ترجمة وتحرير: نون بوست
كانت الروايات المتناقضة للشهود العيان عن الحرب في أوكرانيا والدعوة لحمل السلاح ضد الغزو الاستعماري ونداءات الاستغاثة الصادقة للجمهور، أكثر مشهدٍ شغل العواصم الأوروبية لعدة أشهر. لكن وجه الاختلاف هذه المرة هو أن المشاركين في أحد التجمعات في برلين أواخر الشهر الماضي لم يرفعوا العلم الأوكراني وإنما أعلام جمهوريتي لوغانسك ودونيتسك الانفصاليتين المدعومتين من الكرملين، ولم تكن هتافاتهم موجهة إلى روسيا وإنما الولايات المتحدة.
قال كلاوس هارتمان، زعيم رابطة المفكرين الأحرار الاشتراكيين: “ظهر خط واضح في السنوات الأخيرة مع التدمير الدائم للحقوق الديمقراطية والتقدم نحو الفاشية”، معربًا عن أسفه لتحول ألمانيا لأكثر بقليل من “تابعة” للولايات المتحدة على جبهة أوكرانيا والجبهات الأخرى. وأضاف: “تتمتع هاتان الجمهوريتان بنفس الحقوق التي يطالب بها الناتو للموالين له، أي حرية اختيار تحالفهم”.
قد يكون من المغري تجاهل مثل هذه الميول باعتبارها تشتيتًا على الهامش السياسي (خاصة أن التجمع المعني نظّمه حزب شيوعي صغير في ألمانيا). لكن مع استمرار الحرب في أوكرانيا وشعور الأوروبيين على نحو متزايد بعبء ارتفاع أسعار الطاقة وتباطؤ الاقتصاد، بدأ هذا الهامش يزحف بسرعة نحو المركز.
اتضح هذا بسرعة في الأيام الأخيرة مع خروج آلاف المتظاهرين من أقصى اليمين واليسار إلى الشوارع في جمهورية التشيك وألمانيا للاحتجاج على ارتفاع أسعار الطاقة ودعم الناتو والغرب لأوكرانيا. وفي براغ وحدها، شارك ما يقدر بنحو 70 ألف متظاهر في احتجاج في وسط المدينة يوم السبت، بينما اجتمع آلاف آخرون يوم الإثنين في مدينتي لايبزيغ وماغديبورغ الألمانيتين تلبيةً لدعوات الأحزاب المتطرفة لإعادة تأدية الاضطرابات المدنية التي أطاحت بالديكتاتورية الشيوعية في ألمانيا الشرقية. حيال هذا الشأن، قال غريغور جيزي، الزعيم السابق لحزب اليسار الأوروبي، وسط تصفيق حماسي في لايبزيغ: “لقد تمكن الناتو من فعل كل شيء خاطئ يمكن ارتكابه فيما يتعلق بأوكرانيا وروسيا”.
هذه العاصفة المتصاعدة جعلت زعماء أوروبا يواجهون الحقيقة الصعبة المتمثلة في أنه حتى في الوقت الذي تكافح فيه روسيا في ساحة المعركة ضد أوكرانيا، فإن الكرملين لا يزال متماسكًا في حربه الطويلة الجارية ضد الأساس الديمقراطي لأوروبا.
لقد عملت روسيا على تقويض ثقة الجمهور في الحكومات الديمقراطية لسنوات بمزيج سام من المعلومات المضللة على منصات التواصل الاجتماعي والحيل السياسية من خلال دعمها في المقام الأول للعناصر الهامشية التي تثير حركات الاحتجاج الآن. لكن الهدف الرئيسي من هذه الجهود ليس تحويل الأوروبيين إلى مؤيدين لروسيا (على الرغم من أن الكرملين سيرحّب بذلك)، وإنما استقطاب السياسات الغربية وزعزعة استقرارها لدرجة جعل الناخبين لا يعرفون ما الذي يمكن تصديقه. ولعل ذلك ما أكده مسؤول كبير في المفوضية “الأوروبية” بقوله: “لا شك أن بوتين يفوز في هذه الجبهة”.
سيكون الشتاء طويلًا
أشار هذا المسؤول إلى الاضطرابات السياسية الجارية في بلغاريا، حيث دفع الرئيس رومين راديف الحكومة الانتقالية التي عينها للتفاوض على صفقة جديدة لتوريد الغاز مع شركة غازبروم الشهر الماضي. وفي حين أثارت هذه الخطوة احتجاجات في الشوارع من قبل أولئك الذين يعارضون استمرار اعتماد بلغاريا على موسكو في مجال الطاقة، رحّب الكثيرين بها في الدولة التي تربطها علاقات ثقافية وتاريخية عميقة مع روسيا.
