ترجمة وتحرير: نون بوست
في أواخر خمسينيات القرن الخامس عشر؛ أثناء تقييم للشؤون الأوروبية، أعربت ملكة إنجلترا التي تعرف باسم إليزابيث عن قلقها من التخلف عن الركب في سباق جديد يحتدم بين جيران بلدها في القارة: بشأن بناء إمبراطورية بعيدة.
كان البرتغاليون والإسبان قد فرضوا هيمنتهم بشكل مبكر في العديد من المناطق، وفتح البرتغاليين الطريق للكثير من البلدان وكسبوا ثروات من التجارة مع غرب إفريقيا مقابل الذهب بداية من أواخر القرن الخامس عشر قبل إتقان صيغة ثورية ربطت بين الزراعة والعبودية القائمة على العرق لإنتاج سلع استوائية في ساو تومي الصغيرة، وسرعان ما هيمن نموذجهم، القائم على زراعة السكر وتجارة العبيد الأفارقة المستعبدين على الحياة الاقتصادية في المحيط الأطلسي لقرون، مما ساعد في نمو الاقتصادات الأوروبية ودفع صعود الغرب فوق ما يسمى باقي الدول.
كان تاريخ إنجلترا الإمبراطوري حتى عهد الملكة إليزابيث الأولى يقتصر في الغالب على السيطرة على جارتها أيرلندا لكن الملكة التي نربط عصرها في الغالب بالمؤلف ويليام شكسبير كان تتوق إلى مرحلة أكبر بكثير، وشجعت طبقة النبلاء وكذلك القراصنة مثل جون هوكينز على الخروج إلى ما وراء البحار الإنجليزية لمداهمة السفن البرتغالية والإسبانية للحصول على غنائم الذهب والعبيد الذين جلبوهم من الساحل الغربي لأفريقيا.
وبذلك؛ أرست إليزابيث الأولى الأسس المبكرة لما سيصبح في النهاية الإمبراطورية البريطانية، زواصل خلفاؤها جهودها مع تشكيل “شركة المغامرين التجاريين للندن” سنة1631، وكانت المغامرة تعني البحث من خلال استخدام أساليب عنيفة عن الذهب والعبيد في المناطق الاستوائية. لم يمض وقت طويل، حتى تم تغيير اسم الشركة بطريقة كشفت الغموض الذي يحوم حول الهدف الجغرافي الرئيسي للشركة حيث باتت تسمى شركة المغامرين الملكيين للتجارة في إفريقيا وتمكنت من احتكار التجارة المربحة في تلك القارة لمدة ألف سنة.
في ذلك العقد نفسه، كما جادلت في كتابي “وُلد في السواد: إفريقيا والأفارقة وصناعة العالم الحديث، 1471 حتى الحرب العالمية الثانية”، تبلور أهم عمل تأسيسي لبناء الإمبراطورية الإنجليزية في الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، حيث استعمر الإنجليز بربادوس، وهي جزيرة صغيرة في شرق البحر الكاريبي تبلغ حوالي ثلث مساحة لوس أنجلوس الحالية.
في باربادوس؛ طبق الإنجليز بسرعة النموذج الاقتصادي الذي لا يمكن الدفاع عنه أخلاقيًّا ولكنه لا يهزم اقتصاديًّا الذي ابتكره البرتغاليون مؤخرًا في ساو تومي. مكّن الاستبدال شبه الكامل للخدم البيض المستعبدين في منتصف القرن برجال ونساء مستعبدين تم جلبهم مكبلين من إفريقيا وأجبروا على العمل حتى الموت – تقريبًا مثل حجم الأشخاص المستعبدين الذين تم جلبهم إلى البر الرئيسي الأكبر لأمريكا الشمالية – من جعل زراعة السكر في بربادوس تجارة مربحة للغاية.
تهيمن أعمال النهب الشهيرة التي قام بها الغزاة الإسبان ضد الحضارات الأمريكية الأصلية العظيمة مثل الإنكا والأزتيك على القصص المبكرة لإمبراطورية العالم الجديد الأوروبية التي يتم تدريسها بشكل شائع في المدارس الغربي؛، حيث كانت تملأ السفن الشراعية بكميات مذهلة من الفضة والذهب. كما أثبت الإنجليز في باربادوس أنهم قادرون على جني أموال هائلة من الزراعة التي نمت بفضل الأفارقة المستعبدين، بدءًا من منطقة البحر الكاريبي.
