ترجمة وتحرير: نون بوست
تقع مقاطعة كالينينغراد الروسية المعزولة على ساحل البلطيق، ما يجعلها أقرب منطقة إلى أوروبا من أي جزء آخر من روسيا، وهي محاطة بقوات الناتو وبولندا وليتوانيا. كانت في السابق من أراضي بروسيا ولها أيضًا تاريخ عريق كمركز للثقافة الأوروبية. وقد سار الفيلسوف إيمانويل كانت في شوارعها في القرن الثامن عشر، وكتب الروائي توماس مان رواية قصيرة فيها في سنة 1929. وإلى حين اندلاع الحرب في أوكرانيا، كان للمنطقة قدر ضئيل من الاندماج في الحياة الأوروبية، وكان لكالينينغراد تجارة رائجة مع ليتوانيا وبولندا، حيث كان بإمكان سكانها دخول الأراضي البولندية باستخدام بطاقة خاصة.
في الوقت الراهن، يتحسر العديد من سكانها على نهاية التجارة عبر الحدود الأمر الذي أدى إلى تدهور مستويات المعيشة وحرمان السكان من العديد من المنتجات الأوروبية. ولكن القليل من السكان يساورهم الشك في أن “العملية الخاصة” للرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أوكرانيا هي عملية مُحقّة أو أن بولندا وليتوانيا المجاورتين هما أعداء روسيا. ومن وجهة نظر علم الاجتماع، يجسد هذا التناقض مثالًا على الموقف الروسي النموذجي الذي اتضح أكثر بسبب موقع كالينينغراد الجغرافي. خذ مثلاً برزخ قورش، وهو تكوين ساحلي خلاب يمتد من كالينينغراد إلى ليتوانيا. حسب العديد من السكان المحليين، فإن الجزء الذي ينتمي إلى ليتوانيا يتم الاعتناء به بشكل أفضل من الجزء الروسي، كما أن الطعام البولندي أفضل بكثير من الطعام المتوفر في كالينينغراد. ومع ذلك، تتم متابعة هذه الملاحظة أحيانًا بملاحظة مرتجلة: “بمجرد أن نستعيد أوكرانيا، ربما سوف نسيطر على الجزء الليتواني من برزخ قورش أيضًا”.
إن النظام الغذائي والقيم أمران منفصلان تمامًا بالنسبة لمتوسط سكان كالينينغراد. فمن وجهة نظرهم، هؤلاء الليتوانيون الذين كانوا شركاء مثاليين للعمل اليومي هم أيضًا أتباع أيديولوجيون للولايات المتحدة. ويسود اعتقادان أساسيان يسمحان للروس بالبقاء مقتنعين بأن قيادتهم وجيشهم على حق: الأول هو أن هناك تهديدا “لشعبهم” – الذي يقصدون به إلى حد كبير المتحدثين باللغة الروسية في شرق أوكرانيا – والثاني أن مسؤولية ما يحدث في أوكرانيا تقع بالكامل على عاتق الغرب. وبناء على ذلك، فإن حرب بوتين هي تأكيد رمزي محض على عظمة روسيا ولا علاقة لها بالحياة اليومية.
يصر بوتين، إلى جانب مسؤوليه ورجال دعايته، على أن الروس متحدون في دعم “العملية العسكرية الخاصة” وأن المجتمع الروسي قد اتحد بشكل كامل، ويستحق أولئك الذين يعارضون أن يوصفوا بـ “المنبوذين”.
تواصل هذه المواقف المتناقضة لمدة نصف سنة خلال الصراع الذي تسبب في انخفاض كبير – لكن لا يزال غير ملاحظ – في مستويات المعيشة يجعل فهم الطبيعة المعقدة للرأي العام الروسي حول الحكومة الروسية وحول الحرب أكثر أهمية. إن البحث الاجتماعي الذي أجريته لصالح مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي بالاشتراك مع دينيس فولكوف، مدير مركز ليفادا (وهي منظمة استطلاعية مستقلة مقرها موسكو) يقدم رؤية جديدة لكيفية تفكير الروس العاديين في الحرب؛ كما أنه يقدم صورة أوضح عن كيفية تمكن النظام من إدارة السكان منذ بدء الحرب، فضلاً عن بعض التوترات الأساسية التي بدأت في الظهور في المجتمع الروسي.