ظهرت صورة مماثلة في المجر، حيث أوضح فيكتور أوربان، رئيس الوزراء الذي يمقته الاتحاد الأوروبي، أنه لا ينوي قطع جميع العلاقات مع روسيا. وبقوله إن أوكرانيا لا تستطيع الفوز في الحرب، هدد هذا الأسبوع بمنع تجديد بعض العقوبات الأوروبية على روسيا إذا لم يتم شطب ثلاثة من حكومات القلة الأوليغارشية من القائمة.
ورغم تراجع الزعيم المجري بسرعة، إلا أن تصرفات أوربان الغريبة قد تكون هي أقل مخاوف أوروبا خلال الأسابيع القليلة القادمة. في نهاية الشهر، يستعد قادة الاتحاد الأوروبي لنتائج الانتخابات الإيطالية مع توقع حصول الأحزاب اليمينية المتطرفة على دعم كافٍ لتشكيل ائتلاف. وقد حذر مسؤول كبير في المفوضية الأوروبية من أن الانتخابات الإيطالية قد تكون “عامل تغيير” بالنسبة لأوروبا.
روابط الرسوم البيانية:
مع أن جيورجيا ميلوني، زعيمة حزب إخوان إيطاليا في فترة ما بعد الفاشية التي من المتوقع أن تفوز في الانتخابات، كانت تنتقد الغزو الروسي وتدعم المساعدات العسكرية لأوكرانيا، إلا أن تحالفها المحتمل يضم بعض السياسيين الأكثر صداقة مع بوتين في أوروبا مثل ماتيو سالفيني، زعيم حزب الرابطة اليمينية المتطرفة، وسيلفيو برلسكوني الذي شغل منصب رئيس الوزراء ثلاث مرات ومنح بوتين ذات مرة لحافًا مع صورة بالحجم الطبيعي لكليهما وهما يتصافحان. ومن غير المؤكد ما إذا كانت ميلوني، التي احتفلت في سنة 2018 بإعادة انتخاب بوتين باعتبارها “الإرادة المطلقة للشعب الروسي”، ستحافظ على موقفها من روسيا في مواجهة الضغط الشعبي من أجل اتباع نهج أكثر ليونة.
رفض الأوروبيون على نطاق واسع الرواية الروسية في مواجهة الفظائع التي ألحقتها بأوكرانيا، إلا أن استطلاعات الرأي في جميع أنحاء المنطقة تشير إلى أن عزمهم يضعف. ووفقًا لاستطلاع رأي نشرته يوجوف هذا الشهر، أصبح السكان في أكبر دول المنطقة (ألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة وبولندا) قلقين الآن بشأن تكلفة المعيشة أكثر من قلقهم من الحرب، حيث يؤيد 40 بالمئة من السكان في فرنسا عودة حركة السترات الصفراء، تلك الاحتجاجات الأسبوعية الصاخبة التي اندلعت في سنة 2018 للضغط من أجل ما أسماه المنظمون “العدالة الاقتصادية”.
في ظل هذه الظروف، يبدو أن القادة الأوروبيين يواجهون ضغوطًا متزايدة لتخفيف العقوبات ضد روسيا. وعامل الوقت – ناهيك عن الطقس – في صالح موسكو، ذلك أنه مع انخفاض درجات الحرارة في الأسابيع والأشهر المقبلة نتيجة اقتراب فصل الشتاء، سيبدأ الأوروبيون الشعور بوطأة ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي التي تضاعفت ثلاث مرات تقريبًا خلال السنة الماضية.
لا تعد العقوبات العامل الوحيد الذي يدفع أسعار الطاقة إلى الارتفاع، إلا أن لها دورًا في ذلك خاصة عندما يتعلق الأمر بقرار موسكو وقف تدفق الغاز الطبيعي إلى أوروبا الذي كان يمثل في السابق أكثر من ثلث إمدادات الاتحاد الأوروبي. جاء تذكير مشؤوم بهذا الواقع هذا الأسبوع على منصات التواصل الاجتماعي مع مقطع فيديو يُظهر عاملًا في غازبروم يُغلق صماما للغاز متبوعًا بمشاهد لرياح ثلجية في عواصم أوروبية، بما في ذلك بروكسل. لم يتّضح بعد من نشر هذا الفيديو الذي ضُبط على أنغام الأغنية الشعبية الروسية “سيكون الشتاء طويلًا”، لكن الرسالة واضحة.
