لا حديث يعلو في الشوارع التونسية ومقاهي البلاد، على موضوع الهجرة أو ما يُطلق عليها هناك “الحرقة”، فالجميع يتحدث عن هذا الملف، منهم من يتلهف للذهاب ويحكي استعداداته، ومنهم من يحكي قصصًا رواها أصدقاء سبقوهم في الذهاب للجانب الأوروبي، ومنهم من يتحسر على عدم قدرته على الحرقة إما بسبب نقص المال وإما لأسباب أخرى، وعدد قليل فقط من يحكي عن مخاطر هذه المغامرة التي راح ضحيتها مئات من شباب تونس.
أعداد كبيرة
هذه الجلسات الجانبية تأتي في وقت تنامت فيه ظاهرة الهجرة غير النظامية وازداد أعداد المهاجرين للدول الأوروبية بصورة كبيرة، فقد سجل المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية وصول أكثر من 13500 مهاجر غير نظامي تونسي إلى السواحل الإيطالية منذ بداية السنة الحالية.
يتوزع هؤلاء وفق المرصد الحقوقي بين أكثر من 2600 قاصر ونحو 640 امرأةً مع وجود تقديرات بمهاجرة أكثر من 500 عائلة، ويقول المرصد إنه سجل منع السلطات التونسية لأكثر من 23500 مهاجر غير نظامي من الوصول إلى السواحل الإيطالية من خلال إحباط أكثر من 1800 عملية اجتياز منذ بداية سنة 2022.
وفي آخر العمليات الأمنية، ليلة الثلاثاء، تمكن الحرس البحري في الساحل وفي الوسط والشمال من إحباط 34 عملية هجرة غير نظامية نحو إيطاليا وإنقاذ 554 شخصًا بينهم مهاجرون من بلدان إفريقيا جنوب الصحراء.
الأشهر الأخيرة، لم تعد الهجرة غير النظامية مقتصرةً على استعمال القوارب، للوصول إلى الدول الأوروبية، حيث ظهر أسلوبٌ جديد كان في بدايته سهل
قديمًا كانت “الحرقة” مقتصرة على الشباب العاطل عن العمل والمهمش الذي فقد الأمل في حياة كريمة بتونس، لكن الآن تغير الوضع، فأصبحت قوافل المهاجرين تضم عائلات بأكملها أي فيها الأب والأم والأبناء الصغار أيضًا.
ليس هذا فقط، حيث ضمت موجة الهجرة الأخيرة أصحاب شهادات عليا وأيضًا موظفين حكوميين، ذلك أن أغلبهم لم يعد يرى في تونس مكانًا يطيب فيه العيش لأسباب كثيرة منها الاقتصادي والحقوقي وغيرها من الأسباب التي يطول الحديث عنها.
وغالبًا ما نشاهد فيديوهات وصورًا تروج لعمليات “حرقة” منظمة على مواقع التواصل الاجتماعي، ما شكل حافزًا للعديد من الشباب المتردد في خوض هذه المغامرة الخطرة، ورصدنا في “نون بوست” توثيق لعمليات هجرة على متن قوارب.
وتعمد العديد من العائلات إلى بيع بعض أملاكها أو اقتراض أموال لتأمين سعر الرحلة والعبور إلى البلدان الأوروبية، وغالبًا ما تكون الوجهة النهائية فرنسا، للعديد من الأسباب منها عامل اللغة وأيضًا وجود أكبر جالية تونسية هناك.
طرقات “الحرقة”
يُعرّض العديد من الحارقين حياتهم للخطر، في ظل حالة اليأس التي وصلوا لها بعد تدهور الأوضاع في بلادهم، ذلك أن الوضع الاقتصادي في تأزم مستمر والجانب الاجتماعي أيضًا، ناهيك بالحريات التي شهدت تراجعًا كبيرًا في الأشهر الأخيرة التي أعقبت انقلاب قيس سعيد على دستور البلاد ومؤسسات الدولة الشرعية.
غالبًا ما يختار هؤلاء الهجرة عبر البحر الأبيض المتوسط، فهذا الخط هو الأبرز للحراقة، ويتجمع الحراقة في إحدى المدن الساحلية على غرار جرجيس والمهدية ونابل وبنزرت وقرقنة في انتظار ساعة الصفر التي تكون عادة في الليل أو فجرًا.
ينتظر الحراقة غياب الأمن عن المنطقة وهدوء البحر للانطلاق في المغامرة المحفوفة بالمخاطر، ويعبر معظم هؤلاء المهاجرين المتوسط بواسطة أدوات بالية وزوارق غير مهيأة لمثل تلك الرحلات، حيث يتكدسون في قوارب وسفن متهالكة تُستخدَم لمرة واحدة، وفي معظم الأحيان تتجاوز حمولتها أضعاف ما هو مقرر لها، ما يؤدي إلى جنوح وانقلاب هذه القوارب والسفن بحمولتها المتكدسة من البشر.