خلال 23 سنة من وصوله الفعلي إلى السلطة، لم يرسخ بوتين نظاما شديد الوحشية فحسب بل نجح أيضًا في تنويم الكثير من الشعب الروسي إلى درجة دفع المجتمع المدني إلى حد كبير إلى سراديب الموتى، ويبدو أن حكمه ثابت لا يتزعزع. وبطبيعة الحال، هناك العديد من التكتيكات التي استخدمتها الحكومة وتنفرد بها روسيا: مثل الرقابة على وسائل الإعلام والقمع الوحشي للمعارضة وطقوس الطاعة مثل رفع العلم وترديد النشيد الوطني في المدارس يوم الإثنين. وكما توحي حالة كالينينغراد، فإن النظام في عدد قليل من البلدان الأخرى حقّق مثل هذا القمع الكامل لمجتمع تمكن من أن يصبح حديثًا وحتى غربيًا. بالنسبة لأولئك الذين يسعون إلى عزل روسيا أكثر عن أوروبا والولايات المتحدة من خلال حظر السفر وقيود التأشيرات، فإنه من الضروري فهم طبيعة هذا التنويم المغناطيسي الذي يمارسه النظام وأين تكمن نقاط ضعفه.
الملتزمون السلبيون
في البداية، يتسم الرأي الروسي بشأن الحرب بكونه أكثر تعقيدًا مما قد تستنتجه دراسة خاطفة. وقد أظهر استطلاع الرأي الذي أجراه مركز ليفادا بين شهري شباط / فبراير وآب / أغسطس دعمًا قويًا – 70 بالمئة أو أكثر – للحرب في أوكرانيا. وبالمثل، زادت نسبة التأييد العامة لبوتين منذ بدء الحرب مثلما حدث بعد ضم شبه جزيرة القرم في سنة 2014، حيث أن العقوبات الغربية وقيود السفر لم تفعل شيئًا لتغييرها. ولكن إلقاء نظرة فاحصة على هذه الأرقام يشير إلى مجتمع منقسم إلى حد كبير حول العديد من القضايا بما في ذلك المواقف تجاه النظام.
عند سؤالهم عن سبب دعمهم “للعملية الخاصة”، على سبيل المثال، قدم الروس أسبابًا متنوعة. أعرب بعض المشاركين في مجموعات المناقشة عن دعمهم الصريح لشن حرب عدوانية أو زعموا أن روسيا ليس لديها خيار سوى غزو أوكرانيا. مع ذلك، توجد مجموعة أصغر من الملتزمين السلبيين إلى جانب هؤلاء المؤيدين المتحمسين، الذين يظهرون القليل من الاهتمام بالحرب ولكنهم يجدون أنه من المريح اتباع وجهة النظر السائدة.
عدد المعارضين اليوم أكثر مما كان عليه في سنة 2014، لكنهم صامتون.
تصبح هذه الاختلافات أكثر وضوحًا عندما يُطلب من الروس وصف مشاعرهم بشأن الحرب. وحسب الاستطلاع الذي أُجري في شهر آذار/ مارس، قالت أغلبية بسيطة من المستطلعين – 51 بالمئة – إن الحملة العسكرية في أوكرانيا أثارت مشاعر “الفخر بروسيا” وأنهم يدعمونها “بشكل مطلق”. لكن عددا آخر لديه آراء مختلفة بشكل واضح، حيث قال 19 بالمئة إنهم شعروا “بالغضب والانزعاج” و”العار” أو “الاكتئاب واليأس”؛ بينما شعر 31 بالمئة “بالقلق والخوف والرعب”؛ في حين شعر 12 بالمئة “بالصدمة”. وفي المحصلة، تتناقض هذه المجموعة من المشاعر السلبية التي عبر عنها ما يقارب نصف المستطلعين مع نسب سنة 2014، عندما كان الروس إيجابيين للغاية بشأن ضم شبه جزيرة القرم.
ربما كان الأمر الأكثر إثارة للدهشة هو ما كشفته استطلاعات الرأي حول مستوى المعارضة. وبالنظر إلى الاعتقالات الجماعية والعقوبات القاسية، فإن عددا قليلا جدًا من الروس يقولون إنهم مستعدون للاحتجاج اليوم – فقط نصف عدد الذين قالوا إنهم سيفعلون ذلك في سنة 2014. مع ذلك، فإن عدد المستجيبين الذين قالوا إنهم لا يتفقون مع تصرفات روسيا في أوكرانيا في واقع الأمر قد ارتفع بشكل طفيف، من 14 بالمئة في شهر آذار / مارس إلى حوالي 17 بالمئة في شهر آب / أغسطس. والجدير بالذكر أن هذا الرقم يقارب ضعف مستوى المعارضة أثناء وبعد ضم شبه جزيرة القرم، أي أن هناك عددا أكبر من المعارضين في روسيا اليوم مقارنة بسنة 2014 لكنهم ظلوا صامتين فعليًا.
