في 13 سبتمبر/ أيلول 1993، وقّعت منظمة التحرير الفلسطينية بزعامة ياسر عرفات اتفاقية أوسلو مع الاحتلال الإسرائيلي، لتكتب فصلًا جديدًا في تاريخ الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، وتتحول من الفعل الكفاحي المقاوم إلى نهج التسوية والتفاوض.
كانت تأمل المنظمة أن تكون الاتفاقية بداية الطريق لإقامة الدولة الفلسطينية على حدود 4 يونيو/ حزيران 1967، لكنها لم تَقُم، وما كان تحت سيطرة السلطة من أراضٍ بعد الاتفاق، أعاد الاحتلال احتلاله بعد أقل من 8 سنوات.
وإلى جانب ذلك، تعزّزَ الاستيطان الإسرائيلي في مناطق الضفة الغربية المحتلة وشرقي مدينة القدس، إلى جانب المخططات الرامية للسيطرة على المسجد الأقصى وتهويده، وتغيير الواقع الذي كان سائدًا على مدار عقود.
إسرائيليًّا، يتعامل الاحتلال مع الاتفاقية على أنها غير موجودة، من خلال رفض التفاوض سياسيًّا مع السلطة الفلسطينية، فيما يقتصر المشهد على تقديم تسهيلات اقتصادية ومالية للحفاظ عليها من أجل القيام بمهمة التنسيق الأمني.
أما الفلسطينيون فينقسمون بشأن الاتفاقية حاليًّا إلى قسمَين، الأول تمثله السلطة الفلسطينية التي تتمسّك بالاتفاق كحلٍّ مرحلي يمكن البناء عليه رغم تنكُّر الاحتلال له، والقسم الثاني يضمّ فصائل المعارضة كحماس والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية، إذ تدعو هذه الفصائل والحركات إلى إعلان فوري عن إلغاء الاتفاقية ووقف سياسة التنسيق الأمني، فيما يراها مؤرخون ومستقلون “جريمة أكبر وأخطر من وعد بلفور المشؤوم”.
بنود الاتفاقية.. على ماذا نصّت اتفاقية أوسلو؟
نصّت الاتفاقية التي أشرفت عليها إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون، على نبذ منظمة التحرير الفلسطينية الإرهاب والعنف (تمنع المقاومة المسلحة ضد “إسرائيل”)، وتحذف البنود التي تتعلق بها في ميثاقها كالعمل المسلح وتدمير “إسرائيل” (الرسائل المتبادلة – الخطاب الأول).
وإلى جانب ذلك، تعترف “إسرائيل” بمنظمة التحرير الفلسطينية على أنها الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني (الرسائل المتبادلة – الخطاب الثاني)، وتعترف منظمة التحرير الفلسطينية بدولة “إسرائيل” (على 78% من أراضي فلسطين، أي كل فلسطين ما عدا الضفة الغربية وغزة).
وشملت الاتفاقية الإشارة إلى الانسحاب الإسرائيلي خلال 5 سنوات من أراضٍ في الضفة الغربية وقطاع غزة على مراحل، أولها أريحا وغزة اللتان تشكّلان 1.5% من أرض فلسطين، إلى جانب إقرار إسرائيلي بحقّ الفلسطينيين في إقامة حكم ذاتي (أصبح يُعرَف فيما بعد بالسلطة الوطنية الفلسطينية) على الأراضي التي تنسحب منها في الضفة الغربية وغزة (حكم ذاتي للفلسطينيين وليس دولة مستقلة ذات سيادة).
في المقابل، شهدت الاتفاقية حقّ الفلسطينيين في إقامة مجلس تشريعي منتخَب للشعب الفلسطيني، وإنشاء قوة شرطة من أجل حفظ الأمن في الأراضي الخاضعة للسلطة الفلسطينية، على أن يكون الاحتلال هو المسؤول عن حفظ أمن منطقة الحكم الذاتي من أي عدوان خارجي.
