ترجمة وتحرير نون بوست
أثناء كتابة هذا التقرير، كان لدي 101 رسالة على “واتساب” غير مقروءة و254 رسالة على جهاز “آيفون” غير مقروءة و46252 رسالة بريد إلكتروني غير مقروءة عبر ثلاثة حسابات منفصلة. بالنسبة ليP يعد عدم تلقي رسائل على البريد الإلكتروني هدفًا بعيد المنال، لا يمكن تحقيقه مثل رسم عين القط المثالية، أو تعلم كيفية الطهي.
لكن رسائل “واتساب“، وتحديدًا محادثات مجموعة “واتساب”، هي التي ترهبني أكثر. إذا كنت امرأة شجاعة، فسأغادر هذه المجموعات بمجرد إضافتي إليها؛ لكني أشعر بثقل الالتزام الاجتماعي، لذلك أبقى.
لست الشخص الوحيد الذي يراوده هذا الشعور. ففي الشهر الماضي؛ رضخ تطبيق “واتساب” للضغط العام، وأعلن أن المستخدمين سيكونون قادرين على الخروج من المجموعات بشكل غير مرئي، دون إخطار الأعضاء الآخرين بقرارهم. (ومع ذلك، لم يتم تنفيذ السياسة الجديدة بعد). وقد ساهم هذا في تجنب الصراع بيننا: والآن، يمكننا أخيرًا أن نغادر المجموعات دون أن يعتبر ذلك وقاحة منا. ولكن بعد 11 سنة من تقديم تطبيق المراسلة الفورية لميزة الدردشة الجماعية، هل سننجو حقًا من استبداد مجموعة “واتساب”؟
يقول داني غرونر، البالغ من العمر 39 سنة، مدير التسويق من نيويورك: “ربما أكون في الجانب الخطأ من التاريخ في هذا الشأن. فقط لأكون واضحًا؛ لا يتعلق الأمر بأبناء عمي، إنهم أناس محبوبون”، ويشير غرونر إلى مجموعة “واتساب” المؤلفة من 25 شخصًا المكونة من أبناء عمومته من الدرجة الأولى والثانية. وهي تعتبر بمثابة مساحة لمواكبة أخبار العائلة: أعياد الميلاد واحتفالات الذكرى السنوية والولادات والوظائف الجديدة، ويقول غرونر: “الجميع نواياهم حسنة. لكنني لم أحصل على أي قيمة من ذلك”.
غادر غرونر المجموعة ثلاث مرات. وفي كل مرة؛ كان ابن عمه يعيد إضافته، عادةً ليتمنى له عيد ميلاد سعيد أو ذكرى سنوية سعيدة، وكان غرونر يعيد مغادرة المجموعة مباشرة، دون أن يشكرهم حتى.
ويتابع قائلًا: “أنا متأكد من أن أعضاء المجموعة يعتقدون أنه تصرف عدواني، أو غريب على الأقل. ولكنني بحاجة إلى الحفاظ على هذه الحدود لنفسي، حتى لا يتم تجاوزها”.
بدلًا من ذلك؛ توصل غرونر إلى حل وسط عملي – على الأقل بالنسبة له – وهو أن تراقب زوجته المجموعة نيابة عنه؛ حيث يقول إنها “على استعداد للتضحية بوقتها لتكون جزءًا من المجموعة، لأن الأمر لا يزعجها بقدر ما يزعجني”. وعلى الرغم من أنه قيل لغرونر في كثير من الأحيان بأنه وقح، إلا أنه أيضًا بطل غير محتمل لمقاومة مجموعة “واتساب”؛ حيث يوضح قائلًا “أخبرني الكثير من الأشخاص أنهم يرغبون في الخروج من المجموعات، لكنهم يخشون أن يسيئوا للناس إذا غادروا”.
في الواقع؛ أكد غرونر رغبته في العيش دون التعرض لهجوم من قبل الرسائل المستمرة التي تتطلب ردود فعل فورية، ويشرح قائلًا: “لا يمكنني أن أعيش هذه الحياة الي يتعيّن علي فيها إمساك هاتفي لتصفح عشرات الرسائل”.
وفي هذا الصدد، يمارس غرونر ما وصفه الفيلسوف جيل دولوز بأنه “الحق في عدم قول أي شيء”؛ حيث كتب دولوز قائلًا إن “القوى القمعية لا تمنع الناس من التعبير عن أنفسهم، بل تجبرهم على التعبير عن أنفسهم؛ يا لها من راحة عندما لا تجد ما تقوله. لأنه عندها فقط تكون هناك فرصة لتأطير الشيء النادر، بل والأندر، الذي قد يستحق البوح به”.
