في أحدث جرائم قتل النساء في الداخل الفلسطيني المحتل عام 1948، لفظت الأم منار أبو حجاج (34 عامًا) وابنتها خضرة (14 عامًا) أنفاسهما الأخيرة، عقب إطلاق مجهولين وابلًا من الرصاص عليهما، وطارد المجرمون بعدها الابنة الثانية وأرادوا قتلها، لكن مريم أصيبت برجلها ولم تُقتل لأن مسدس القاتل تعطل وهو يصوبه إليها.
ركضت مريم وهي تصرخ “بديش أموت.. بديش أموت”، وركضوا ورائها، خطوة فخطوة، قفزاتٌ مرعوبة وتحليق فوق الأسفلت برجل مصابة والأم والأخت في السيارة قتيلتين، في الساعة 22:40 ليلًا، بشوارع اللد العربية المحتلة، انطلقت الرصاصات وقتلت الأم وابنتها، دون تهمة، في الساعة 22:40 أدركنا أن تحت القاع قاعًا آخر، وتحت البلادة ما زالت القلوب قادرةً على الحزن من جديد.
“منار لم تكن مهددة أبدًا، ولم تشعر بالخطر على حياتها، وليس لها أي علاقة بعالم الإجرام ولا بالصراعات ولا بأي مشكلة صغيرة أو كبيرة، منار كانت تتجول بحرية، وإن كانت مهددة لما تصرفت هكذا.. قُتلت ظلمًا”، يقول شقيقها.
رغم بشاعة الجريمة، سرعان ما سينساها المجتمع وتعود حكاية أخرى لضحية جديدة تطفو ثم تغيب، فسقوط عشرات النساء العربيات في الأراضي التي تحكمها “إسرائيل”، لم يعد حدثًا غريبًا، والحديث عن عوامل تواتر مثل هذه الجرائم يشبه الدوران في حلقات وتابوهات لا تنتهي، فالظروف التي فرضها المحتل تشكل جزءًا أساسيًا من فهم السياق، كما أن التركيبة الاجتماعية المعقدة للمجتمع الفلسطيني، تلعب دورًا آخر في ذلك.
من وجهة نظر نسوية، قتل النساء ظاهرة عالمية، فهو قتل لمجرد أنهن نساء، هو قتل على أساس تمييز جندري ونوع من أنواع العنف، والدافع من وراء قتل النساء هو ذات الدافع الذي جعل المجتمع يختلق “قوانين الشرف” ويبارك زواج القاصرات وتعدد الزوجات، والمجتمع الفلسطيني، كسائر المجتمعات، مجتمع أبوي مبني على علاقات قوى تهمش المرأة وتتعامل معها تعاملًا دونيًا.
هذه العلاقات تشكل الحياة اليومية للمرأة في الحيز الخاص والعام، وتعزز هيمنة الرجال في المجتمع وإقصاء النساء من مواقع اتخاذ القرارات ووضعها تحت رعاية ذكورية دائمة في جميع مراحل حياتها.
لكن ماذا لو اجتمعت السلطة الذكورية مع تواطؤ المحتل؟
تقول مديرة جمعية نساء ضد العنف، نائلة عواد: “النساء داخل الأراضي الخاضعة لحكم “إسرائيل” يعانين من مجتمع ذكوري واستهداف قومي سياسي ومؤسسة سياسية تساهم في تشجيع هذه الجرائم بحق المرأة، وتتواصل جرائم القتل في البلدات العربية دون وجود آفاق عملية لتغيير هذا الواقع الخطير وغير الإنساني، وفي ظل تقاعس الشرطة وتقصيرها بالتحقيق عندما تكون الضحية من المجتمع العربي خصوصًا إذا كانت امرأة، الأمر واضح من متابعة الوضع القانوني لجرائم القتل الآخذة بالازدياد”.
