ليل الجمعة/السبت 9 سبتمبر/أيلول هزت مدينة طرابلس في شمال لبنان جريمة مروعة ذهب ضحيتها أربعة أشخاص نتيجة سطو مسلح على محل لبيع أجهزة الهاتف الخلوية في محلة التل وسط المدينة، حسب ما قالته وأكدته الروايات الأمنية والقضائية.
وفي تفاصيل الحادثة أن مجموعة من المسلحين الملثمين وصلوا قرابة الساعة الثامنة ليلًا على دراجات نارية إلى ساحة التل في المدينة، وتوجهوا ناحية محل لبيع أجهزة الهاتف الخلوي يعود لشخص من آل خضر، وهناك فتحوا النار باتجاه العاملين في المحل كما ألقوا قنبلة يدوية لم تنفجر، وقد أدت العملية، التي لم يُعرف ميعاد بداية إطلاق النار فيها على وجه الدقة، إلى وفاة أربعة أشخاص أحدهم – كما تقول الروايات – من المهاجمين، وجرح آخرين.
وفور شيوع نبأ الحادثة شهدت المدينة توترًا ملحوظًا خاصة أن صاحب المحل من أبناء الطائفة العلوية ومن سكان حي “بعل محسن”، في حين أن العاملين فيه من أبناء مدينة طرابلس السنية، إلا أن الاتصالات التي جرت على أكثر من صعيد وبين مختلف المرجعيات والتحذير من مغبة الفتنة أو الانزلاق بالمدينة إلى المجهول، هدأت الأجواء وأعادت الأمور إلى حالتها الطبيعية، ففرض الجيش وقوى الأمن الداخلي الهدوء وتعقبوا مطلقي النار، وقيل إنهم أوقفوا أحدهم.
الجريمة النكراء كشفت حجم المعاناة التي تعيشها المدينة وتدفع يومًا بعد يوم باتجاه خروجها عن حالة الاستقرار نحو الفوضى والفلتان وفقدان الأمن بسبب الحاجة من ناحية، وغياب الأمن والمحاسبة من ناحية ثانية
هذه الحادثة التي استنكرتها مرجعيات وشخصيات المدينة السياسية والدينية والاجتماعية على حد سواء تعكس مستوى الحالة التي بلغتها مدينة طرابلس، تلك الحاضنة السُنية التي ما زالت صامدة على ساحل شرق المتوسط، حيث تعيش المدينة أسوأ أنواع الإهمال والتهميش والإفقار والحرمان من التنمية والإنماء، وفوق ذلك محاولات “الشيطنة” من خلال ملاحقة أبنائها والزج بهم في السجون والمعتقلات على أتفه الأسباب كأن توجد بعض الصور أو الأناشيد على هاتف أحدهم، وهو ما كشفته وقائع المحاكمات التي جرت خلال السنوات الماضية وقبع أصحابها في السجن لسنوات ثم ظهرت بعد ذلك براءتهم.
طرابلس تعيش معاناة مضاعفة عن معاناة معظم المناطق اللبنانية الأخرى بسبب الأزمة الاقتصادية والحياتية التي تعصف بلبنان، فحالات الفقر كثيرة وباتت أضعاف أضعاف ما كانت عليه، والأحياء التي كانت إلى وقت قريب تعيش حالة مقبولة انضمت إلى الأحياء الفقيرة كـ”باب التبانة” و”المنكوبين” و”بعل الدراويش” و”بعل محسن” وغيرها.
والبطالة بلغت مستويات مرتفعة، حتى إن عائلات بأكملها باتت تخاطر بنفسها وتبيع ممتلكاتها وتهاجر بطرق غير شرعية عبر البحر نحو المجهول، وما حادثة إغراق أو غرق أحد القوارب منذ بضعة أشهر ببعيدة، فقد ذهب فيها عشرات الأشخاص بين غريق ومفقود، أما المخدرات فقد باتت منتشرة في الأحياء الفقيرة بشكل مخيف ولا يُصدق، وأحيانًا تكون مرعية ومحمية من مرجعيات حسب ما قالته إحدى شخصيات وفعاليات المدينة.
