ليس وحده الأسير ناصر أبو حميد (50 عامًا) من يصارع سرطان الرئة والسجّان الإسرائيلي على حد سواء، بل يواجه نحو 600 معتقل مريض في السجون الإسرائيلية أوضاعًا صحية صعبة، بينهم 200 يعانون أمراضًا مزمنة، و23 مصابًا بأورام وسرطانات بدرجات مختلفة.
يرفض الأسرى المرضى أن يكونوا أرقامًا تحصيهم المؤسسات الحقوقية والمعنية بشؤون الأسرى، إذ لكل منهم حكاية ألم جسدي ونفسي يعيشها الأسير داخل زنزانته ويسكّن ألمه بحبة “أكامول”، حتى يأتيه الإفراج ويهرب إلى المستشفيات العادية بعدما ينتكس وضعه الصحي ويحاول ترميم ما تبقّى، وهؤلاء يوصَفون بالمحظوظين، لأن هناك العشرات فارقوا الحياة داخل المعتقل.
ووفق إحصائية أخيرة لنادي الأسير الفلسطيني، فإن 73 فلسطينيًّا فقدوا حياتهم نتيجة الإهمال الطبّي في سجون الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 1967، وكانوا من بين 231 شهيدًا من شهداء الحركة الأسيرة، وآخرهم السيدة سعدية فرج الله التي توفيت نتيجة سياسة الإهمال الطبي في يونيو/ حزيران من العام الجاري.
وتبقي مصلحة السجون الإسرائيلية الأسرى الفلسطينيين يصارعون المرض حتى الموت دون الإفراج عنهم، رغم أنهم لا يشكّلون خطرًا، ولم تكتفِ بذلك بل تصرّ على احتجاز جثامينهم والإفراج عنها في صفقات أو بعد انتهاء محكوميتهم، حيث لا تزال تحتجز 9 جثامين لأسرى توفّوا أو قُتلوا خلال اعتقالهم.
يستعرض “نون بوست” في هذا التقرير، شهادات لبعض الأسرى المحرَّرين الذين عاشوا تجربة المرض داخل زنازين الاحتلال، وأسباب تحفُّظ مصلحة السجون على المرضى، خاصة من يلفظ أنفاسه الأخيرة، دون الإفراج عنهم.
حكايات يسردها أسرى محررون
لم يتردد الأسير المحرر وليد الهودلي (62 عامًا) وهو يروي تجربته داخل المعتقل الإسرائيلي بينما يعاني المرض، حيث يقول إن الظروف البيئية في السجون تسبّب الأمراض المزمنة والخطيرة للأسرى، فالطعام مجمّد ورائحته نتنة، والمعلبات مليئة بالمواد الحافظة المسرطنة، والخضار يصلهم متعفّنًا، ولا خيار أمامهم سوى تناوله بعد غسله أو سلقه عدة مرات.
ويذكر الهودلي لـ”نون بوست”، وهو من الضفة الغربية، أن وسائل التهوية أيضًا معدومة، خاصة في السجون القديمة مثل عسقلان، والشبابيك مرتفعة، وأيضًا الطبخ وعدم وفرة مواد التنظيف وتواجُد دورة المياه في الغرفة نفسها واكتظاظ العدد، يزعج صدور الأسرى ويسبّب لهم أمراضًا مختلفة.
ويوضّح أن الأمراض لا تقتصر على الألم الجسدي، بل النفسي أيضًا الذي يحتاج المصابون فيه إلى علاج، لكن لا يقدَّم للمريض سوى حبة “أكامول” لتخفّف عنه بعد مماطلات طويلة لمنحه إياها.
ويروي حكايته مع المرض داخل السجن بأنه كان يشتكي من تقرحات في لسانه، وبعد شهور من وصول دوره لعرضه على الطبيب في عيادة سجن الرملة، وصف له دواء يُعطى للمرضى النفسيين، حيث علمَ بذلك حين عرض العلاج على طبيب كان معتقلًا آنذاك، وهو حسن خواجة، منعه من تناوله، وبعد مدة نقلوه إلى المستشفى وأخذوا قطعة من لسانه ثم أخبروه أن “نتيجته سليمة”.