على الرغم من وفاة دولوز قبل ظهور منصات التواصل الاجتماعي، إلا أن الظاهرة التي لاحظها – كيف أن المحادثات عديمة الجدوى تأخذنا بعيدًا عن المحادثات المهمة حقًا – يمكن تطبيقها بسهولة على أي مجموعة “واتساب” سريعة الوميض؛ حيث إن هذه الدردشات تختزلنا جميعًا إلى جيش من السيدة بينيتس في العصر الحديث، عبر تجاذب أطراف الحديث بلا توقف أو تبادل الملاحظات العادية، بدلًا من العمل أو التفكير أو الوجود ببساطة.
من جانبه؛ يقول ريتشارد سيمور، مؤلف كتاب “الآلة المغردة”: “ألق نظرة عامة تنفيذية على كيفية انغماس “واتساب” في حياتك؛ حيث إن كل ما يفعله هو استعمارك وتشتيت انتباهك، حتى يبدأ تدريجيًا في السيطرة على جزء أكبر من تركيزك. فكر فيما يمكنك فعله في ذلك الوقت. وتذكر أنك لست مجبرًا على الرد على كل الرسائل، أو أن بعضها لا يستحق الرد”.
بالنسبة للكثيرين؛ بدأت محادثات مجموعة “واتساب” تتغلغل في حياتهم مثل عشبة العقدة اليابانية خلال جائحة كوفيد-19؛ حيث ويقول الدكتور تالي غازيت، المحاضر في علوم المعلومات في جامعة بار إيلان: “لقد عزز كوفيد أهمية تطبيق “واتساب”. فلم نكن قادرين على مغادرة منازلنا، ولكن يمكن أن يكون لدينا مجتمعات داخل هواتفنا”.
لكن بمجرد أن تلاشت سحابة الوباء؛ أخذت المحادثات دورًا مختلفًا، فخلال الإغلاق الأول، أنشأت أمل، البالغة من العمر 21 سنة، وهي مساعدة للبيع بالتجزئة من برمنغهام، مجموعة “واتساب” تضم 12 شخصًا من أصدقائها في الكلية، وتقول إنه “بعد أن عادت الأمور إلى طبيعتها، توقف أعضاء المجموعة عن الدردشة؛ حيث عاد الجميع إلى الانشغال، ولكن كان هناك شخصان في المجموعة لم يتمكنا من التعامل مع الأمر، فقد كانت المجموعة تعني لهم كثيرا”.
تقول أمل إن هؤلاء الأصدقاء أصبحوا مهتمين بها واستمروا في تغيير اسم مجموعة الدردشة إلى “مرحبا أمل” أو “اشتقنا لك أمل” في محاولة لجذب انتباهها. في البداية، وجدت أمل التغييرات مضحكة، وإن كانت غريبة، لكن بعد ذلك “جاءوا إلى مكان عملي”، على حد تعبيرها، وسألوها عما إذا كانت تريد الخروج لاحتساء مشروب.
وأوضحت أمل أن ” الأمر كان محيرًا، فلم أتحدث معهم كما ينبغي منذ أسابيع”. لذلك رفضت أمل الخروج معهم، وغادرت مجموعة “واتساب” بعد ذلك بوقت قصير. عندما تفكر في هذه التجربة، فإن ما تراه هو “إحساس بالاستحقاق. لدى الناس تفسيرات مختلفة لما يعنيه التواصل، فضلًا عن توقعاتهم بشأن التواصل عبر مجموعة “واتساب””.
ويقول سيمور إن “واتساب” يسبب الإدمان مثل منصات التواصل الاجتماعي الأخرى مثل “فيس بوك” أو “تويتر”. ونوه بأن “أحد الأشياء المشتركة بين “واتساب” وهذه المنصات هو الزوال، مما يعني أنه يتعين عليك الاستجابة بسرعة. وإلا لن يتم ملاحظة ما ستقوله في الرسائل المتدفقة، لا سيما مع المحادثات السريعة؛ حيث إن “الضغط الناجم عن الحاجة للاستجابة بسرعة وبإيجاز، وكذلك أن تكون خفيف الظل، وأن تتباهى وأن تستعرض – هو ضغط قوي جدًا”.