وصل الأمر إلى أن العبودية كانت معلمًا واضحًا في الاحتفالات الممتعة والتي لا نهاية لها على ما يبدو بحياة الملكة الإنجليزية الثانية التي تحمل اسم إليزابيث
نظرًا لضخامة الفظائع التي لحقت بالسود في منطقة البحر الكاريبي من خلال العبودية؛ فضل البريطانيون تقليديًّا التفكير في أن إمبراطوريتهم كانت لها جذور عميقة في الهند. ولكن منذ فترة طويلة قبل الراج، كانت هذه المنطقة، ما يسمى بجزر الهند الغربية، هي التي ستشهد تعاقب أغنى المستعمرات في التاريخ الاقتصادي. وبلغت ذروتها في المستعمرة الفرنسية في سان دومينغو؛ حيث أسفرت انتفاضة الأفارقة التي اندلعت في سنة 1791 في نهاية المطاف عن تحرير العبيد وولادة ثاني أقدم جمهورية في الأمريكتين، والتي أطلقوا عليها اسم هاييتي.
لطالما كان هناك إنكار تاريخي في أوروبا وبريطانيا – على حد سواء – حول أهمية العبودية لظهور تلك القارة في العصر الحديث باعتبارها أغنى وأقوى منطقة في العالم. من هنا؛ كانوا يسعون لنشر قصص تقول إن التجارة في العبيد نفسها لم تكن أبدًا عملًا مربحًا للغاية وأن زراعة المزارع كانت ذات أهمية محدودة جدًا لنجاح أوروبا.
هناك العديد من الأسباب التي تجعل هذا يبدو سخيفًا في ظاهره. ففي الواقع أرسل الزعيم الفرنسي السابق نابليون بونابرت أكبر حملة بحرية عبر المحيط الأطلسي كانت فرنسا قد شنتها على الإطلاق لقمع تمرد العبيد في مستعمرته المربحة في سان دومينيغو؛ حيث هُزمت قواته، ومع إدراك مزايا الفرصة التي مثلتها السيطرة على مجتمع العبيد هذا، حاولت إسبانيا بعد ذلك هزيمة أفارقة سان دومينيغو، لكنها لقيت المصير ذاته.
ثم نظمت بريطانيا، وهي الأعظم في ترتيب خلافة القوى الإمبريالية العظمى في ذلك العصر، أكبر حملة بحرية حتى تلك اللحظة في التاريخ في محاولة للاستيلاء على هذه الغنيمة التي لا يمكن تفويتها. وتعرضت القوات البريطانية أيضًا إلى هزيمة مخزية؛ حيث فقدت عددًا أكبر من الرجال مما خسروه في الثورة الأمريكية الشهيرة، وعلى الرغم من الأرواح التي أزهقتها، لم ترفع أي لافتات عسكرية مخصصة لذكراهم في أي مكان في بريطانيا، ولم تذكر معظم المدارس هناك هذا التاريخ على الإطلاق.
(بالطبع، لم تستسلم فرنسا بعد؛ فقد هُزمت بالفعل مرة أخرى عندما أرسل نابليون قوة استكشافية أخرى إلى سانت دومينغو على أمل إبقاء العبيد تحت الضغط. وبعد فترة وجيزة؛ أجبر الفرنسيون على إبرام صفقة لويزيانا مع حكومة الرئيس الأمريكي آنذاك توماس جيفرسون، وبذلك تضاعف نفوذ دولة الولايات المتحدة الفتية).
سيكون من المفيد أكثر إثبات أن الإمبراطورية البريطانية كانت لا تتورع عن أن تضرب عرض الحائط كل حقوق الأعراق أخرى.
ووصل الأمر إلى أن العبودية كانت معلمًا واضحًا في الاحتفالات الممتعة والتي لا نهاية لها على ما يبدو بحياة الملكة الإنجليزية الثانية التي تحمل اسم إليزابيث، فقد كان من الواضح أنها تولت رئاسة بلاد تشهد نهاية لإمبراطوريتها وموجة من إنهاء الاستعمار التي اندلعت في القرن العشرين. وبصفتي شخصًا أمضى حياته المهنية الطويلة في عالم المستعمر سابقًا وكتب الكثير عن العبودية وآثارها العديدة على العالم، فإن التسرع في تمرير تفاصيل الإمبراطورية وجذورها في الاستعباد والسيطرة واستغلال الموارد البشرية واستخراج الموارد الطبيعية شعرت بغرابة كبيرة.
