حراك دبلوماسي كبير تشهده العاصمة القطرية هذه الأيام، فبعد استقبالها رئيس الحكومة الليبية عبد الحميد الدبيبة نهاية الأسبوع الماضي، واستقبال رئيس البرلمان عقيلة صالح ونجل حفتر، من المنتظر أن تستقبل الدوحة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الذي يُعتبر من أبرز المتدخلين في الشأن الليبي.
حراك دبلوماسي يؤكد عودة قطر للساحة الليبية، لكن هل ستحطّ الدوحة كل ثقلها لحل الأزمة وتستعين بتجاربها في عمليات الوساطة التي قادتها في أزمات عديدة؟ وهل سيكون في ذلك حل قريب للأزمة في هذا البلد العربي الغارق في الفوضى والعنف منذ سنوات عدة؟
زيارة تاريخية لصالح ونجل حفتر
امتهن رئيس مجلس النواب الليبي عقيلة صالح منذ اعتلائه هذا المنصب سنة 2014، اتهام قطر بـ”انتهاك” سيادة بلاده، ودعم الفصائل العسكرية المناوئة له، وهو ما نفته الدوحة أكثر من مرة، مؤكدة وقوفها على مسافة واحدة من جميع أطراف الأزمة.
نفس الشيء بالنسبة للواء المتقاعد خليفة حفتر الذي يسيطر على مساحات واسعة في الشرق والجنوب الليبي، إذ سبق أن اتهم قطر بـ”دعم الإرهاب بالمال والسلاح وتهديد الاستقرار في العالم العربي بأسره”، مع تأكيد كل من صالح وحفتر قطع العلاقات مع الدوحة.
تسعى قطر للعودة بقوة إلى الساحة الليبية وقيادة جهود وساطة جدية لبحث سبل حل الأزمة المتواصلة منذ سنوات في هذا البلد العربي
لكن يبدو أن هذا الكلام انتهى الهدف منه وجاء وقت المصالحة، فالمصالح تقتضي ذلك، حيث استقبل أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، أمس الأحد، عقيلة صالح، ونجل حفتر “بلقاسم” الذي دائمًا ما يكلفه والده بقيادة المفاوضات مع الأطراف المتدخلة في الشأن الليبي.
في هذه الزيارة التي بحثت أوجه تنمية وتعزيز التعاون بين البلدين ومناقشة المستجدات الراهنة في ليبيا، عبّر عقيلة صالح عن شكره وتقديره للشيخ تميم على دعم الدوحة المتواصل والدائم لدولة ليبيا وشعبها، وهو ما يُعد تطورًا كبيرًا في مواقف صالح وحليفه حفتر.
الدبيبة في الدوحة
أهمية هذه الزيارة تأتي كونها جاءت بعد يومين فقط من زيارة رئيس حكومة الوحدة الوطنية في ليبيا عبد الحميد الدبيبة إلى قطر، حيث التقى الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، “وركز اللقاء على ضرورة دعم الجهود الدولية لإجراء الانتخابات في ليبيا، باعتبارها الخيار الوحيد للشعب الليبي للوصول إلى الاستقرار ورفضه المراحل الانتقالية”، وفق المكتب الإعلامي لرئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية.
وضمّ الوفد الليبي الزائر إلى جانب الدبيبة، كلًا من وزيرة الخارجية والتعاون الدولي نجلاء المنقوش ومحافظ مصرف ليبيا المركزي ووزيري الدولة للاتصال والشؤون السياسية وشؤون مجلس الوزراء والسفير الليبي في الدوحة.
لا يوجد أبشع من منظر من هتف لسنوات ضد قطر وراء عقيلة وحفتر ومات أبنائه واليوم يشاهد عقيله صالح وخالد حفتر في قطر في ضيافة أمير قطر تميم. pic.twitter.com/wo0Xu7AiB2
— Waleed khalfallah وليد خلف الله (@Waleedkhalfalla) September 11, 2022
تسابقت المنصات الإعلامية لهذه الأطراف على بث صور وفيديوهات تتعلق باللقاءات والاستقبال الذي حظي به كل طرف لإظهار قوته ودوره في المشهد الليبي، فكل طرف يُريد أن يظهر بثوب القوي الذي لا يمكن أن يحدث شيء في ليبيا دون موافقته.
السيسي يصل في الغد
لا يتوقف الحراك الدبلوماسي على استقبال الأطراف الليبية الداخلية فقط، بل يمتد لاستقبال أطراف خارجية متدخلة في الشأن الليبي ولها نفوذ قوي على بعض الأطراف هناك، فمن المنتظر أن تستقبل الدوحة غدًا الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.