“خطر يهدد العالم بأسره”
لا يزال زعماء أوروبا متحدين بشأن العقوبات في الوقت الحالي، لكن تصدع هذا الدعم يصبح أكثر وضوحًا يومًا بعد يوم. اكتسبت الجبهة المناهضة للعقوبات زخمًا لأسابيع في البلدان ذات الحركات الشعبوية القوية: ففي النمسا، يعتبر حزب الحرية اليميني المتطرف الموالي لروسيا قوة كبيرة حيث أن 40 بالمئة من السكان لا يدعمون عقوبات الاتحاد الأوروبي ضد موسكو، وفقًا لاستطلاع نُشر في أواخر آب/ أغسطس الماضي. وحتى حزب الشعب الحاكم من يمين الوسط منقسم، حيث شكك زعماء إقليميون أقوياء علانية في دعم الحكومة الفيدرالية المستمر لهذه الإجراءات.
قال توماس ستيلزر، حاكم مقاطعة النمسا العليا، مؤخرًا: “ليس هناك شيء محفور على الحجر”، مشيرًا إلى أنه سيكون من الضروري إعادة تقييم موقف عقوبات البلاد في حال “كنا نلحق أضرارًا جسيمة بحياتنا”.
وفي إيطاليا، أصبحت المعارضة الشعبية للعقوبات أشد قوة. ووفقًا لمسح أجرته “تيرموميترو بوليتيكو” يوم السبت، أيد 51 بالمئة من السكان رفع العقوبات لتخفيف الضغوط الاقتصادية، كما دعا سالفيني عضو الرابطة – الذي نشر ذات مرة صورة لنفسه وهو يقف في الساحة الحمراء في موسكو مرتديًا قميص بوتين – الغرب إلى إعادة التفكير في عقوباته المفروضة على روسيا.
أما بالنسبة لبوتين، فإن أوروبا التي تعارض العقوبات جيدة مثل أوروبا الموالية لروسيا.
وهذا يفسر جهود روسيا في الأيام الأخيرة لإلقاء اللوم على العقوبات الغربية في وقف تدفق الغاز، التي يقول المحللون إنها تنجح في خنق اقتصاد البلاد ببط، حتى مع استمرار أرباح غير متوقعة من بيع النفط. وقد اعترف بوتين بذلك يوم الأربعاء، واصفًا تكتيكات الغرب بأنها “خطر على العالم بأسره”.
قال بوتين في تجمع لرجال الأعمال في المنتدى الاقتصادي الشرقي الروسي في فلاديفوستوك: “أنا أتحدث عن اندفاع العقوبات في الغرب ومحاولات الغرب العدوانية الصارخة لفرض أسلوب حياتهم على دول أخرى لانتزاع سيادتها وإخضاعها لإرادتهم”.
بعيدًا عن العقوبات، تواجه أوروبا انقساما متزايدا حول المدى الذي يجب أن تذهب إليه لدعم أوكرانيا ماليا وموقفها في روسيا. ووفقًا لاستطلاع نشرته مؤسسة المجتمع المفتوح هذا الأسبوع، يؤيد 40 بالمئة من السكان في أوروبا الغربية إرسال الأسلحة والتمويل إلى أوكرانيا، في حين أن هذا أعلى مما هو عليه في أجزاء أخرى من العالم، إلا أنه بعيد كل البعد عن الأغلبية الواضحة.
وفي حين أن دعم أوكرانيا على تلك الجبهة لا يزال أقوى في دول البلطيق وبولندا، يواصل العديد من صانعي السياسة في أوروبا الغربية حثهم على توخي الحذر، خاصة عندما يتعلق الأمر بالمساعدات العسكرية.
من جهته، أثار الرئيس إيمانويل ماكرون ضجة الأسبوع الماضي بخطاب مطول حول السياسة الخارجية دعا فيه إلى الوحدة الأوروبية بشأن أوكرانيا، بينما حذّر أيضًا من الاستجابة لنداءات “دعاة الحرب”، وهي إشارة شعر كثيرون في وسط وشرق أوروبا بأنها موجّهة إليهم.
“خريف حامي من الاحتجاج”
لا مكان فيه الجدل حول أوكرانيا أكثر عاطفية – أو أكثر منطقية – مما هو عليه في ألمانيا حيث يعد الدعم المستمر من الدولة التي تشكل الثقل الاقتصادي والسياسي لأوروبا أمرًا ضروريًا بالنسبة لأوكرانيا في معركتها. تدرك موسكو ذلك أيضًا، وهذا هو السبب في أنها بذلت الكثير من الجهد لتعكير المياه هناك، مع بعض النجاح على ما يبدو. فوفقًا لاستطلاع الرأي الذي أجرته قناة “آر تي إل” الأسبوع الماضي، يعتقد نحو 80 بالمئة من الألمان أن الغرب يجب أن يسعى للسلام في أوكرانيا، ويقول أكثر من 60 بالمئة إن حكومتهم يجب ألا ترسل أسلحة ثقيلة إضافية إلى أوكرانيا، مثل مدافع الهاوتزر (سلمت برلين 10 حتى الآن).