على غرار كل قارئ لهذا المقال تقريبًا؛ فقد عشت في عهد الملكة إليزابيث الثانية، وليس من الصعب معرفة أن مظهرها الهادئ وثقتها بنفسها الشديدة مثلت قوة أساسية في عالم من التغيير المستمر والمربك في كثير من الأحيان، وأنا لا أقصد توجيه أي اتهامات لها بعد وفاتها، لكن مسألة قيام إمبراطوريتها – والإمبراطوريات بشكل عام – هي مسألة شائكة أخرى.
في الوقت الحاضر؛ يشعر الكثير من البريطانيين بالفخر لأن حكومتهم الجديدة قد وصلت إلى مستويات جديدة من التنوع العرقي والإثني، وهذا أمر جيد. لكن دعونا لا نسمح لهذا أو أي من الاحتفالات التي يجري تغذيتها بالقوة عبر التليفزيون أن تجعلنا ننسى أنه طوال تاريخها تقريبًا، كان نظام “الإمبراطورية” البريطانية مرآة تعكس الممارسات العنصرية العرقية والتي مثلت حجر الأساس في بنيانها.
دعونا أيضًا لا ننخدع بأي تعليق سطحي وضحل يسعى إلى ربط هذه الإمبراطورية (أو أي منها) بالديمقراطية؛ هناك كلمة إنجليزية ممتازة يمكن استخدامها لوصف هذه التعليقات وهي كلمة “بوبيكوك” التي تعني “الهراء”. يعتبر المسؤول الذي شعل منصب وزير الخزانة من حزب المحافظين في البلاد، خير تجسيد للتنوع العرقي الذي بات سمة للحكومة الجديدة، وهو كواسي كوارتنج؛ وهو طفل لمهاجرين قدموا في الستينيات من غانا، وهي مستعمرة بريطانية سابقة. في كتابه الصادر لسنة 2011، أشباح الإمبراطورية: الموروثات البريطانية في العالم الحديث، كان محقا عندما قال: ” كانت مفاهيم الديمقراطية بعيدة كل البعد عن أذهان المسؤولين الإمبرياليين أنفسهم. كان الفكر الطبقي يغذي أذهانهم ناهيك عن التفوق الفكري والأبوي”.
لكن كواسي كوارتنج كان لا يعرف ما كان ينتظره هناك عندما وصف الإمبراطورية البريطانية بأنها مثال على “النظام السلطوي الحميد“، وهي المسألة التي كنت أختلف معه بشأنها، فقد تواصلت هذه الأسطورة التي تخدم مصالح بريطانيا تبقى في الغالب نتيجة تعمد تجاهل الكثير من الحقائق. طوال الجزء الأكبر من تاريخها، فإن ما هو واضح وجلي أن هذه الإمبراطورية، التي ولدت من رحم العبودية، لم تعترف يومًا بحقوق الإنسان ولا بالديمقراطية.
أكتب كثيرًا عن إفريقيا ويمكنني ملء هذه الحجة بالعديد من الأمثلة من تلك القارة لدعم فرضيتي. على الرغم من ذلك؛ سيكون من المفيد أكثر إثبات أن الإمبراطورية البريطانية كانت لا تتورع عن أن تضرب عرض الحائط كل حقوق الأعراق أخرى. على سبيل المثال، أتساءل ماذا سيقول كورتنج عن سياسة الاتجار بالمخدرات البريطانية المطولة التي تهدف إلى موازنة تجارتها وتوسيع هيمنتها على الصين من خلال الانتشار العسكري لتجارة الأفيون؟
يساعد كتابان مهمان في توضيح هذه النقطة، أحدهما كلاسيكي والآخر حديث، ففي كتابه الملحمي الرائد في سنة 2000، الذي كان بعنوان “الهولوكوست في العصر الفيكتوري المتأخر: مجاعات النينيو وصنع العالم الثالث”، وثق المؤرخ مايك ديفيس كيف استغلت بريطانيا سلسلة من موجات الجفاف العالمية التاريخية في أواخر القرن التاسع عشر لتعزيز برنامجها للتوسع الإقليمي والسيطرة السياسية على العديد من الشعوب النائية.