وأضافت عواد خلال حديثها لـ”نون بوست” “هذا إلى جانب الاستخفاف بتلقي شكاوى النساء المهددات وعدم التعامل معها بالجدية اللازمة، فتفضل أخذ دور المتفرج وربط الجريمة بعادات وتقاليد وثقافة، وتتجاهل شكاوى النساء، وتعيدهن إلى البيئة القاتلة، إذ يظهر من المعطيات أنه في معظم الحالات تلقت الشرطة شكاوى من الضحايا بوجود خطر على حياتهن ولم توفر لهن الحماية، الأمر الذي أدى لقتلهن، و64% من المجرمين قتلة النساء في البلاد لا يزالون أحرارًا دون محاكمة، أو تقديم لائحة اتهام ضدهم”.
وشددت على أن “وجود ملجأين فقط للنساء العربيات في البلاد، وثلاثة ملاجئ يهودية – عربية مشتركة، من بين 16 ملجأ، في حين أن جرائم قتل النساء في المجتمع العربي هي 58%، بينما وصلت 45% من النساء ضحايا جرائم العنف للملاجئ، يعكس مدى التميز العنصري الذي تواجه المرأة العربية من وزارة الرفاه الاجتماعي الإسرائيلية”.
80% من الملفات التي تُقدم بها شكوى من نساء ضحايا عنف ضد رجالهن، تُغلق لعدم وجود أدلة
تتفق مع ذلك الدكتورة منال شلبي مؤسسة جمعية آذار: المنتدى المهني لمحاربة جرائم قتل النساء في حيفا، وتقول إن هناك ظاهرة عنف جندري وعنف داخل العائلة ممتدة منذ عقود، في المجتمع الفلسطيني في الداخل، أما الجانب الآخر لظاهرة قتل النساء دون رادع هو كوننا أقلية عربية قومية في داخل دولة محتلة تتعامل معنا كأعداء، نتحدث عن مقتل 23 امرأةً في “إسرائيل” من كل عام على يد أزواجهن، 50% منهن نساء عربيات، بيد أن نسبة العرب الفلسطينيين في الداخل لا تتعدى 21%، إن دل ذلك على شيء فإنه يدل على مدى استفحال ظاهرة قتل النساء التي لا تبدأ ولا تنتهي بالقتل.
وتضيف الدكتورة شلبي لـ”نون بوست”، “تقاعس الشرطة في القبض على المجرمين والقتلة من منظمات الإجرام في المجتمع العربي، يميز أيضًا تعاملها مع قضايا العنف وقتل النساء. الشرطة تتقاعس في القبض على المجرمين وفي التحقيق الجدي معهم وفي تقديمهم للمحاكمات، 80% من الملفات التي تُقدم بها شكوى من نساء ضحايا عنف ضد رجالهن، تُغلق لعدم وجود أدلة. وهكذا تبقى النساء في دائرة العنف، والرجال العنيفون طلقاء أحرار دون رادع أو عقاب”.
من ناحية أخرى، تشير جمعية نساء ضد العنف إلى أن الكثير من الجرائم تصدر شرطة الاحتلال أوامر منع النشر بحجة الحفاظ على مجريات التحقيق، وتطرح هنا تساؤلات عن الهدف من ذلك، “إذ كان هناك منطق في أوامرك منع النشر فليس من المنطقي أن غالبية ألغاز قضايا قتل النساء العربيات لم تحل ولم يتم محاسبة المجرمين! هل أمر منع النشر يفرض على قضايا قتل النساء للحفاظ على هوية المشتبه فيهم؟ أم أنها طريقة التفافية للجهات المعنية لإخفاء تقصيرها في تقديم الحماية وإنقاذ حياة النساء المهددات، والاكتفاء بتصريح بالإعراب عن أسفها الشديد للظروف التراجيدية التي لقيت بها الفقيدة مصرعها”.
في هذا السياق، أبرزت نتائج بحث أجرته مؤسسة “كيان” – تنظيم نسوي – اعتماد الإعلام الأسلوب السردي لجرائم القتل، داخل الأراضي المحتلة 48، ونقل “بيانات الشرطة” الإسرائيلية وروايتها دون الخوض في التحليل والبحث عن الوقائع والأسباب الفعلية التي أدت إلى ارتكاب هذه الجرائم، وفي غالبية الحالات دون الالتفات لأهمية نقل صوت العائلة القريبة من الضحية، التي بقيت غالبًا خارج الأضواء الإعلامية.
