ترجمة وتحرير: نون بوست
بدأت جينيفر بوسيلوت حصادا صيفيًا مضنيا لمحصولها المتنوع المزروع على قطعة أرض مساحتها 576 قدمًا مربعا جمعت منه ما يزيد عن 200 رطل – يشمل الخيار والفلفل والطماطم والريحان – علما بأن موسم الزراعة لم يقترب من نهايته بعد. لكن صاحبة هذا النجاح الباهر ليست فلاحة وإنما عالمة نبات في جامعة ولاية كولورادو، وقطعة الأرض التي زرعتها في الواقع معلّقة فوق مبنى بالقرب من مجمع كولوسيوم دنفر، وهي مخصصة لأبحاث بوسيلوت التجارية في مجال علمي صاعد ألا وهو الزراعة على الأسطح.
حسب البنك الدولي، من المتوقع أن يتضاعف عدد سكان المدن في العقود الثلاثة المقبلة بسبب تواصل انتقال المزيد من الناس إلى المدن الكبرى. ويبحث علماء مثل بوسيلوت في كيفية قيام المصممين والمخططين بإضفاء الطابع الريفي على المدن وتخضير الأسطح والأراضي الخالية. ويُعرف هذا المفهوم باسم “التخضير”، وقد يكون له تأثير إيجابي على مسألة تضخم عدد سكان المدن، من إضفاء البعد الجمالي على المشهد الحضري إلى إنتاج المزيد من الأغذية المحلية. ومن خلال التخضير يمكن الاستغناء عن ثنائية “المدينة مقابل الريف” ودمج كليهما بطرق مدروسة وذات مغزى. ومن جهتها، تقول بوسيلوت: “لستَ مضطرًا لاعتبار هذا على أنه فصل بين المدينة والريف، ما يجب أن نركز عليه على الأرجح هو الاستدامة بشكل عام”.
توضح جيسيكا ديفيز، وهي الباحثة الرئيسية في مشروع الثورة الحضرية في جامعة لانكستر، أن “فكرة التخضير هي: حسنًا، إذا مزجنا هذا قليلاً فربما يمكننا تحقيق فوائد على كلا الجانبين، وإذا أحضرنا بعضًا مما نزرعه بالقرب من المكان الذي نعيش فيه فهل يمكننا تعزيز ارتباطنا بالطعام؟ وهل يمكننا جعل الطعام في متناول اليد؟ هل يمكننا تحسين النظم البيئية المحلية؟”.
بدأت الأبحاث الحديثة في تقديم بيانات حول مدى نجاح الزراعة الحضرية الموجهة نحو توفير الطعام. قامت ورقة بحثية مراجعة نشرها الشهر الماضي باحثون في مشروع الثورة الحضرية بمسح الدراسات السابقة وتوصلت إلى أن المحاصيل الزراعية الحضرية (بما في ذلك عمليات الزراعة الخارجية والداخلية) كانت في المتوسط على قدم المساواة أو أعلى من تلك الموجودة في المزارع العادية. لكن إنتاج بعض المحاصيل، مثل الخس والدرنات والخيار، كان أعلى بأربعة أضعاف مقارنة بما يُزرع في المدن. وقد قام فريق منفصل من العلماء في أستراليا بفحص 13 مزرعة شعبية حضرية لمدة سنة ووجدوا أن إنتاج محاصيلها يبلغ ضعف إنتاج مزارع الخضروات التجارية العادية.
لكن هذه الإنتاجية في الواقع تأتي جزئيًا من نتاج العمل البشري المكثف. ففي المزرعة التجارية، عادة ما يتم زراعة المحاصيل واحدًا تلو الآخر ويتم الاعتناء بها باستخدام معدات متخصصة – فلا يمكن زراعة القمح والجزر في نفس الحقل لأنها تُحصد بطرق مختلفة تمامًا. ويجب أيضا أن تكون المحاصيل متباعدة لإفساح المجال للمكان الذي تمر عبره المعدات مما يقلل من مساحة الأرض المنتجة بشكل فعلي.