يصر بوتين، إلى جانب مسؤوليه ورجال دعايته، على أن الروس متحدون في دعم “العملية العسكرية الخاصة” وأن المجتمع الروسي قد اتحد بشكل كامل، ويستحق أولئك الذين يعارضون أن يوصفوا بـ “المنبوذين”. لكن هذه الادعاءات غير صحيحة: فالاتحاد هش للغاية ومن بين ما يقارب 30 بالمئة ممن يدعمون العملية “بالأحرى” أصيبوا بالصدمة والتردد ويبدو أنهم يحاولون ببساطة التكيف مع الوضع الجديد باتباع التيار الرئيسي. البعض منهم قد فعل ذلك بدافع الخوف، وقسم آخر بسبب أنهم لا يملكون رأيًا خاصًا بهم ويفضلون اتباع بوتين. وهذا ما يسمى تحيز الوضع الراهن أو الطاعة الاستباقية.
بوتين مقابل الحقيقة
من غير المرجح أن تؤدي قيود التأشيرات التي اقترحتها الحكومات الأوروبية إلى وقوف الروس ضد النظام. وقد دعا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي وعدد من القادة الأوروبيين، مستشهدين بالدعم الكبير للحرب من قبل المواطنين الروس العاديين، إلى فرض قيود صارمة على السفر لمعاقبة المواطنين الروس. ولكن كما أظهر الرد الشعبي على حملات الضغط الأوروبية خلال الأشهر الستة الماضية، يبدو أن مثل هذه الإجراءات في الغالب تعزز الدعم لبوتين والحرب. وبسبب بناء حواجز جديدة بين الروس والغرب، يمكن أن تسهل هذه القيود على الحكومة الروسية تشكيل الرواية التي تريدها عن الحرب.
بدلاً من عزل الروس العاديين عن العالم الخارجي قد تنجز أوروبا والولايات المتحدة أكثر بكثير من خلال القيام بعكس هذا وذلك من خلال مساعدة الروس على الوصول بشكل أكبر إلى مصادر المعلومات الخارجية. ونظرًا لسيطرة الدولة الروسية شبه الكاملة الآن على وسائل الإعلام التي تتخذ من روسيا مقراً لها، فإنه من المهم الحفاظ على مصادر بديلة للمعلومات، خاصة عبر موقع “يوتيوب” الذي لم يتم حظره بعد في روسيا والذي يتيح للمشاهدين الوصول إلى محتوى الفيديو من فريق زعيم المعارضة المسجون أليكسي نافالني ومن المذيعين السابقين لمحطتي الإذاعة المستقلة “إيكو موسكفي” و”دوزد تي في”، اللتين أغلقتا بعد اندلاع الحرب.
وتشمل المصادر المهمة الأخرى قنوات تطبيق “تلغرام” للدردشة، بالإضافة إلى مواقع وسائل الإعلام المستقلة وعمليات البث المحظورة في روسيا التي لا يزال من الممكن الوصول إليها عن طريق “شبكات الإنترنت الخاصة” بما في ذلك صحيفة “نوفايا غازيتا يوروب” التي أسسها صحفيو “نوفايا غازيتا” في لاتفيا بعد هروبهم من روسيا، وصحيفة “ذا نيو تايمز” وبعض وسائل الإعلام الاستقصائية مثل موقع “فازنيا إستوري” من العاصمة ريغا وموقع “إنسايدر”.
تساءلت بعض الحكومات الأوروبية والمؤثرين عما إذا كان الصحفيون والمحللون والناشطون والأكاديميون الروس يستحقون العيش في الغرب. وهم بذلك يفشلون في فهم مدى أهمية تمكين ممثلي وسائل الإعلام الروسية المحظورة والمنفية من مواصلة النشر والبث من الخارج. وفي كثير من الحالات، أصبحت المعلومات التي يقدمونها هي البديل الوحيد باللغة الروسية لدعاية الدولة الروسية، التي أصبحت الآن المصدر الوحيد للمعلومات للعديد من الروس العاديين.