الجريمة النكراء كشفت حجم المعاناة التي تعيشها المدينة وتدفع يومًا بعد يوم باتجاه خروجها عن حالة الاستقرار نحو الفوضى والفلتان وفقدان الأمن بسبب الحاجة من ناحية، وغياب الأمن والمحاسبة من ناحية ثانية، وبسبب تفشي ظاهرة المخدرات من ناحية ثالثة وهي من أخطر الآفات التي تهدد المدينة وشبابها، في وقت يغيب أي مشهد للإنماء أو التفكير بحلول معينة للمدينة بينما يغرق لبنان بالأزمات وحالة المراوحة على المستويات كافة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الأمنية.
وقد عقد نواب مدينة طرابلس اجتماعًا أدانوا خلاله الجريمة، ودعوا إلى ملاحقة مطلقي الرصاص وتجار المخدرات، ورفضوا الفتنة وحذروا منها وشددوا على العيش المشترك وطالبوا بإنماء المدينة من خلال المشاريع الإنمائية، إلا أن الدولة غائبة، فلا حكومة، مع أن رئيسها المكلف من مدينة طرابلس، ولا انتخابات رئاسية لهذه اللحظة، ولا حلول ناجعة للوضع الاقتصادي لغياب التصورات والعمل الجدي على هذا الأمر، وكل ذلك يدفع طرابلس وكل المدن والدساكر اللبنانية للغرق بمزيد من المعاناة والأزمات التي تخلف فوضى وفلتان وتسيب ويدفع ثمن كل ذلك الفقراء الذين يزدادون فقرًا.
أما الأمر الأبرز والأشد خطورة هو ما كشفه المحامي محمد صبلوح من أبناء المدينة، ومن وكلاء الدفاع عن الكثير من الموقوفين الإسلاميين من أبنائها، فقد أبدى تخوفه من خطط وبرامج لـ”شيطنة” المدينة وشبابها واتهامهم بالإرهاب والانتماء إلى التنظيمات المصنفة إرهابية كـ”داعش” و”النصرة”، ومن ثم الزج بهم في المعتقلات أو الدفع بهم إلى الخروج على النظام العام والقانون ليصار بعد ذلك إلى استخدامهم واستخدام المدينة في أتون معركة تصفية الحسابات وتصفية الحواضر السُنية في المنطقة، وحذر صبلوح كما غيره من فعاليات المدينة من الانجرار إلى هذا المستنقع الذي يتم فيه إحراق الجميع.
وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن بعض وسائل الإعلام المحلية روجت خلال الساعات الأولى للمجزرة أن فاعليها ينتمون إلى تنظيم “داعش” وأن الاعتداء كان يستهدف أحد أبناء الطائفة العلوية وذلك بهدف إشعال فتنة كان أبناء المدينة وفعالياتها وقواها لها بالمرصاد.
كما تجدر الإشارة إلى أن بعض وسائل الإعلام وبعض الناشطين في المدينة كشفوا منذ مدة أن بعض شبان المدينة يختفون منها ويتصلون بعد فترة بذويهم زاعمين أنهم في سوريا أو العراق وأنهم مع تنظيم الدولة “داعش” ويتوعدون بالقيام بأعمال انتقامية جراء ما لحق بهم أو ببعضهم أو بذويهم في المدينة.
وقد طالب أهالي هؤلاء الشبان الأمن اللبناني بكشف حقيقة وجود أبنائهم خارج لبنان، وسألوا من سهل لهم ذلك إذا كان صحيحًا، ومن استدرجهم إلى تلك المناطق، فيما شكك أهالي آخرون بوجود أبنائهم خارج لبنان، واتهموا بعض الجهات بالتغرير بهم ومن ثم استخدامهم لاحقًا في أعمال ومشاريع مشبوهة، مطالبين بكشف مصيرهم.
مدينة طرابلس تعيش هذه المعاناة وهذه النكبة بالفقر والبطالة والفوضى وغياب الإنماء، لكنها هذه المرة مهددة بالفتنة الحقيقية التي يمكن أن تحولها إلى أثر بعد عين، وهو ما ينبغي أن تحذر منه مرجعيات المدينة وقواها من ناحية، وقيادات الدولة السياسية والعسكرية والأمنية والقضائية من ناحية ثانية قبل أن يقع الفأس بالرأس ويسقط الهيكل فوق رؤوس الجميع.