خلال رحلاتها العديدة، تجسدت وساعدت إليزابيث الثانية باقتدار في الترويج لبلادها ونظامها دون أن تنتقد أو تعتذر أبدًا عن أي جانب من جوانب ماضيها
كانت الهند هدفًا خاصًا، حيث أشرف المسؤولون الاستعماريون البريطانيون الأقوياء، مثل روبرت بولوير ليتون وفيكتور بروس (الذي يعرف باسم اللورد إلجين)، بشكل سري على تصدير المواد الغذائية على نطاق واسع وزيادة الضرائب المحلية لتمويل الحروب في مناطق مثل أفغانستان وجنوب إفريقيا التي شهدت سلسلة من المجاعات المدمرة غير المسبوقة. وطوال الوقت، قام المسؤولون الاستعماريون بتدمير برامج الإغاثة التي كانت تستهدف الفقراء، الذين كانوا يحتقرونهم باعتبارهم من الطبقات التي تشكل عبئًا اجتماعيًّا واقتصاديًّا، وفيما يتعلق باولئك المعارضين لتقديم المساعدات الإنسانية، ادعى الكثيرون أنها تساعد على جعل الفلاحين الفقراء كسالى.
ربما تكون الجملة الأكثر إدانة على الإطلاق في كتاب يرقى إلى مستوى لائحة اتهام ساحقة وموثقة بدقة هي: “إذا كان تاريخ الحكم البريطاني في الهند سيختصر في حقيقة واحدة ، فهي: دخل الفرد في الهند من 1757 إلى 1947″.
يسلط الكتاب الأحدث لأستاذة الدراسات الأفريقية: كارولين إلكينز الذي كان بعنوان ميراث العنف: تاريخ الإمبراطورية البريطانية – والذي كتبت عنه سابقًا – الضوء على القرن العشرين، بما في ذلك العديد من الأعمال البربرية الإمبراطورية التي حدثت في عهد إليزابيث الثانية. وتشمل هذه الحملة لإخضاع قبيلة كيكويو العرقية في كينيا من خلال طرد أعضائها من أفضل الأراضي الزراعية في البلاد واحتجاز أكثر من مليون شخص في “أكبر أرخبيل من معسكرات الاعتقال والسجون في تاريخ الإمبراطورية البريطانية”.
إن أكثر ما يثير الانتباه حول كتاب إلكينز الجديد هو الطريقة المقنعة التي تظهر بها أن مثل هذه الإجراءات في كينيا كانت نتاج فترة طويلة من تجارب أساليب القمع الوحشي، يتورط فيه المسؤولين الاستعماريين ذاتهم الذين انتقلوا من مستعمرة إلى أخرى خلال أواخر القرنين التاسع عشر والعشرين؛ مثل الهند، جامايكا، وجنوب أفريقيا، وفلسطين، ومالايا البريطانية، قبرص، ومستعمرة عدن في اليمن الحالية، وغيرها، وهو ما يكشف تجديدها وإتقانها لتقنياتها القائمة على استخدام العنف، وتجريم المقاومة بطرق تعكس التحسن المطرد لنموذج الاستعمار البرتغالي القائم على الرق عند انتقلت من سان تومي إلى البرازيل ومن هناك إلى الشمال عبر قوس منطقة البحر الكاريبي ثم إلى الجنوب الأمريكي.
وكما يقول العديد من المعجبين بها؛ صحيح أن إليزابيث، على عكس أول ملكة إنجليزية تحمل هذا الاسم، لم تكن لها أي سلطة في تسيير شؤون الدولة، لكن خلال رحلاتها العديدة، تجسدت وساعدت باقتدار في الترويج لبلادها ونظامها دون أن تنتقد أو تعتذر أبدًا عن أي جانب من جوانب ماضيها. من الواضح أن العالم قد تخلص تقريبًا من الاستعمار خلال فترة حكم إليزابيث الثانية وأن عددًا كبيرًا من المستعمرات السابقة أصبحت دولًا ديمقراطية مستقلة، والتي تحترم حقوق مواطنيها إلى حد ما.
ولكن مضى وقت طويل على الوقت الذي يجب أن يتظاهر فيه العالم بأن ما وصلت إليه تلك البلدان المستعمرة السابقة يرجع إلى أن الحكم البريطاني كان حميدًا أو أن الحقوق التي اكتسبتها الرعايا الاستعمارية في لندن يعود الفضل فيها لأهداف “الإمبراطورية” الحقيقية.
المصدر: فورين بوليسي