تقدر إحصاءات الأمم المتحدة نسبة ذوي الإعاقة في سوريا بنحو 28% من السوريين، أي ضعف المعدل العالمي، العدد الأكبر منهم أطفال، وقد ساهمت إصابات الحرب ونقص الرعاية والخدمات بالوصول إلى هذه النسب المخيفة، ورغم هذا الرقم الكبير، فإن الحالة الخدمية لهم متردية وهو ما يؤثر عليهم سلبًا على تحركاتهم وحياتهم.
تقول الشابة ثراء ذات الـ18 عامًا، فقدت ساقها في غارة جوية عندما كانت بعمر الـ13، ولم تتمكن من الحصول على ساق صناعية: “غالبًا ما كنت أرفض مغادرة المنزل عند وقوع هجوم ومحاولة الهرب، كان صعبًا جدًا عليّ الجري باستخدام العكازات، سيتطلب ركوب سيارة مساعدة عدة أشخاص”، كما أعربت ثراء عن قلقها من أن عجزها عن الفرار قد يعرض أسرتها للخطر.
شهادة الشابة ثراء نقلتها منظمة “هيومن رايتس ووتش” ضمن تقرير أصدرته مؤخرًا بعنوان “كان من الصعب حقًا أن أحمي نفسي: أثر النزاع المسلح في سوريا على الأطفال ذوي الإعاقة“، التقرير المعد من 71 صفحة حاول رصد الأوضاع المأساوية لذوي الإعاقة في سوريا خصوصًا الأطفال منهم، وقد أجرت المنظمة مقابلات مع 34 طفلًا وشابًا سوريًا بالإضافة إلى 20 عاملًا في المنظمات الإنسانية من أجل الوقوف على معاناة هذه الشريحة المجتمعية الكبيرة في البلاد.
إحصاءات وأرقام
ذكرت المنظمة في تقريرها أنها ركزت في دراستها هذه على مناطق شمال غرب سوريا بما أن الاحتياجات الإنسانية في هذه المناطق مرتفعة بشكل خاص وتفتقر إلى البنية التحتية، قالت إمينا شيريموفيتش، الباحثة في قسم حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة في هيومن رايتس ووتش: “وُلد معظم الأطفال الذين شملهم هذا التقرير عندما بدأت الحرب في 2011 أو قبلها بقليل، ولم يعيشوا مرحلة بلا نزاع أو نزوح أو صعوبات في الحصول على الخدمات التي يحتاجون إليها للنمو والازدهار”.
أثرت الحرب على قدرة السوريين اقتصاديًا خاصة أصحاب الإعاقة وأسرهم، وصعبت عليهم تحصيل حقوقهم واحتياجاتهم الأساسية، بما فيها الغذاء والمأوى، كما ساهمت الأزمات الاقتصادية المتوالية على سوريا بتوسيع دائرة الفقر إلى جانب تدمير البنية التحتية المادية وأنظمة الدعم، ما يجعل أسر الأطفال ذوي الإعاقة الذين يحتاجون إلى الرعاية الصحية في وضع صعب أمام تأمين حاجيات أبنائهم من العلاجات والأجهزة المساعِدة والخدمات الاجتماعية.
بسبب حرب النظام السوري على الشعب وقصفه المستعر والمستمر بكل أنواع الأسلحة، ازدادت أعداد السوريين من ذوي الإعاقة إلى أضعاف مضاعفة، يضاف إلى ذلك المواليد الجدد الذين يأتون إلى الحياة وهم يحملون إعاقة نتيجة تعرض أهلهم للتلوث والغازات والقصف الكيماوي.
أواخر العام المنصرم أصدرت شبكة “سوريتنا” إحصائية مفصلة عن نسبة ذوي الإعاقة في سوريا التي توافقت مع أرقام الأمم المتحدة حيث قالت إنها تمثل 28% من عدد سكان سوريا، أي ما يعادل أكثر من خمسة ونصف مليون فرد، ومن ضمنهم 5.5% من الإعاقات الشديدة وعددهم مليون ومئة ألف من ذوي الإعاقة.
يُقَدَر عدد الأشخاص ذوي الإعاقة في مخيمات النزوح بالشمال السوري بـ50 ألف شخص يعيشون في بيئات غير صحية مع أخطار تلوث عالية المستوى بسبب حفر الصرف الصحي المكشوفة، ويُضاف إلى ذلك الحرمان من مصادر الدخل الأساسية والاعتماد على المساعدات الإنسانية فقط، مع غياب الرعاية الصحية والأسس الوقائية اللازمة من فيروس كورونا، إلى جانب النقص الدائم في الغذاء والمياه وغياب أبسط الخدمات اليومية.
تقاعس بالمساعدة
ترى “هيومن رايتس ووتش” أنه رغم مليارات الدولارات من المساعدات، فإن العمليات الإنسانية تقاعست في سوريا عن تحديد ومعالجة حقوق واحتياجات الأطفال ذوي الإعاقات بمختلف أنواعها بما يكفي، يقول أحد موظفي الإغاثة الذين قابلتهم المنظمة: “لم نتدرب على دعم الأشخاص ذوي الإعاقة ولا يزال معظم موظفي الإغاثة يعتقدون أن دمج الإعاقة يتمحور حول مراكز إعادة التأهيل وبناء المنحدرات وتوفير الكراسي المتحركة”.