تتكلف هذه الرحلة 5 آلاف دينار تونسي (قرابة 1600 دولار)، يتم دفع المبلغ قبل الصعود إلى القارب، وهناك من يختار رحلة أكثر ترفًا وراحةً وتكون تكلفتها أكبر، حيث تبلغ 9 آلاف دينار تونسي (قرابة 2850 دولارًا)، ويمكن أن يرتفع السعر، حسب الطلب.
الرحلة الثانية تكون عبر قارب صيد، وتكون عادة من صياد وليس حراق، ويشارك فيها غالبًا من 6 إلى 8 أشخاص، يعبرون المتوسط على أساس أنهم يصطادون السمك، وعند الاقتراب من المدن الساحلية الإيطالية يواصلون طريقهم عبر قارب صغير ويعود الصياد أدراجه، دون سمك لكن مع مال وفير.
الأشهر الأخيرة، لم تعد الهجرة غير النظامية مقتصرة على استعمال القوارب، للوصول إلى الدول الأوروبية، حيث ظهر أسلوبٌ جديد كان في بدايته سهل، لكن مع تزايد عدد المهاجرين عبره، أصبح صعبًا وأكثر كلفةً.
يتمثل الطريق الجديد في الذهاب برحلة سياحية نحو تركيا في البداية، يقضي فيها الشاب بعض الأيام هناك ومن ثم يذهب إلى صربيا عبر الطائرة أيضًا، ومن ثم الاتجاه نحو مدينة سوبوتيتسا على الحدود الصربية المجرية.
يمكن أن يكون هناك خلل أو تقصير أمني أدى إلى هذا الأمر، لكن السبب الأبرز هو سعي السلطات التونسية بقيادة قيس سعيد إلى التنفيس قليلًا عن الشباب خوفًا من الاحتجاجات
هناك يختار المهاجر إما “التسليمة” أو “التقاطيع”، تتمثل الأولى في أخذ السيارة من سوبوتيتسا إلى داخل الحدود المجرية أو النمساوية، دون الاضطرار إلى السير أو الحجز في وسائل نقل جماعية، ويكون سعرها غالبًا قرابة 3 آلاف دولار.
أما “التقاطيع” فتكون أقل ثمنًا، إذ لا تتجاوز ألف دولار، وتتمثل في عبور الحدود إلى المجر عبر النهر والغابة، ومواصلة الطريق في وسائل النقل دون مساعدة المهربين الذين تنتهي مهمتهم عند الحدود المجرية.
يمكن أن يجتاز المهاجر الحدود الصربية المجرية في المرة الأولى ويمكن أن يتكرر الأمر أكثر من مرة، وعند الوصول إلى المجر، يتوجه الحراق عادة إلى إحدى المدن الكبرى وتكون غالبًا مدينة ساجد المجرية ومن هناك إلى بودابست.
بعد بودابست تكون الوجهة براتسلافا، ومن ثم بيريكلاف في جمهورية التشيك، ويكون ذلك عبر القطار، ومن ثم إلى العاصمة النمساوية فيينا، وهناك يعتبر المهاجر نفسه وصل إلى أوروبا وحقق حلمه، فحتى إن تم القبض عليه، فسيمنح ورقة تسمح له بالمغادرة في ظرف 10 أيام، وهي فترة ملائمة للذهاب إلى فرنسا.
التنفيس عن الشباب خوفًا من الاحتجاجات
يقول الأوروبيون إن ارتفاع عدد المهاجرين غير النظاميين عبر البحر المتوسط سببه خلل أمني، فالسلطات الأمنية التونسية، وفق الأوروبيين، لم تتمكن من السيطرة على الحدود ومنع الهجرة أو حتى خفض عددها رغم الاتفاقيات الأمنية المبرمة بين الطرفين.
وسجلت تونس في الأشهر الأخيرة، توافد العديد من المسؤوليين الأوروبيين، خاصة الماسكين بالملف الأمني وملف الهجرة، لبحث سبل التصدي للهجرة غير النظامية، إلا أن أعداد المهاجرين في ارتفاع متواصل.
يمكن أن يكون هناك خلل أو تقصير أمني أدى إلى هذا الأمر، لكن السبب الأبرز هو سعي السلطات التونسية بقيادة قيس سعيد إلى التنفيس قليلًا عن الشباب خوفًا من الاحتجاجات التي يمكن أن تحدث في البلاد، في ظل تأزم الأوضاع في تونس.
تخشى السلطات التونسية، المزيد من التضييق على الشباب وخنقه أكثر، فذلك يعني احتجاجات قوية يمكن أن تهدد مستقبل نظام قيس سعيد الذي يعمل على إرسائه بعد إقرار الدستور الجديد والسيطرة على مختلف المنظمات والمؤسسات في البلاد.
يرى النظام أن فتح الحدود أمام الشباب، يمكن أن يخفف الضغط عليه، فالوضع الداخلي لا يحتمل أكثر ومعرض للانفجار في أي وقت، فنسبة البطالة في تزايد، إذ تجاوزت 20.5% في صفوف النساء مقابل 13.1% عند الرجال خلال الثلث الثاني لعام 2022، بجانب تفاقم الفقر لدى الفئات الأكثر هشاشة في المجتمع على رأسها النساء.