تمثل الحقيقة الآن أحد التهديدات الرئيسية لنظام بوتين الذي بنى نفسه بالاعتماد على لامبالاة الروس العاديين وجهلهم. وتعد الجبهة الإعلامية لموسكو بنفس أهمية الجبهة العسكرية التي تمر عبر أوكرانيا. وبحلول شهر تموز / يوليو 2022، تم إنشاء منظمة “روسكومسفوبودا” وهي مصدر لتتبع المعلومات المحظورة عبر الإنترنت، وقد تمكنت من تسجيل أكثر من 5.300 موقع وروابط محظورة. في غضون ذلك، أعلن المدعي العام الروسي مؤخرًا أن 138 ألف موقع شبكي ومحددات موقع الموارد الموحد قد خضعت للرقابة العسكرية. كما تم تغريم الصحفيين ومحاكمتهم لنشرهم “أخبارا كاذبة” عن الجيش و”تشويه سمعة” القوات المسلحة. وفي أوائل شهر أيلول / سبتمبر، حُكم على الصحفي إيفان سافرونوف بالسجن 22 سنة لنشره تقريرا عن صفقات الأسلحة العسكرية الروسية والجيش الروسي.
تعتقد نسبة من أولئك الذين شاركوا في استطلاعات الرأي في مركز ليفادا – حوالي النصف – ممن هم نشطون وملتزمون عدوانيون أن المعلومات الدقيقة عن الحرب هي “أخبار مزيفة”. وعلى الأرجح، فإن كثيرين منهم لا ينظرون إلى التقارير الأجنبية على أنها “مزيفة” بل هي تهديد وتساعد العدو. ولن يتأثروا بمزيد من هذه المعلومات. ولكن العديد من الروس الآخرين – أولئك الذين هم ملتزمون سلبيون أو غير مبالين إلى حد كبير – يبدون أقل اقتناعًا بالرواية الرسمية.
وفي حالة إضعاف قوة الإعلام والتلفزيون الرسمي، فقد يبدأ هؤلاء – المنتمين لهذه الشريحة من السكان – بتغيير رأيهم بشأن “العملية الخاصة” وحكومتهم. ولكن للنجاح في ذلك يجب أن يكون لديهم إمكانية الوصول إلى مصادر بديلة للمعلومات والتحليل. ومن المؤكد أن العديد من النخب السياسية والتجارية في روسيا متعلمون بما يكفي لتمييز الصدق من الكذب.
كسر التعويذة
كما يوحي التاريخ الثقافي لكالينينغراد، فإن التقنيات التي استخدمها بوتين لجعل الشعب الروسي سلبيًا وتعزيز حكمه ليست جديدة وهي نموذجية للأنظمة الاستبدادية. وفي شهر آب / أغسطس سنة 1929، كتب توماس مان رواية “ماريو والساحر” أثناء إجازته في منتجع راوشن الساحلي البروسي – الذي يقع اليوم في مدينة سفيتلوغورسك الروسية. وتحكي الرواية قصة المنوم المغناطيسي سيبولا، الذي يجري تجارب على المتفرجين بما في ذلك “رجل نبيل من روما” وقد سمح لنفسه بالتجربة بينما يحاول مقاومة التنويم المغناطيسي عن عمد. ولكن الرجل نام مغناطيسيًا وبدأ بالرقص بأمر من المنوم المغناطيسي. المغزى واضح: لشرح معنى روايته القصيرة، كتب مان أن مجرد رفض شيء ما، دون اتخاذ إجراء ضده، قد لا يكون كافيًا للاحتفاظ “بفكرة الحرية”. وعلى العكس من ذلك، في ممارسة الرفض السلبي قد تسمح الضحية لنفسها بالوقوع فريسة لتعويذة المنوم المغناطيسي. وكان المعنى السياسي لقصة مان – إخضاع السكان السلبيين من قبل ديكتاتور – غير ملحوظ بشكل كبير في تلك الفترة. ولكن سرعان ما حُظرت الرواية في إيطاليا الفاشية.
نجح بوتين، بنفس طريقة المنوم المغناطيسي لمان، في قلب معنى الكلمات. فقد أصبح غزو أوكرانيا هو “تحريرا للشعب” و”استعادة الأرض”، وأصبحت القيم الإنسانية العالمية هي “شمولية نيوليبرالية” مفروضة على دول مختلفة، وأن الانحدار إلى العصور المظلمة في السياسة والاقتصاد والحياة اليومية هو “بناء عالم أكثر ديمقراطية”. وعلى الرغم من أن بوتين يدعي أنه “يحارب النازية والفاشية”، فإن نظرته العالمية وسياساته العملية قريبة بشكل خطير من تلك الأيديولوجيات.