ويقول الهودلي، وهو كاتب وروائي: “لو أخذت الدواء لتحررت مجنونًا أمشي بين الناس، لكن بعد الإفراج عني عرضت نفسي على طبيب للاطمئنان على صحتي أكثر، وتناولت العلاج المناسب”، مضيفًا: “اُعتقلت مرة أخرى عام 2007، ووقتها أُصبت بالتهاب العصب السابع، وكنت بحاجة إلى نوعَين من الدواء، حيث رفضوا منحي المضاد الحيوي واكتفوا بالكورتيزون رغم ألمي الشديد، لكن “حلاق السجن” كان يعالجني بالتدليك بشكل دوري”.
ويستذكر موقفًا عاشه في السجن مع الأسير الشهيد يوسف العرعير، حين كان يرافقه خلال عملية قلب مفتوح له، يقول: “كان بعمر الـ 67 حينها ويعاني كثيرًا من وجع في القلب، وبعد موعد جاء متأخرًا قرروا له عمليه وكنت معه (…) بعد ساعات صحيَ من التخدير ونجحت العملية، بعدها ساعدته في أخذ حمّام دافئ، لكن بعد ساعة تعبَ جدًّا وتوفي في يونيو/ حزيران 1998”.
ويضيف: “حين كنت برفقة العرعير، جاءني الدور بعد سنتَين من المطالبة بعلاجي من صداع كان يلازمني، حيث أجرى لي الطبيب الفحص ومنحني “أكامول””.
ويؤكد أن الأسرى لا يثقون بعلاج السجون رغم أنه يأتي متأخرًا، ويرون أن التعامل معهم كحقل تجارب، بالإضافة إلى أنهم يعانون القلق والتوتر على حياتهم ويبقون في حالة صراع دائمة، حيث هل سيخرجون أحياء بعد الحالات المرضية التي شهدوها سنوات اعتقالهم، وتكون نهايتها الموت أو الإفراج عن الأسير المريض “جثة بروح”.
“الحياة صعبة داخل السجن، فما بالك لو كان الأسير مريضًا معاناته متضاعفة، ويبقى طيلة الوقت يحاول كتم أنينه كي لا يزعج زملاءه في الغرفة؟”.
وإلى قطاع غزة، حيث المحررة نسرين أبو كميل التي أُفرج عنها قبل عام، تحديدًا أكتوبر/ تشرين الأول 2021، لا تزال تتردد على عيادات الأطباء لمتابعة وضعها الصحي، فعضلة القلب ضعيفة وبحاجة أيضًا لإزالة الرحم، حيث وقت اعتقالها عام 2015 وأثناء التحقيق معها أُصيبت بالضغط والسكّر نتيجة الضغط عليها للاعتراف بقضايا لا علاقة لها فيها، وخوفها على صغارها التي لم ترَهم حتى الإفراج عنها.
تقول: “الحياة صعبة داخل السجن، فما بالك لو كان الأسير مريضًا معاناته متضاعفة، ويبقى طيلة الوقت يحاول كتم أنينه كي لا يزعج زملاءه في الغرفة؟”، مضيفة: “6 سنوات في السجن مع المرض وكأنها 60 عامًا، اضطررت فيها الخضوع لعملية في إصبع قدمي بسبب مرض السكّر خوفًا من بترها لو تأخرت”.
وتحكي أبو كميل لـ”نون بوست” معاناتها وهي تتنقل في “البوسطة” -سيارة نقل الأسرى للمحكمة-، حينها كانت تتألم خاصة أن قدمَيها مقيّدتان بالسلاسل الحديدية، وكان عناصر “النخشون” يجرّونها لعدم تمكُّنها من السير بشكل طبيعي.
