاستهلاك لارتفاع عدد السكان هناك.
خزينة فارغة
يُرجع المسؤولون فقدان العديد من المواد الغذائية في البلاد إلى أسبابٍ خارجية أهمها تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية على الاقتصاد الوطني، فضلًا عن أسباب داخلية على رأسها تصاعد الاحتكار وإتلاف السلع من المضاربين.
في كل اجتماعاته، يقول الرئيس قيس سعيد إن غياب السلع الأساسية عن السوق، سببه “الاحتكار” و”المضاربة”، ودائمًا ما يدعو رئيس الحكومة نجلاء بودن وباقي الوزراء إلى “مزيد من بذل الجهود لمقاومة مظاهر الاحتكار”، كما سبق أن قال إن هناك “تعطيلًا في توزيع عدد من البضائع لغايات سياسية وأن النقص لا يتعلق بالقدرات المالية للدولة بقدر ما يتعلق بمحاولة افتعال الأزمات”، وفق بيانات للرئاسة.
لكن ببحث بسيط في أسباب الأزمة يتبين أن السبب الأبرز هو انعدام السيولة الكافية لشراء المواد الغذائية، فقبل سنة من الآن كان للدولة التونسية إمكانية شراء المواد الغذائية بالتقسيط أو حتى دون أن تدفع بالحاضر، لكن مع تنامي الأزمة الاقتصادية والسياسية، امتنع العديد من المزودين الدوليين عن تسليم حمولاتهم من الحبوب والمحروقات في ظل عدم سداد ديونهم السابقة.
وفقًا لميزانية الدولة لعام 2022، فمن المتوقع أن يبلغ الدين العام لتونس ما يقرب من 114.14 مليار دينار (40 مليار دولار) بنهاية العام الحاليّ بما يشكل 82.6% من الناتج الإجمالي المحلي بزيادة نسبتها 81% عن 2021.
يُنذر هذا الوضع بتفجر اجتماعي قريب، في حال لم يفلح نظام قيس سعيد في تجاوز الأزمة وتقديم الحلول الكفيلة لاستعادة ثقة التونسيين
تعاني تونس من شح الموارد المالية، في ظل توقف الإنتاج في العديد من القطاعات ورفض الصناديق المانحة تمويل موازنة الدولة العامة، نتيجة تراجع تصنيف البلاد الائتماني وتواصل الأزمة السياسية في البلاد وغياب الرؤية الواضحة، وكانت وكالة “فيتش” الدولية للتصنيف الائتماني، قد خفضت في مارس/آذار الماضي تصنيف تونس السيادي من مرتبة “B-” إلى “CCC”.
وسبق أن صنفت وكالة “بلومبيرغ إيكونوميكس” الأمريكية تونس في القائمة الحمراء للبلدان الأكثر عرضة للتخلف عن السداد، فيما وضع تقرير لصحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية أيضًا تونس في قائمة الدول التي قد “تجد نفسها مضطرة للاختيار بين الدفع للدائنين أو توفير الغذاء والوقود لشعوبها”.
تنتظر الحكومة التونسية بفارغ الصبر التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد لإقراضها نحو 4 مليارات دولار لتجاوز الأزمة المالية التي تعرفها البلاد وتسديد بعض ديونها، وربط بعض الدول تقديم قروض ومساعدات لتونس بالتوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد.
وتكافح الحكومة التونسية لدفع رواتب موظفي الدولة وفواتير الموردين الأجانب، ولم تجد غير البنوك المحلية لإقراضها بالعملة المحلية والأجنبية لكن وفق شروط مجحفة، كما لجأت الدولة إلى طباعة الأموال، ما أدى إلى ارتفاع نسبة التضخم في البلاد.
احتقان اجتماعي
نتيجة هذا الوضع عرفت تونس ارتفاع نسبة التضخم وبلوغه أرقامًا قياسية، إذ تشير آخر الأرقام الرسمية إلى أن نسبة التضخم لشهر أغسطس/آب 2022 التي أعلنها المعهد الوطني للإحصاء (حكومي)، قُدرت بـ8.6%، وهي أعلى نسبة للتضخم تبلغها تونس منذ سبتمبر/أيلول 1991، عندما سجلت آنذاك 8.65%.
?بداية من الغد #تونس تبدأ بتطبيق نظام صحي هو الأول من نوعه في العالم، لا سكر وياغورت ولازيت للحماية من السمنة المفرطة، وأمراض السكري، ولا قهوة لانها من المنبهات وتأثر على النوم العميق، ولا محروقات للتشجيع على ممارسة الرياضة
وبهذا تونس ستدخل التاريخ كأول دولة Healthy في المجرّة?
— إسفـرادِسْـكـي (@sefarjaaal) September 9, 2022
هذا الوضع زاد من حدة الاحتقان الاجتماعي في تونس، إذ تعددت التحركات الاحتجاجية في العديد من المناطق بالبلاد رغم سيطرة النظام شبه الكلية على الفضاء العام في البلاد وعدم سماحه بالاحتجاج مهما كان سبب ذلك.
يعيش الشارع التونسي حالة من الغليان والاحتقان، في ظل ارتفاع أسعار العديد من المواد الأساسية وفقدان العديد منها في الأسواق، والتجاء الدولة إلى القمع والترهيب للسيطرة على المجتمع، في ظل عجزها عن إيجاد الحلول الكفيلة لتجاوز الأزمة.
يُنذر هذا الوضع بتفجر اجتماعي قريب، في حال لم يفلح نظام قيس سعيد في تجاوز الأزمة وتقديم الحلول الكفيلة باستعادة ثقة التونسيين، فالتطبيع الحاصل بين التونسيين ومظاهر البؤس لن يدوم طويلًا وقريبًا ستحدث قطيعة بينهما وسيرجع الشعب للشارع.