ويستشهد سيمور بمفهوم عالمة الأنثروبولوجيا ناتاشا داو شول عن “مَنْطَقَة الآلة”، وهي حالة تشبه التخدر لوحظت في مقامري الكازينو الذين ينبهرون بطنين ووميض آلات القمار؛ حيث يقول سيمور: “تنظم هذه الآلات مشاعرك وتعطيك خسائر في شكل مكاسب”، مضيفًا: “إن واتساب يقوم بأمر مشابه”.
يكافئ كل إشعار المستخدمين بارتفاع صغير في الدوبامين، مما يعيدنا إلى هواتفنا الذكية، غافلين عن انقضاء الوقت، ويضيف سيمور: “كل هذه المنصات تتمحور حول مشاركة المستخدم لتعظيم إنتاج البيانات”، موضحًا: “يريد الواتساب منك تسجيل الدخول عليه باستمرار. حتى لو كانت الخسارة هي قضائك معظم يومك في هذه الحالة المشتتة، فكر في المتع أو الملذات الأخرى التي يمكن أن تتمتع بها في حياتك”.
يمكن أن تجعلك محاولة انتزاع نفسك من مجموعات الدردشة هذه تشعر وكأنك في تصفح يشبه المستنقع الضحل والخبيث في نفس الوقت: في كل مرة تحاول فيها أن تنأى بنفسك بعيدًا، يتم طرحك أرضًا/ تنتصر عليك الإشعارات. وتوضح غازيت أن هذا مشابه لظاهرة العالم الحقيقي: الخوف من أن يفوتك شيء.
وتقول: “نحن نعلم أن هذا مؤذي. أنت على علم دائم بما يحدث حولك، ولفترة وجيزة قد يقلل هذا من قلقك الاجتماعي، ولكن على المدى الطويل، فإن قلقك لن ينفك عن الازدياد. ويبدو أن ميتا “الشركة الأم لواتساب” تعرف ذلك، ولهذا السبب يستخدمون التنبيهات، لأنها تغذي خوفنا من أن يفوتنا شيء “فومو””.
تقول إيرين وهي محللة تسويق تبلغ من العمر 41 سنة من لندن: “لقد أصبح انتباهنا مشابهًا لانتباه الذبابة”. موضحة: “إن قضاء بعض الوقت في الدردشة ممتع، ولكن عندما تحاول إنجاز بعض المهام، يبدو الأمر مثل: “يا صاح، اتركني وشأني! “هذا مجرد تشوش ذهني. ومدخلات لن تفيد في شيء”.
في سنة 2019، سألت صديقة إيرين عما إذا كانت إيرين مستعدة لتنسيق مجموعة واتساب تضم 80 شخصًا نيابة عنها؛ حيث تألفت المجموعة من أشخاص من ألمانيا والمملكة المتحدة، وجميعهم حضروا حفل زفاف تلك الصديقة، وتتذكر إيرين أن صديقتها قالت: “هل يمكنك التأكد من أنه إذا تحدث الناس عن الهدايا، فلن تتشابه الأفكار؟ وهل يمكنك أيضًا التأكد من أن الناس لا يخططون لأي ألعاب سخيفة، لأننا نكره هذا؟”.
رفضت إيرين في جزع؛ حيث تقول: “فكرت: لا أدرك كيفية القيام بذلك. هذا سوف يقتلني. مجرد التواجد في مجموعة واتساب سيقتلني. وفوق ذلك يجب أن أكون المشرفة والرقيبة؟” كانت صديقتها مستاءة، فيما قالت إيرين: “أعتقد أنها كانت غاضبة جدًا مني”، مضيفة: “لكن لا بأس، في نهاية المطاف، لم يؤثر هذا في صداقتنا. لكنني أظن أنها اعتقدت أن هذا بمثابة خدمة يجب على أن أقدمها من أجلها. لكني لم أشعر أنني أستطيع القيام ذلك”.
إيرين، على الأقل، كانت لديها الشجاعة لرفض طلب صديقتها بصراحة. لكن بالنسبة لكلوديا، وهي والدة تبلغ من العمر 32 سنة من كينت، لم يكن في استطاعتها أن تكون بهذه الصراحة، فقد انضمت إلى مجموعة دردشة للأمهات التقت بهم خلال فصل ما قبل الولادة أثناء حملها بطفلها الأول في سنة 2014، لكنها سرعان ما وجدت المجموعة مزعجة. تقول: “كان يوجد بعض من المنافسة هناك، عندما تقول أحداهن أنها تكافح من أجل الرضاعة الطبيعية، كانت ترد سيدة أخرى بفخر وتقول: “أجد الأمر سهلًا للغاية”.