وتتذكر موقفًا عاشته حين قاطعت الأسيرات عيادة السجن لعدم وفرة العلاج المناسب، لكن في إحدى الليالي اضطررن لاستئناف التعامل لاشتداد ألمها، وبقيت زميلاتها يطرقن على باب الغرفة يرددن “نسرين بطلع الروح”، ثم سُمح لإحداهن إحضار حبة “أكامول” كمسكّن.
وتشير أبو كميل إلى أن في بعض الأحيان تضطر الأسيرات شراء بعض الأدوية اللازمة عبر “الكنتنيا”، المكان الذي يتوفر فيه بعض أغراض الطعام والمعيشة للأسرى بأسعار عالية، فمثلًا يكون سعر مرهم معيّن 10 شواكل -3 دولارات تقريبًا- بينما في الخارج يكون بسعر أقل.
ولفتت إلى أن أسوأ شعور حين يأتيهم خبر وفاة أسير مريض، حيث يقمن له العزاء ويسود الصمت، ويبقى السؤال الذي يتردد في أدمغتهن “هل سنخرج أحياء؟”.
ولم تنسَ أبو كميل الحديث عن زميلاتها في الأسر، مثل إسراء الجعابيص التي تعاني حروقًا كثيرة وبحاجة إلى مراهم ومسكنات بشكل مستمر، حيث تقول: “تضطر إسراء شراء بعض الأدوية عبر “الكنتنيا” بسعر مضاعف جدًّا، حال أمكن ذلك”، لافتة إلى أن الأسيرات يتضامن مع بعضهنّ، فمثلًا قد تتنازل نسرين عن الفيتامينات المخصَّصة لها من أجل زميلتها إسراء، كونها بحاجتها أكثر منها.
وتوضّح أن غالبية الأسيرات يعانين من نقص الفيتامينات، وكثيرات تلازمهن الدوخة المستمرة وهبوط في الضغط بسبب الظروف البيئية غير الملائمة، لافتة إلى أن هناك أسرى وأسيرات يعانون أمراضًا نفسية صعبة وبحاجة إلى أدوية معيّنة، لكن مصلحة السجون ترفض علاجهم بحجّة أنه “وهم”.
لماذا تتحفّظ “إسرائيل” على الأسرى المرضى؟
رغم حجم الألم الجسدي وتفشّي المرض في أجساد الأسرى المرضى المنهكة، إلا أن “إسرائيل” لا تكترث للمطالب الدولية التي تأتي عبر مؤسسات حقوقية بضرورة الإفراج عنهم، لسوء أوضاعهم الصحية.
وتواصل السلطات الإسرائيلية تعذيب الأسرى المرضى وإهمال ملفهم الصحي في إطار سياستها لـ”الإعدام البطيء”، التي تنتهجها ضدّ المعتقلين في سجونها، فهي تاريخيًّا لم تفرج عن أي أسير مريض مهما كان وضعه الصحي سيئًا، إلا في حالات قليلة كان فيها المريض في حالة احتضار.
ولتنتقم “إسرائيل” أكثر من المقاوم الفلسطيني، كانت عام 2018 تريد إقرار قانون الإعدام، لكن خوفها من تشويه صورتها أمام العالم الغربي جعلها تسلك نهجًا آخر في الإعدام، من خلال إهمال الملف الطبيّ للأسرى.
ومع أن الأسير المريض لا يشكّل خطرًا على دولة الاحتلال، لكن الأخيرة تريد الانتقام لما قام به قبل اعتقاله وليكون رادعًا لغيره، لكن تبدو سياستها في ردع الشباب المقاوم لانتهاكاتها العنصرية قد باءت بالفشل، فدومًا تشهد الأراضي الفلسطينية حالة غليان سياسي، ويواجه الشباب في الضفة والقدس جنودَ الاحتلال دون خوف من الاعتقال.
وما يصفه الأسرى المرضى عن حجم معاناتهم داخل السجون الإسرائيلية، ما هو إلا شيء بسيط من واقعهم، فنقل الشهادات الحية على لسان من عاش تلك الظروف بالكاد يصفُ الوضع الحقيقي داخل الأسلاك الشائكة.