لكن القلق الأكثر إلحاحًا هو التأثير الاقتصادي للحرب. فعلى الرغم من أن حوالي نصف الألمان يقولون إنهم مستعدون لتحمل المزيد من الصعوبات الاقتصادية لدعم أوكرانيا، إلا أن النصف الآخر متشكك. ويتوقع الثلثان أن تضامن ألمانيا مع أوكرانيا سوف يتبدد مع استمرار الأسعار في الارتفاع.
إذا كان الأوروبيون يعتقدون حقًا أن أمنهم على المحك، فلن يدفعوا من أجل السلام أو يتظاهروا ضد الحرب، بل سيطلبون من قادتهم إرسال المزيد من الأسلحة إلى أوكرانيا.
إذا تبين أن هذا صحيح، فإن الأطراف السياسية الألمانية ستعود إلى الشوارع متطلعة إلى الاستفادة من التحول في المشاعر مع الدعوات لفتح خط أنابيب نورد ستريم 2 المثير للجدل وإنهاء الحرب. ومع أن الموالين للكرملين في البرلمان الألماني – حزب اليسار والبديل لألمانيا – لديهم خلافات جوهرية حول السياسة، إلا أنهم متحدون في معارضتهم للحرب وتقاربهم مع روسيا. وعلى الرغم من أن الأزمة لم تعزز بعد أرقامهم في استطلاعات الرأي، إلا أن كلا الحزبين يرى فرصة لاستغلال الشعور بالضيق المتزايد.
صرح رئيس الحزب اليساري مارتن شيرديوان، الذي تعهد في الأسابيع الأخيرة بإذكاء “خريف حامي” من الاحتجاج، بأن مظاهرة يوم الإثنين في لايبزيغ، التي اجتذبت وفقًا للشرطة حوالي 4000 مشارك، كانت البداية فقط. قد يكون هذا مجرد تبجح فارغ، لكن الائتلاف الألماني المكون من ثلاثة أحزاب بقيادة المستشارين الاشتراكيين الديمقراطيين برئاسة المستشار أولاف شولز، كان قلقًا بما يكفي لدفع حزمة مساعدات طارئة بقيمة 65 مليار يورو بعد مفاوضات استمرت طوال الليل. ولكن من غير المؤكد ما إذا كان ذلك سيخفف من قلق الألمان الاقتصادي، حيث يتوقع الاقتصاديون أن ارتفاع التضخم سيكلف الألمان 200 مليار يورو إضافية في العام المقبل، مما يشير إلى أن الحزمة قد تكون أقل من اللازم.
خلال الأسبوع الماضي، لمست وزيرة الخارجية أنالينا بربوك عن كثب مدى غضب مواطنيها بشأن أوكرانيا. ففي حديثها في فعالية في براغ، أشارت بربوك إلى دعمها الثابت لكييف قائلةً: “إذا وعدت الناس في أوكرانيا بأننا “نقف معكم ما دمتم بحاجة إلينا”، فإنني أريد أن أفي بوعدي بصرف النظر عما يعتقده ناخبيّ الألمان”. وقد أثارت كلماتها التي ألقيت باللغة الإنجليزية ضجة فورية، لا سيما الإيحاء بأنها تتحدى إرادة ناخبيها. كما انتهز الذباب الإلكتروني والمتصيدون الروس الفرصة على الفور، مما أدى إلى تحريف رسالة بربوك لتصويرها على أنها متعجرفة وخائنة.
يدرك المسؤولون الأوكرانيون تمامًا مدى أهمية إبقاء أوروبا، وخاصة ألمانيا، في جانبهم. فقد قال وزير الخارجية الأوكراني دميترو كوليبا لمحطة “أو.آر.إف” النمساوية يوم الثلاثاء، ردا على سؤال حول عزيمة الغرب: “الغرب يدرك أنه إذا فازت روسيا في أوكرانيا، فسيكون الغرب هو التالي”، وأضاف قائلًا: “نحن في نفس القارب”.
مع ذلك، فشل معظم القادة الأوروبيين حتى الآن، بمن فيهم شولتز الألماني، في إبقاء الجمهور مقتنعًا بهذه الحجة. وإذا كان الأوروبيون يعتقدون حقًا أن أمنهم على المحك، فلن يدفعوا من أجل السلام أو يتظاهروا ضد الحرب، بل سيطلبون من قادتهم إرسال المزيد من الأسلحة إلى أوكرانيا.
المصدر: بوليتيكو