نظرًا لأن كلوديا لم تشعر أن باستطاعتها مغادرة المجموعة ببساطة دون التسبب بإحراج اجتماعي، فقد أخبرت الجميع أنها ستترك المجموعة لأن متلازمة “عسر القراءة” التي تعاني منها تجعل من المستحيل عليها مواكبة جميع الرسائل، والحقيقة أن كلوديا ليست مصابة بعسر القراءة؛ حيث تقول باعتذار: “أنا أكره المواجهة”.
لهذا يشكل النفاق في المواقف الاجتماعية عبئًا كبيرًا، ولهذا السبب ترحب غازيت بميزة واتساب الجديدة، وتقول: “كان ينبغي أن يكون واضحًا منذ البداية أن إخطار الناس عندما يغادر شخص ما مجموعة يضر بخصوصيتهم”. وتضيف: “لأن الجميع يمكنهم رؤيتك تغادر المجموعة، مما يجعل العديد من الناس يفضلون عدم المغادرة، لأنهم يشعرون أن هذا يخلق التساؤلات من حولهم”. بالنسبة لأولئك الذين يسعون للخروج من مجموعة يكثر فيها الجدال دون تداعيات اجتماعية، تنصح غازيت: “بأنه إذا كان بإمكانك مغادرة المجموعة بهدوء، فهذا الخيار الأفضل”. يقترح سيمور على المستخدمين الذين ما زالوا يغلقون إشعارات محادثات واتساب الخاصة بهم. بأن: “يتفقدوها من حين لآخر، ولا يأخذوا الأمر على محمل الجد. يمكنهم رفض الرد على الرسائل التي تشبه الفخاخ”.
لا يجب أن ننسى أنه إذا تم استخدام واتساب باعتدال، يمكن أن يلعب دورًا إيجابيًّا في ربط الناس؛ حيث تقول غازيت: “أصبح العالم أكثر عزلة، ويمكن أن تكون المجتمعات الافتراضية حلولًا للوحدة التي يشعر بها الناس”، ويُظهر بحثها أن أولئك الذين ينتمون إلى مجموعات واتساب العائلية يتمتعون عادةً برفاه أفضل من أولئك الذين لا ينتمون إلى مجموعة. وهي نفسها مستخدم متحمس للوتساب؛ حيث تقول غازيت: “أنا عضو في مجموعة واتساب من الأمهات حديثي الولادة؛ وبينما لا أعرفهم شخصيًا، إلا أننا نناقش قضية كوننا أمهات جدد، فهم يدعمونني عندما أحتاج، ونتبادل المعلومات. وهو أمر رائع، لذا يمكن أن تكون المجموعات الافتراضية فعالة جدًا”.
وبالطبع، فهي مفيدة للغاية؛ حيث تقول إيرين: “إذا كان هناك أمر يحتاج إلى التنسيق، أقوم بإنشاء مجموعة واتساب لهذا السبب المحدد. لكنني أقوم بحذفه بعد ذلك. حسنًا، لقد أعددنا لنهاية الأسبوع هذه. عطلة نهاية الأسبوع قد انتهت! وداعا للمجموعة”.
ويحث سيمور المستخدمين على ترك هواتفهم والخروج إلى العالم الحقيقي؛ حيث يقول: “تخلق هذه المنصات علاقة تآلف زائفة؛ قد تشعر وكأنك تتحدث إلى أصدقائك، لكن هذه ليست الحقيقة على الإطلاق. أنت تتحدث إلى آلة. تأخذ الآلة نسخة من رسالتك، وتمررها، ويكون لديك محادثة حول شروط استخدام تلك الآلة. ربما يرغب الناس في التفكير في الانسحاب من عملية التبادل هذه، واستخدامها فقط عندما يريدون ويحتاجون إلى ذلك. استخدم واتساب للمحادثات الشخصية ومواكبة الأصدقاء. لكن لا تدعه يدمر حياتك”.
لأنه على الرغم من أنه يمكن أن تبدو محادثات مجموعات الواتساب بدائل للتواصل البشري، إلا أن ما نقوم به حقًا هو صفع المحادثات كما لو كانت تسدد لنا بواسطة آلة قذف كرات التنس. هي تطلق، ونحن نستجيب، وتمر الساعات. ليس علينا الانخراط مع هذه الأجهزة التي تلتهم الانتباه. يمكننا – جميعًا – ببساطة أن نضع مضاربنا ونبتعد.
المصدر: الغارديان