وبموجب الاتفاقية، تبدأ بعد 3 سنوات “مفاوضات الوضع الدائم”، التي تتمّ خلالها مفاوضات بين الجانبَين بهدف التوصل لتسوية دائمة، وتشمل هذه المفاوضات القضايا المتبقية بما فيها القدس (من يتحكم بالقدس الشرقية والغربية والأماكن المقدسة وساكنيها واللاجئون (حق العودة وحق التعويض) والمستوطنات في الضفة الغربية والقطاع)، والترتيبات الأمنية (كمّية القوات والأسلحة المسموحة بها داخل أراضي الحكم الذاتي، والتعاون والتنسيق بين شرطة السلطة الفلسطينية وجيش الاحتلال الإسرائيلي).
ورغم ذلك، لم يجرِ تطبيق إلّا الحد الأدنى من هذه البنود، خصوصًا بعد اغتيال إسحاق رابين، رئيس وزراء الاحتلال، داخليًّا، لتتغير المعطيات الداخلية لدى الاحتلال، إلى جانب اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000 واغتيال ياسر عرفات وتسارُع الأحداث.
التداعيات الوطنية.. أوسلو بداية الشرخ
رغم أن أحداث الانقسام الفلسطيني تعود إلى الاشتباكات الداخلية التي وقعت عام 2007، إلا أن الفلسطينيين يرون أن جذور الانقسام كانت مع توقيع هذه الاتفاقية، التي تمَّ التوصل إليها بمفاوضات قادها الرئيس الفلسطيني الحالي محمود عباس ووقّعها الراحل ياسر عرفات.
ويرجع أصحاب هذا التوجه أسباب ذلك إلى ما جرى في أعقاب الاتفاقية، من بداية الملاحقة الأمنية لكوادر وقيادات حركة الجهاد الإسلامي وحركة حماس، وعمليات الاعتقال السياسي التي جرت، فضلًا عن التنسيق الأمني.
وشهدت فترة التسعينيات من القرن الماضي بعض الحوادث التي عززت من حدّة الخلاف الفلسطيني، كحادثة مسجد فلسطين التي شهدت مقتل 12 فلسطينيًّا وإصابة 200 آخرين، نتيجة المواجهات التي اندلعت في 18 نوفمبر/ تشرين الثاني 1994 بين قوى الأمن وأنصار حركة حماس.
وتلت هذه الحادثة مجموعة من الحوادث التي عززت من الخلاف الداخلي، وجعلت خطاب الكراهية الصادر بين أنصار الحركتَين تحديدًا يتصاعد، حتى وصل في بعض المراحل إلى التخوين و”التكفير”، وبدرجة أقل مع فصائل فلسطينية أخرى.
وإلى جانب ذلك، عززت الاتفاقية من تطوير الاحتلال لاحتلاله بقية المناطق الفلسطينية بشكل “ناعم”، دون أن يتحمّل أي تكاليف نتيجة إفراز أجهزة بديلة، مثل الأجهزة الأمنية الفلسطينية ومؤسسات السلطة المختلفة.
وكان للنهج الذي تبنّته الأجهزة الأمنية الأثر البالغ في حالة الشرخ، عبر سياسة التنسيق الأمني ومحاربة المقاومة ومطاردتها، والتنسيق مع الإسرائيليين لوقف العمليات الفدائية التي كانت في أواخر التسعينيات وبداية الألفية الجديدة، وتحديدًا خلال انتفاضة الأقصى.
وأوجدَ الاتفاق طبقة منتفِعة ماليًّا وسياسيًّا من قيادات هذه السلطة تشابكت مصالحها مع استمرار السلطة، وتضخّمت هذه الطبقة وتعاظمت منافعها مع التشجيع الإسرائيلي بخدمات VIP وحرية السفر إلى الخارج، لتحوِّل المشروع الوطني إلى لقاءات وزيارات ومباحثات وسفريات.