قُتلن بسلاح ناري
تنوه مديرة نساء ضد العنف، نائل عواد، إلى أن 56% من النساء ضحايا جرائم القتل، قُتلن بسلاح ناري، وتستكمل: “نحن نعد ضحايا كل يوم، والشرطة المتخاذلة تستمر بتقاعسها وسياساتها العنصرية، هذه الدولة التي تتباهى بـ “قدراتها الاستخبارية والأمنية” تريدنا أن نصدق أنها لا تستطيع مواجهة الإجرام المنظم، بينما الحقيقة أنها لا تريد”.
رغم انتشار السلاح الحي في القرى والبلدات العربية ومع ارتفاع منسوب الجريمة المنظمة، سلطة الاحتلال لا تؤدي واجبها من أجل وضع حد للإجرام وللعنف إنما تشجعه
وتابعت حديثها “سياسات غض الطرف عما يحدث ممنهجة تقوم على مبدأ ضرب الآخرين بعضهم ببعض، ودليل كلامي هو السماح بانتشار الأسلحة النارية وتسهيل اقتنائها بل التغاضي عنها، إذ يوجد ما يقارب 400 ألف قطعة سلاح ناري غير مرخصة، وحسب اعترافات الجهات المسؤولة، يأتي ما نسبته 80% من هذه الأسلحة عن طريق عناصر الجيش والشرطة، ويكاد لا يمر يوم إلا ونشهد حالات اعتداء بالأسلحة النارية”.
وتقول الدكتورة منال شلبي، إن البلدات العربية تحولت شوارعها وأحياؤها وحواريها إلى أماكن غير آمنة مليئة بالرصاص والسلاح الحي، حيث يموت الكثيرون والكثيرات برصاصات طائشة، كل هذا التدهور الحاصل هو على مرأى ومسمع ومعرفة السلطات في الدولة، لا سيما الشرطة، لكنها لا تحرك ساكنًا ويموت الكثيرون بذريعة أنه لا أدلة ولا شهادات كافية قائمة لتجرم منظمات الإجرام وتردعهم.
يوجد ما يقارب 400 ألف قطعة سلاح ناري غير مرخصة، 80% منها يأتي عن طريق عناصر الجيش والشرطة
ورغم انتشار السلاح الحي في القرى والبلدات العربية ومع ارتفاع منسوب الجريمة المنظمة، الدولة لا تؤدي واجبها من أجل وضع حد للإجرام وللعنف، إنما تشجعه بشكل غير مباشر من خلال غض النظر عن المجرمين والقتلة ومستخدمي السلاح، هي من جهتها وبسياسية التجاهل هذه، تصرح بشكل غير مباشر، ليذهب المجتمع العربي إلى الجحيم وليقتلوا بعضهم بعضًا، وفق تعبير الناشطة النسوية والمحاضرة الأكاديمية منال شلبي.
وتجمع الناشطتان عواد وشلبي على أن المسؤولية تقع على الدولة والشرطة لوقف هذا الإجرام في المجتمع العربي، وهي الوحيدة المخولة بذلك وتستطيع أن تُوقف شلال الدم الهادر في المجتمع العربي، فليس من السهل تعريف ظاهرة العنف والجريمة وازديادها والوقوف عند أسبابها، في مجتمع داخل دولة استعمارية، وبهذا السياق ممكن تفسير ازدياد الجريمة كنتيجة لممارسات الدولة تجاه الأقلية القومية التي تتمثل باستفحال الظاهرة في المجتمع العربي مقابل تراجع الجريمة بشكل ملحوظ في المجتمع الإسرائيلي.