صحيح أن الزيارة ستركز في الأساس على تطوير العلاقات بين البلدين وإزالة العقبات التي ما زالت موجودة بينهما، إلا أن الملف الليبي سيكون حاضرًا بقوة في المباحثات الثنائية التي ستجمع الشيخ تميم بالرئيس السيسي.
تأتي الجهود القطرية بعد أيام قليلة من استقبال القيادة التركية مختلف المتدخلين في الأزمة الليبية، وهو ما يفهم منه وجود تنسيق بين الطرفين
تمتلك مصر نفوذًا قويًا في ليبيا على جميع المستويات بما في ذلك المستوى الميداني، إذ تدعم القاهرة عددًا من التشكيلات المسلحة المنتشرة في مناطق عدة من ليبيا.
تأمل القيادة القطرية من خلال استقبال السيسي في إقناع القيادة المصرية التي لديها نفوذ على الأطراف المسيطرة في الشرق الليبي، بمساعدتها في جهود الوساطة التي تنوي القيام بها لحل الأزمة الليبية، مستغلة تحسن العلاقات بين الدوحة والقاهرة وتجاوز البرود السابق بعد وعود قطرية باستثمارات في مصر.
وسيط محل ثقة
يتبين من هنا أن قطر تسعى للعودة بقوة إلى الساحة الليبية وقيادة جهود وساطة جدية لبحث سبل حل الأزمة المتواصلة منذ سنوات في هذا البلد العربي، في ظل تشبث كل طرف من أطراف النزاع في فرض توجهه بعيدًا عن مصلحة الشعب الليبي.
استقبال الدبيبة وبعده صالح ونجل حفتر، يؤكد أن أغلب الأطراف الليبية ترى في قطر وسيطًا يمكن أن يكون فعالًا، ذلك أن الدوحة لم تتورط بدعم صريح لأي من الأطراف المتنازعة كما أنها لم تشارك في القتال الميداني بين مختلف الأطراف.
ما يرجح كفة قطر أيضًا، أن باقي الأطراف التي تعرض الوساطة بصفة جدية أو غيرها، كتركيا أو الجزائر أو مصر، سبق أن دعمت أحد أطراف النزاع، ما جعلها محل تحفظ من هذا الطرف أو ذلك، خشية عدم الحياد.
فضلًا عن ذلك، تدخل قطر إلى الملف الليبي مستعينة بتجاربها السابقة في مجال دبلوماسية الوساطة، إذ تعمل الدوحة في السنوات الأخيرة على أن تكون جزءًا من الحل في العديد من الأزمات والنزاعات الإقليمية عبر التدخل كوسيط.
وباتت الدوحة في السنوات الأخيرة تمثل قِبلة لحلّ الخلافات والمشاكل، وداخل أراضيها تُعقَد اللقاءات والمؤتمرات والجلسات المطوّلة، من ذلك الوساطة في الملف الأفغاني والمصالحة بين فتح وحماس سنة 2012 ورعاية المصالحة في دارفور السودانية سنة 2011 والمصالحة بين جيبوتي وإريتريا سنة 2008.
حتى الملف الليبي سبق أن نجحت الدوحة في بعض حيثياته، ففي نوفمبر/تشرين الثاني 2015، وقعت قبائل التبو والطوارق الليبية في العاصمة القطرية الدوحة، على اتفاقية سلام نهائي لوقف إطلاق النار بين الجانبَين، ونص الاتفاق على فتح الطرق وإنهاء المظاهر المسلحة، برعاية قطرية.
ويرى المحلل السياسي الليبي عصام الزبير في حديثه لنون بوست، أن الانسداد السياسي الحاصل في البلاد وعدم قدرة أي طرف على حسم الصراع بقوة السلاح من شأنه أن يقوي حظوظ قطر في الوصول لحل للأزمة الليبية.
عضو مجلس النواب المبروك الخطابي، يؤكد أن الأزمة الليبية خرجت من أيدي الليبيين بنسبة كبيرة، ولا بد من التواصل مع كافة الأطراف الإقليمية والدولية، مشيرا إلى أن #قطر دولة لها مصالح في #ليبيا وهذا ليس عيبا، وبالتالي زيارة عقيلة صالح لقطر إيجابية وتفيد التوافق في الأزمة الليبية. pic.twitter.com/3dGK3k5FPB
— أوج (@jana1964ly) September 10, 2022
يضيف الزبير: “التوازنات الإقليمية الأخيرة أيضًا ستكون دافعًا قويًا لقطر لإنجاح مهمتها، خاصة أنها تمتلك دعمًا إقليميًا قويًا وضوءًا أخضر لإيجاد حل للأزمة الليبية خدمة لمصالح الشعب الليبي ومصالح القوى الإقليمية على حد سواء”.