في المقابل، يمكن للمزرعة الحضرية أن تحتوي على جميع أنواع المحاصيل المزروعة بشكل متقارب لأنها تُحصد يدويًا. وهذا من العوامل التي تجعل حديقة بوسيلوت الصغيرة على السطح في دنفر منتجة بدرجة كبيرة. كما يعني هذا التنوع في المحاصيل أنه يمكن حصاد نباتات مختلفة في أوقات مختلفة – مثل الطماطم في شهر آب/ أغسطس، والقرع في شهر تشرين الأول/ أكتوبر – مما يؤدي إلى توزيع إمدادات الغذاء على نطاق أوسع. ومع أن بوسيلوت قد حصدت بالفعل أكثر من 200 رطل من الطعام إلا أنه لا يزال أمامها شهران آخران من الحصاد.
تتطلب هذه المزارع عملاً بشريًا بدلاً من الآلة. ومع أنه قد يكون للزراعة الحضرية عائد أعلى من الزراعة التقليدية، إلا أنها ليست بالضرورة بنفس الكفاءة. ويؤكد روبرت ماكدوغال، عالم الزراعة في شركة الأبحاث المستقلة “سيزار أستراليا”، الذي قام بتنفيذ الدراسة الأسترالية: “عدم الكفاءة يمكن أن يتغير بسهولة، والأشخاص الذين شملتهم الدراسة كانوا يمارسون الزراعة الحضرية في الغالب لأغراض ترفيهية، وبالتالي لم يكونوا مهتمين حقًا بالعمل بكفاءة قدر الإمكان. ولم يكونوا بالضرورة يستخدمون مصادر المواد الأكثر كفاءة”.
نظريًا، يجب أن تعمل الزراعة الحضرية أيضًا على تقليل بعض الانبعاثات المرتبطة بالزراعة التقليدية، التي تستخدم آلات توليد الكربون وتتطلب شحن الطعام لمسافات طويلة للعملاء
خذ الماء على سبيل المثال: صُمّمت المدن حاليًا حتى تكون مضادة لمياه الأمطار مما يؤدي إلى جفافها بسرعة في الشوارع لحماية الطرق والمباني من الفيضانات. لكن بعض المناطق الحضرية تتحول الآن إلى “مدن إسفنجية”، أي أنها مصممة لامتصاص المطر بأمان وتخزينه لاستخدامه لاحقًا. وفي مدينة لوس أنجلوس، مثلا، يقوم المسؤولون بتجربة المساحات الخضراء على جانب الطريق، حيث تتسرب المياه تحت الأرض وفي صهاريج التخزين. يمكن لمدن المستقبل الخضراء الاستفادة من مصدر المياه هذا لزراعة الغذاء، كما يمكن أن تعمل الحدائق مثل الإسفنج حيث تجمع مياه الأمطار لمنع الفيضانات المحلية.
ومن شأن برامج التسميد التابعة للبلديات أن تقدم للمزارعين في المناطق الحضرية الغطاء العضوي حتى لا يضطروا إلى الاعتماد على الأسمدة الاصطناعية التي تضر بالبيئة. وحيال هذا الشأن، يقول ماكدوغال: “لو كان البستانيون الذين درستهم قد استغلوا هذه المصادر المتنوعة للمواد التي كانت متاحة في البيئة المحيطة بهم لأمكنهم تنفيذ أعمالهم الزراعية بشكل أكثر استدامة.” وقد وجد ماكدوغال أن المزارع الحضرية تجذب مجموعة من الملقّحات مثل النحل. وتساعد هذه الحشرات، إلى جانب بعض الملقحات الأخرى مثل الطيور، في تعزيز التنوع البيولوجي.
تحتاج المدن أيضًا إلى جميع المساحات الخضراء الممكنة لمواجهة “تأثير حرارة الجزيرة الحضرية”، أو الميل إلى البيئة المصممة لامتصاص طاقة الشمس أكثر مما تفعله المتنزهات والغابات. ويمكن أن تكون درجات الحرارة في المناطق الحضرية أكثر سخونة بمقدار 20 درجة فهرنهايت من المناطق الريفية المحيطة بها حيث تطلق النباتات الكثيفة بخار الماء – مما يؤدي إلى تبريد المنطقة بما أن النباتات تتعرق بطبيعتها. وسيساعد توطين المزيد من الغطاء النباتي في المدن على تلطيف الأجواء وإنقاذ الأرواح خلال موجات الحر القاسي.