على الرغم من أن بعض وكالات الأمم المتحدة والجهات المانحة وجماعات الإغاثة بدأت في إيلاء اهتمام أكبر لاحتياجات الأشخاص ذوي الإعاقة في سوريا، فإن المنظمة الحقوقية ألقت باللائمة على أعمال الأمم المتحدة التي ما زالت تتجاهل الأطفال ذوي الإعاقة بشكل كبير.
يذكر أن مجلس الأمن الدولي اعتمد قرارًا بشأن حماية الأشخاص ذوي الإعاقة في عام 2019، لكن تقارير الأمين العام للأمم المتحدة بخصوص الشأن السوري لا تتناول احتياجات الأطفال ذوي الإعاقة.
يقول الدكتور محمد لكود العامل في أحد مشافي مدينة إدلب لـ”نون بوست”: “الحرب التي شنها بشار الأسد على الشعب خلفت الكثير من الندوب لدى السوريين، ولعل أكثرها مأساة ما خلفته من إصابات وإعاقات لدى شريحة واسعة من السوريين”، مضيفًا “لا تكاد تجد اليوم عائلة ليس فيها شخص يعاني من بتر أو إعاقة تمنعه من ممارسة حياته بنفسه”، ويشير الدكتور لكود إلى أن “الصعوبة الكبرى تكمن لدى الأطفال الذين لا يستطيعون الحركة دون مساعد وهذا الأمر ربما يمنعهم من إكمال تعليمهم وسوء صحتهم النفسية”.
وغالبًا ما يعتمد ذوو الإعاقة من السوريين خاصة الأطفال وأسرهم على وكالات الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية لتقديم الدعم الذي يحتاجون إليه، لكن هذا الدعم بدأ يقل ويتباطأ وفقًا للطبيب لكود الذي قال: “المنظمات لا تدعمنا كما ينبغي بالأجهزة المساعدة لذوي الإعاقة خاصة الكراسي المتحركة والأطراف ونحو ذلك من الأمور التي يمكن الاعتماد عليها في تحسين حالتهم”.
مشيرًا إلى أن هذه “الأدوات عالية التكلفة والثمن في حال أراد الشخص أن يؤمنها لنفسه بنفسه وتصل أسعارها إلى آلاف الدولارات وهنا لا نتكلم عن الأجهزة التي باتت تعمل بالذكاء الاصطناعي، لكن نتحدث عن أطراف عادية وكراسي متحركة غير كهربائية”، ويلفت الطبيب لكود النظر إلى أن “بعض الفرق التطوعية باتت تخفف من اعتمادها على المنظمات وتتجه نحو طلب الدعم من أهل الخير عبر وسائل التواصل الاجتماعي حيث ينشرون قصة عن حالة معينة بتفاصيلها الكاملة وغالبًا ما يتم تغطية الحالة بعيدًا عن الطلب من بعض المنظمات العاملة في هذا الشأن”.
لا يقتصر الأمر على المستشفيات والخدمات الصحية لذوي الإعاقة، إنما يتعدى الأمر إلى المدارس الخاصة بهم، حيث بات الوصول إلى هذه المدارس صعبًا ويحتاج إلى وساطات ومحسوبيات خاصة في مناطق سيطرة النظام، وفي حال أراد الأهل تسجيل أبنائهم في المدارس العمومية فسيكون عليهم العناية بصحة أولادهم النفسية نتيجة التنمر والاستهزاء بهم من رفقائهم.
وعلى الرغم من التقصير، ما زالت بعض الهيئات تحاول جاهدة مساعدة هؤلاء الأشخاص بشتى الوسائل، فعلى سبيل المثال افتتحت الوكالة التركية للتعاون والتنسيق “TİKA” فصولًا خاصة في منطقة أعزاز شمال سوريا للأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة لاكتساب المهارات وتطويرها.
وستقدم هذه الفصول الدعم النفسي والجسدي وإعادة التأهيل، ويحصل الطلاب الذين يعانون من إعاقة جسدية وتأخر في النمو، وأيضًا الذين يعانون من أمراضٍ في العضلات والمصابين بمتلازمة داون، على التعليم المجاني.
أيضًا في محافظة إدلب، تحاول المنظمات إجراء مبادرات للتخفيف من وطأة المعاناة، ومنذ شهور أقامت “الجمعية العامة للمكفوفين” و”منظمة شفق” بطولة في كرة القدم للمكفوفين للمرة الأولى في الشمال السوري، وذلك احتفالًا باليوم العالمي لذوي الاحتياجات الخاصة، ونُظمت المباراة تحت شعار “بالهمم نعلو القمم”، حيث لعب فريقان من المكفوفين المباراة أمام جمهور شجعهما بحماس في مدينة إدلب بشمال غربي سوريا.
ختامًا، هذه الأعداد الكبيرة من ذوي الاحتياجات الخاصة في سوريا، مع تعدد أنواع إصاباتهم وإعاقاتهم، تستدعي تكاتفًا محليًا ودوليًا، على المستويات كافة، لنجدة هذه الفئة الضعيفة من المجتمع السوري، الذي يواجه الأصحاء منه محنة ومأساة متعددة الأوجه، فكيف مع إعاقة؟