وتأمل قطر في إنجاح جهود الوساطة بين مختلف الأطراف المتدخلة في الشأن الليبي، لتجنيب البلاد ويلات حروب قادمة، خاصة أن كل من فتحي باشاغا رئيس الوزراء المكلف من البرلمان وعبد الحميد الدبيبة يصران على الحكم مهما كلفهما الأمر.
ومؤخرًا فشل باشاغا في اقتحام العاصمة طرابلس بالقوة، بعد تصدي القوات الموالية للدبيبة له، وإجباره على سحب قواته من مشارف العاصمة والعودة من حيث أتى، لكن لا يُستبعد أن يشن باشاغا في أي وقت عملية عسكرية خاطفة للاستيلاء على العاصمة والحكم من هناك.
وتخشى العديد من الأطراف الليبية عودة الاشتباكات المسلحة في البلاد والعودة إلى مسار العنف والصراع بين طرفي الأزمة، في ظل تعطل المسار السياسي الذي تمكنت الأمم المتحدة من تأسيسه السنة الماضية الذي كان من المفترض أن يتوج بانتخابات تعقد في ديسمبر/كانون الأول 2021، لكن تعذر إجراؤها.
تبادل أدوار مع تركيا؟
تأتي الجهود القطرية بعد أيام قليلة من استقبال القيادة التركية مختلف المتدخلين في الأزمة الليبية، وهو ما يفهم منه وجود تنسيق بين الطرفين، فتركيا مقتنعة أنها لا تحظى بالترحيب الكافي من جماعة الشرق حتى إن تبادلت معهم بعض الصور والزيارات.
فحفتر وصالح لم ينسيا بعد التدخل التركي لفائدة حكومة الوفاق الوطني بقيادة فائز السراج نهاية سنة 2019 وقلبها موازين القوى لصالح حكومة السراج، بعد أن كادت قوات حفتر المدعومة من روسيا ومصر وفرنسا والإمارات أن تحل العاصمة طرابلس وتفرض سيطرتها على كامل البلاد.
يأمل الليبيون في إنهاء الأزمة في بلادهم في أقرب وقت للتوجه نحو إعادة بناء دولتهم وبناء دولة القانون والمؤسسات
لذلك دفعت أنقرة حليفتها الدوحة لتولي جهود المصالحة والوساطة بدلًا عنها، لإعطائها فرص أكبر للنجاح، ذلك أن تركيا تريد الآن التوجه نحو إعادة إعمار ليبيا وتفعيل الاتفاقات الاقتصادية المبرمة مع الحكومة الليبية، دعمًا لاقتصادها الذي يمر بأزمة، كما أن حلحلة الأزمة الليبية يدعم أردوغان في سباقه الانتخابي ويعزز موقفه.
ومن شأن التوصل إلى حل سلمي بين الأطراف المتصارعة في ليبيا أن يحفظ الاتفاقات التي أبرمتها تركيا مع حكومة الوفاق السابقة برئاسة فايز السراج، فيما يتعلق بالتعاون الأمني والعسكري وترسيم الحدود البحرية.
حكومة ثالثة؟
أحد الحلول المطروحة لتجاوز الأزمة الحاليّة وأزمة الشرعية التي يدعي كل طرف امتلاكها، التوجه نحو إقرار حكومة ثالثة، مع استبعاد حكومتي فتحي باشاغا وعبد الحميد الدبيبة من المشهد، على أن تحظى هذه الحكومة بموافقة مجلس النواب في طبرق ومجلس الدولة في طرابلس، بالإضافة إلى موافقة باقي الأطراف المتدخلة في الملف سواء الداخلية أم الخارجية.
فيديو | بابتسامة عريضة.. رئيس مجلس النواب #عقيلة_صالح يطوي صفحة العداء والخصومة مع #قطر ويشكر أميرها الشيخ تميم آل ثاني على مواقفه الداعمة للشعب الليبي. pic.twitter.com/L0zDz2DWci
— عين ليبيا (@EanLibya) September 11, 2022
تسعى الدوحة من خلال هذه المشاورات إلى الوصول لاتفاق بين صالح وحفتر من جهة والدبيبة وخالد المشري من جهة أخرى، فهم أبرز القوى المتدخلة في الأزمة الليبية والتوافق بينهم إن حصل سيكون خطوة مهمة نحو حل الأزمة.
وسبق أن أجريت مشاورات في بعض العواصم العربية والإقليمية بين أطراف ليبية مختلفة بشأن مقترح تشكيل حكومة ثالثة، وهناك اتفاق شبه نهائي بخصوص هذا الموضوع، لكن الخلاف بشأن الشخصية التي ستترأس الحكومة، فكل طرف يدخل بأسماء تكنّ له الولاء.