يمكن للزراعة الحضرية أن تساعد في عزل المدن الفردية ضد الصدمات الغذائية، عند فقدان محصول معين منتَج بكميات كبيرة – وهو أمر مرجح بشكل متزايد لأن تغير المناخ يؤدي إلى موجات جفاف أطول وأكثر حدة. ويقول عالِم البيئة فلوريان باين، الذي ألف ورقة المراجعة حول الإنتاجية – حاليا في الكلية الريفية في اسكتلندا، لكنه أجرى البحث أثناء وجوده في جامعة لانكستر: “هناك اعتماد بدرجة أقل على سلاسل التوريد المعولمة. لذا ربما تكون أقل عرضة لجميع العوامل المختلفة مثل التي رأيناها مع كوفيد، أو مع تغير المناخ، ويمكن أن يؤثر ذلك على سلسلة التوريد”.
نظريًا، يجب أن تعمل الزراعة الحضرية أيضًا على تقليل بعض الانبعاثات المرتبطة بالزراعة التقليدية، التي تستخدم آلات توليد الكربون وتتطلب شحن الطعام لمسافات طويلة للعملاء. ويقول باين إنه لا يوجد الكثير من البيانات لدعم ذلك حتى الآن: “والأدلة حتى الآن ليست قاطعة حقًا حول ما إذا كان الإنتاج في المناطق الحضرية لسكان المدن مرتبطًا بالفعل ببصمة كربونية أقل من الإنتاج الريفي. وهذا يعتمد على حقيقة أن هناك العديد من الطرق المختلفة لإنتاج الطعام، والكثير من وسائل النقل المختلفة. فإنتاج القمح، مثلا، آلي للغاية ويعتمد على مركبات حصاد ضخمة. وتقطع المحاصيل المختلفة مسافات مختلفة للوصول إلى السوق”.
تركز هذه الحسابات في المقام الأول على انبعاثات الكربون من الآلات الثقيلة والشاحنات التي تنقل الطعام لمسافات طويلة والشحن. لكن إليزابيث ساوين، مؤسسة ومديرة معهد “مالتيسولفينغ”، الذي يروج للتدخلات التي تحل مشاكل متعددة في وقت واحد، ترى إضافة المزارع كطريقة لطرح مصدر آخر للانبعاثات ألا وهو السيارات. وهي تقول: “لا يجب التقليل من شأن المساحات المخصصة للسيارات، مثل الطرق السريعة أو مواقف السيارات. وبينما نفتح مساحة أكبر للعيش مع النقل العام والإسكان الكثيف، يمكن بدلا من ذلك تحويلها إلى مساحة لزراعة الطعام. فمحو الأسفلت وزرع البذور من شأنه أن يحول المدن من أنظمة تركز على السيارات إلى أنظمة تركز على الناس”.
في دنفر، تقوم بوسيلوت بتجربة الألواح الشمسية ليس فقط لزيادة الأمن الغذائي، وإنما أيضًا لأمن الطاقة. والفكرة المعروفة باسم “أغريفولتاكس” هي عبارة عن زراعة المحاصيل تحت الألواح الشمسية على الأسطح التي تولد طاقة مجانية وفيرة للمبنى تحتها. ويعمل السقف الأخضر أيضًا كعازل للهيكل، مما يقلل من احتياجات التبريد، في حين أن الظل الجزئي الذي توفره الألواح للنباتات يمكن أن يعزز الإنتاجية بشكل كبير. (كثرة الشمس ضارة بمحاصيل معينة، على سبيل المثال، وجد باحثون آخرون أن إنتاج الفلفل يكون أكثر بثلاثة أضعاف تحت الألواح الشمسية مقارنة بالشمس الكاملة). كما أن الجو أكثر دفئا على السطح، وقد شهدت بوسيلوت نمو الطماطم بشكل أسرع، لتصل إلى مرحلة الحصاد في وقت أقصر.