وبعد ذلك، جاء عام 2007 ليعزز من الانقسام الجغرافي بين غزة والضفة، كنتيجة منطقية لحالة الانقسام السياسي الذي تبلور مع توقيع اتفاقية أوسلو، فقد جسّد الاتفاق منهجَين مختلفَين، الأول انخرط في مشروع التسوية بالاستناد إلى البُعد الإقليمي والدولي على أرضية الشرعية الدولية، والثاني مشروع المقاومة والتمسُّك بالثوابت ورفض الحلول التصفوية للقضية الفلسطينية، ومع الوقت تحول الانقسام السياسي إلى شرخ أفقي على المستوى الجماهيري، وعمودي على مستوى النخب السياسية والثقافية.
الاحتلال يستغلّ الاتفاقية.. تنسيق أمني وسرطان استيطاني
بعد عام 2005 سعى الاحتلال لاستغلال الحقبة السياسية الجديدة لرئيس السلطة محمود عباس الذي خلف عرفات، من خلال تعزيز سياسة التنسيق الأمني التي يصفها عباس بـ”المقدسة”، خصوصًا في الضفة الغربية المحتلة.
يمكن القول إن الاحتلال نجح في استغلال الاتفاقية لتمرير حلّ مؤقت يمكّنه من حصر الصراع في مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة، مرورًا بالانسحاب من الأخير والسيطرة على الضفة بشكل هادئ وناعم.
وأوجد هذا التنسيق بيئة مريحة للاحتلال والمستوطنين خاصة بعد عام 2005، وتمّت إعادة تأهيل الأجهزة الأمنية بإشراف الجنرال الأميركي كيث دايتون في الضفة الغربية، وإعادة تشكيل قيادة السلطة بما يخدم الهدف الإسرائيلي وإدامة وتعميق التنسيق الأمني، وتراجع المقاومة وغيابها بالكامل لفترات طويلة.
وشجّع هذا الأمر المستوطنين، وبدعم من حكومات اليمين المتطرف، على الاستيطان في الضفة الغربية، وزيادة ما يُسمّى بالبؤر الاستيطانية العشوائية، فلم يكن يتجاوز عدد المستوطنين عام 1993 في الضفة الغربية 116 ألف مستوطن، وفي القدس 144 ألفًا، أما في عام 2016 وصل عدد المستوطنين في الضفة الغربية إلى 420 ألف مستوطن، و240 ألف مستوطن في القدس، أي زيادة بحوالي 300% منذ اتفاقية أوسلو حتى الآن.
وقد أدّى هذا إلى سيطرة المستوطنات التي يبلغ عددها الآن 128 مستوطنة، على حوالى 60% من مساحة الضفة الغربية، كما خلق واقعًا يستحيل معه قيام دولة فلسطينية ذات تواصُل جغرافي وسكاني.
ومع حالة التمدد الحاصلة في الملف الاستيطاني وخطة ترامب سيئة السمعة، يرفض الاحتلال العودة إلى المفاوضات، إذ يرى بالضفة الغربية امتدادًا توراتيًّا خاصًّا به حيث يطلق عليها “يهودا والسامرة”، ويتجه نحو سياسة التسهيلات الاقتصادية فقط دون اكتراث بمطالبات السلطة المتكررة بالعودة للمفاوضات وعقد مؤتمر دولي “للسلام”.
يمكن القول إن الاحتلال نجح في استغلال الاتفاقية لتمرير حلّ مؤقت يمكّنه من حصر الصراع في مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة، مرورًا بالانسحاب من الأخير والسيطرة على الضفة بشكل هادئ وناعم، وتحويل جسم السلطة إلى أشبه بالإدارة المدنية التابعة له، تتولى مهمة الخدمة المدنية للفلسطينيين والأمنية له ولمستوطنيه.
ومع فشل الاتفاقية في وصول السلطة إلى ما كانت تأمله، لا يبدو أن هناك تغييرًا حاصلًا في سلوكها، إذ ما زالت سياسة التنسيق الأمني قائمة، فيما تلوّح باستمرار بتعليق العمل بالاتفاقيات الموقعة مع الاحتلال دون أي تنفيذ عملي لذلك.