وتفسر الدكتورة شلبي أن سياسة التهميش والإقصاء التي تمارسها الدولة تجاه المجتمع العربي وسياسة الإهمال المقصود، من الأجهزة القانونية، خاصة الشرطة، لها علاقة بتعامل الدولة الاستعلائي مع المجتمع العربي التي تدعي دائمًا أن العنف سواء كان في العائلة أي جندري ضد النساء هو نتاج لثقافة المجتمع العربي، هذا معناه أن الدولة تتنصل من المسؤولية وتعترف بأنها لا تتدخل ولا تنوي التدخل بثقافة مجموعة قومية مختلفة عنها.
النضال ما زال طويلًا
تقوم المؤسسات النسوية بنضال مستمر يجابه مؤسسات المجتمع البطريركية ومؤسسات الدولة البيروقراطية التي لا تضع المجتمع الفلسطيني عامة ونساءه خاصة ضمن سلم أولوياته، وجاء الخطاب النسوي ليؤكد أن قتل النساء جريمة، وأن النساء لا يقتلن إلا لأنهن نساء، وأن التستر عليها مخالفة أخلاقية ومجتمعية.
المرأة في هاتين البنيتين تجري موضعتها في أسفل السلم، السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل كون المؤسسات النسوية الفلسطينية في الداخل تشغلها نساء يجعل عملها أصعب بكثير من أي مؤسسة حقوقية أخرى؟
تُجيب أديلا بياضي، الناشطة ضمن تنظيم نسوي “كيان” في حيفا، بالقول: “الكثير من الجمعيات (من بينها على سبيل المثال لا الحصر: “الفنار” و”البديل” و”السوار” و”نساء ضد العنف” و”معًا” و”نعم”) عملت جاهدة منذ قيامها على منع ممارسات العنف ضد النساء وقتلهن جسديًا وروحانيًا، وفي ظل تزايد حالات قتل للنساء، تشكل في العام 2010 ائتلاف لعدة مؤسسات ناشطة وحقوقية لمناهضة قتل النساء، بهدف التكاتف وتشكيل قوة أكبر تناهض قتل النساء”.
أديلا بياضي: النضال لاجتثاث الظاهرة ما زال طويلًا وصعبًا ما دام العنف هو لغة القوة فوق لغة الحق
من أهم إنجازات عمل الجمعيات النسوية، وفقًا للناشطة النسوية بياضي، منع الشرطة والنيابة وسلطات الدولة من استخدام مصطلح “شرف العائلة” الذي كان يستعمل بعد كل حالة قتل، في محاولة من هذه السلطات أن تعزو ظاهرة قتل النساء إلى مركبات ثقافية مجتمعية خاصة بالمجتمع الفلسطيني في البلاد.
علاوة على ذلك، يمكن الإشارة إلى أن تكثيف العمل على قضايا قتل النساء من الجمعيات النسوية شجع بعضًا من عائلات الضحايا المغدورات – لا سيما النساء فيها – على كسر حاجز الصمت وتقديم شكاوى والشهادة في المحاكم ضد الجاني، إلى جانب توفير مأوى للمعنفات من النساء وأطفالهن.
في المقابل، ثمة تحديات عديدة تواجه العمل النسوي في سبيل الحد من هذه الظاهرة، تتمثل في قلة التمويل ومحدودية تجاوب المجتمع مع نداءات هذه الجمعيات لدعمها بالضغط على السلطات الرسمية والمجتمعية لفرض القانون وضمان الحياة بأمان للنساء المهددات بالقتل.
“إن النضال لاجتثاث الظاهرة ما زال طويلًا وصعبًا ما دام العنف هو لغة القوة فوق لغة الحق، وما دامت الفجوة قائمة بين التصريح المعلن والعمل في الواقع في المؤسسات المجتمعية والدينية والحزبية وغيرها. تكثر الأقنعة رغم رؤية الحقيقة، لكن كفانا تسترًا، فحتى لو حاولنا دفن الحقيقة في قعر عميق ومظلم، هي هناك، موجودة ما دمنا موجودات وموجودين” تختم “أديلا”.