يمكن أن تتضمن التطورات الجديدة جعل أسطح المنازل تعمل بالطاقة الشمسية من البداية – سيكون لها تكاليف أولية أعلى ولكنها تنتج طاقة مجانية وطعامًا للبيع على المدى الطويل.
يبدو أن سطح منزلها في دنفر يحمي محاصيلها من الفطريات المسببة للأمراض. وتقول بوسيلوت: “على السطح الأخضر، ونظرًا لظروف الرياح القوية والإشعاع الشمسي العالي، لدينا مشاكل قليلة جدًا مع ذلك. لذلك أعتقد أن هناك الكثير من الإمكانات لزراعة المحاصيل التي من شأنها أن تنتج أكثر، على الأرجح، على السطح مقابل نفس المكان على الأرض”.
ومع أن التعمير الحضري له فوائد مغرية، إلا أنه ينطوي على بعض التحديات الكامنة، وهي تكلفة بناء المزارع في المدن – سواء على أسطح المنازل أو على مستوى الأرض. وتعد العقارات الحضرية أغلى بكثير من الأراضي الريفية، لذا فإن البستانيين المجتمعيين يواجهون المستثمرين الذين يحاولون تحويل المساحات الفارغة إلى أموال – وحتى ضد مشاريع التطوير العقاري ميسورة التكلفة الهادفة إلى التخفيف من أزمات الإسكان الحادة في العديد من المدن. وعلى الرغم من أن العقارات الموجودة على الأسطح أقل قدرة على المنافسة، فلا يمكنك ببساطة زرع مجموعة من المحاصيل على الأسطح – تتطلب هذه المشاريع الهندسة لحساب الوزن الزائد ورطوبة التربة.
لكن جمال إعادة العمران هو أن الزراعة والمباني لا تضطر إلى التنافس على المساحة. الأراضي الحضرية محدودة، مما يعني أن المحاصيل عالية الإنتاجية وسريعة النمو والموفرة للمساحة تعمل بشكل رائع، وذلك على حد تعبير أناستاسيا كول بلاكياس، المؤسس المشارك ورئيس قسم التأثير في بروكلين جرانج، التي تدير أكبر مزارع تربة على الأسطح في العالم. وهي تقول: “مع ذلك، نحن نتعامل مع تصميم المزارع الحضرية الخاصة بنا، وكذلك تلك التي نبنيها للعملاء، مع مراعاة الطابع الفريد للمجتمع الذي نبنيه فيه، ويجب أن تغذي المزارع الحضرية المجتمعات الحضرية، وقد تختلف الممتلكات التي يقدّرها مجتمع ما عن مجتمع آخر حتى في نفس المدينة”.
في الحديقة الكبيرة التي يتم رعايتها يدويًا لا حاجة إلى مساحة كبيرة لإنتاج كمية هائلة من الطعام. ويمكن أن تتضمن التطورات الجديدة جعل أسطح المنازل تعمل بالطاقة الشمسية من البداية – سيكون لها تكاليف أولية أعلى ولكنها تنتج طاقة مجانية وطعامًا للبيع على المدى الطويل.
لا أحد يقترح أن الزراعة الحضرية ستوفر لسكان المدن 100 في المئة من احتياجاتهم الغذائية. وترى بوسيلوت ذلك على أنه تعاون مع المزارعين التجاريين الذين ينتجون حبوبًا مكثفة للأراضي، ويتم حصادها آليًا مثل الأرز والقمح، بينما يزرع البستانيون الحضريون خضروات كثيفة المغذيات، ويتم حصادها يدويًا مثل البقوليات – وهو ما يعني خلق فرص عمل وتقليل طول سلسلة التوريد للأغذية القابلة للتلف.
تقول ساوين إن ذلك سيوفر أيضًا شيئًا أقل قابلية للقياس الكمي من إنتاج المحاصيل، إنه إحساس متجدّد بالمجتمع، مضيفةً أن “مصدر التواصل المحلي سيتجاوز مجرد إنتاج الطعام. وعندئذٍ يكون لدى الأشخاص شبكات اجتماعية لكل شيء، بدءًا من مشاركة رعاية الأطفال إلى مشاركة الموارد وحتى مساعدة بعضهم البعض خلال الصدمات وزعزعة الاستقرار”.
المصدر: مجلة وايرد