جميع عناصر هذه الأنظمة تقريبًا موجودة في الدولة الروسية اليوم مثل القومية المتطرفة والإمبريالية وتبجيل الزعيم والنظرة البدائية للعالم بشكل متزايد وتقديس الدولة وما يسميه بوتين “تاريخها ذو الألف عام” المليء بالبطولات والانتصارات وتمجيد الموت في سبيل الوطن وتدخلات الدولة في الاقتصاد والسياسة والنظام القانوني والقطاع الخاص وفرض أشكال “صحيحة” من السلوك على الجمهور، بما في ذلك دعوة الناس لإدانة من يختلفون مع النظام، ورهاب كل شيء أجنبي، والمعركة ضد “الخونة الوطنيين” وتصنيف مجموعات من مواطني الدرجة الثانية على أنهم “عملاء أجانب”.
إذا استمر الغرب في عزلهم، فهناك أمل ضئيل في أن يرفض الروس البوتينية.
في مثل هذا المكان لا توجد حجج عقلانية ولن تنجح أي محاسبة في شكل عقوبات وحظر سفر، ذلك أن شريحة السكان التي تنوي تحميل بوتين المسؤولية ليست كبيرة بما يكفي. وعلى العكس من ذلك، يلوم الغالبية العظمى من الروس الولايات المتحدة وحلفاءها على تدهور علاقاتهم مع الدول الأخرى وتدهور نوعية حياتهم كليًا.
تبدو أكثر بقليل من خيال روائي في روسيا الحاضر – تمامًا كما كانت في زمن الديكتاتوريين الصاعدين عندما كان مان يكتب روايته على شواطئ بحر البلطيق.
إنهم يعتقدون أن الأشخاص الذين يتحدثون علانية ضد النظام يقوضون عظمة البلاد ويؤثرون على جهود أولئك الذين يعملون لتعزيزه. وحتى التحقيقات في الفساد يُنظر إليها على أنها معادية لروسيا. وبهذا المنطق، ليس بوتين من يبني الستار الحديدي الجديد بل الغرب الذي يسعى إلى حبس الروس داخل حدودهم من خلال العقوبات وحظر التأشيرات. ينظر العديد من الروس إلى أوكرانيا من منظور إمبريالي مثل بوتين – ضمن دائرة نفوذ روسيا – ويعتبرون العلاقات معها شأنًا داخليًا لروسيا.
بعد ستة أشهر من بدء “عمليته الخاصة”، اكتمل مشروع بوتين لبناء دولة استبدادية جديدة على أسس شمولية بشكل جزئي. وطالما أنه في السلطة، من غير المرجح أن تكون روسيا قادرة على العودة إلى سياق التنمية الديمقراطية. وبالنظر إلى مدى هشاشة الفكر المستقل في روسيا، فإنه من الضروري تمامًا إبقاء الشباب الروسي على اتصال بالعالم وإلا فإن البوتينية ستعيش بالفعل بعد بوتين.
يمكن للولايات المتحدة وشركائها الأوروبيين على الأقل، من خلال الحفاظ على خطوط اتصال مفتوحة مع المنفيين الروس ومساعدة الروس في الوصول إلى المعلومات الخارجية، البدء في التأثير على المزيد من هؤلاء الروس الذين كانوا حتى الآن غير مبالين لدرجة كبيرة، وليس ملتزمين أيديولوجيًا. لكن إذا استمر الغرب في عزل روسيا، فهناك أمل ضئيل في أن يتخلص الشعب الروسي من نير البوتينية. ليس فقط لأن نصف السكان لا يعتبرونه نيرًا وإنما لأن مثل هذا التفكير لا يأخذ في الحسبان مدى وحشية معاملة نظام بوتين للعديد من المعارضين في البلاد.
يمكن للمنوم المغناطيسي أن يستمر في ممارسة ألاعيبه أمام الجماهير، أو يمكنه أن يختفي. لكن نهاية “ماريو والساحر” التي قُتل فيها المنوم المغناطيسي بالرصاص، تبدو أكثر بقليل من خيال روائي في روسيا الحاضر – تمامًا كما كانت في زمن الديكتاتوريين الصاعدين عندما كان مان يكتب روايته على شواطئ بحر البلطيق.
المصدر: فورين أفيرز