أقرَّ الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، عقيدة جديدة للسياسة الخارجية تقوم على مبدأ “العالم الروسي”، وهي فكرة طالما استخدمها المحافظون لتبرير تدخلات الكرملين في البلدان التي يحتاج فيها السكان الناطقون بالروسية إلى الدعم.
في 5 سبتمبر/ أيلول الحالي، وقّع سيد الكرملين على مرسوم “السياسة الإنسانية”، الذي يهدف إلى “حماية وصون وتعزيز تقاليد ومُثُل العالم الروسي”، ورغم تقديم هذه السياسة الجديدة باعتبارها “قوة ناعمة”، إلا أنها تكرّس الأفكار التي استخدمها بعض المتطرفين لتبرير احتلال موسكو لأجزاء من أوكرانيا، وتقديم الدعم للمنطقتَين الانفصاليتَين المواليتَين لروسيا في شرق البلاد.
زيادة دعم الانفصال
طبقًا للمرسوم، فإن الجالية الروسية في الخارج هي من أكبر جاليات الشتات، حيث يعيش عشرات الملايين من المواطنين الروس خارج الاتحاد الروسي، لهذا يلتزم الكرملين بتقديم الدعم للروس الذين يعيشون في الخارج، لممارسة حقوقهم وضمان حماية مصالحهم والحفاظ على الهوية الثقافية لعموم روسيا.
كما يتعيّن على موسكو، وفقًا لنصّ المرسوم، تطوير علاقاتها مع المنطقتَين الجورجيتَين الانفصاليتَين أبخاسيا وأوسيتيا الجنوبية، وكذلك مع جمهوريتَي لوهانسك ودونيتسك الانفصاليتَين، اللتين أعلنتا “استقلالهما” من جانب واحد في شرق أوكرانيا.
عشية قيام الحرب في أوكرانيا، انطلقت شرارتها الأولى في موسكو عندما استقبل بوتين زعماء الانفصاليين الروس في شرق أوكرانيا، في 21 فبراير/ شباط الماضي، وبعدما ألقى خطابًا مطوّلًا لامَ فيه أوكرانيا والغرب بشأن تفاقم التوتر على الحدود بين بلاده وأوكرانيا، وقّع الرئيس الروسي مرسومَين يعترفان بقيام لوهانسك ودونيتسك كجمهوريتَين مستقلتَين عن كييف.
آلة الدعاية والحرب
هكذا تحرّكت الماكينة الدعائية الروسية لتبرير غزو أوكرانيا، الذي تسميه بـ”العملية العسكرية الخاصة لحماية الدونباس”، بأنه عمل دفاعي، وأن روسيا يجب أن تدافع عن نفسها بإزاحة “النازيين” في أوكرانيا، ووقف “الإبادة الجماعية” التي يشنّها نظام كييف ضد الروس الذين يشكّلون غالبية سكان منقطة الدونباس، التي تضمّ إقليمَي لوهانسك ودونيتسك.
كما ادّعت روسيا أن الغرب لم يترك لها أي خيار للدفاع عن شعبها سوى شنّ “عملية عسكرية”، إذ تحدثت عن التوسُّع شرقًا لكتلة الناتو، ما يجعل بنيته التحتية العسكرية أقرب إلى حدود روسيا، ما يعني أن آلة الحرب تتحرك مقتربة من الحدود، حسب ما روّجت له الدعاية الروسية.
الحرب على وشك أن تدخل شهرها السابع، ما يعني أن توقعات جنرالات الجيش الروسي قبل بداية الغزو لم تكن واقعية، عندما اعتقدوا أن الأمر كان يستدعي شنّ عملية عسكرية خاطفة، لإعادة أوكرانيا إلى نادي البلدان التي تدور في فلك موسكو.
علاوة على الأرواح البشرية التي أُزهقت من كلا الجانبَين، والدمار الهائل في أوكرانيا، وتحميل روسيا عقوبات اقتصادية ثقيلة للغاية حوّلتها إلى جزيرة كبرى معزولة عن العالم، فإن هذه الحرب تلقي بظلالها على شتى بقاع العالم، فهي عجّلت المؤجّل، أي أزمة نقص الغذاء التي يكافح العالم لربح الوقت من أجل تأمين الغذاء الكافي لكل الناس.
“استعادة الأمة الروسية الكبرى”
في دهاليز السياسة الروسية يظهر “عقل بوتين”، الفيلسوف القومي ومنظّر العالَم الروسي ألكسندر دوغين، معتنق مفهوم روسيا الجديدة، الذي يعني “استرجاع الأمة الروسية الكبرى قوتها بالعودة إلى قيمها المحافظة”، واستخدمَ هذا المفهوم لتبرير السيطرة على مناطق كانت تخضع تاريخيًّا للاتحاد السوفيتي، مثل ضمّ شبه جزيرة القرم عام 2014 والحرب الروسية على أوكرانيا لمنع تمدُّد نفوذ واشنطن.
بوتين ودوغين يتحدثان بالعبارات نفسها، فهذا الأخير يعتقد أن للعولمة سمًّا يقتل المجتمع الروسي على المدى الطويل، فهي كانت أداة لعالم أحادي القطب، إذ سعت إلى تعزيز هيمنة الغرب وإضعاف جميع المشاركين فيها، كما أنها حشدت، منذ وقت طويل، لتحالف عسكري من أجل تفكيك روسيا.
تقريبًا أفكار دوغين نفسها وردت في وثيقة “السياسة الإنسانية”، بأن نظام العولمة يعرّض الهوية الثقافية للبلدان والشعوب للخطر، خاصة أن أزمة النظام العالمي القائم قاسية للغاية، فهو يتجاهل وينتهك حقوق الإنسان، من منطلق أن المنظمة العالمية للأمم المتحدة تحاول تسييس العمل الإنساني كمحاولة للضغط على الدول والأفراد.
كما يساند دوغين رأي القيادة الروسية، التي روّجت لفكرة أن النظام الأوكراني كان بصدد مهاجمة إقليم الدونباس وشبه جزيرة القرم بإيعاز ودعم من الغرب، في حين أن تركيز القوات الروسية على الحدود لم يكن كافيًا على الإطلاق لمنع هذا الهجوم، لذلك كان من المستحيل الحفاظ على سيادة روسيا إذا لم تشنّ روسيا “عملية عسكرية”.
لمّ شمل الإمبراطورية
اجتاح الجنود الروس منطقة الدونباس، وعقولهم ملأى بأفكار دوغين، الذي شكّلت نظرياته أساسَ لمّ شمل الإمبراطورية الأوراسية، وإعادة توحيد السلاف الشرقيين والروس والأوكرانيين والبيلاروسيين، وقبل ذلك في عام 2014 كانت صوره معلقة في شوراع خاركيف، ولم يكن أتباعه الأوفياء سوى زعماء الانفصاليين الموالين لروسيا في شرق أوكرانيا.
طاقة تدمير تنبع من رأس هذا الفيلسوف المتطرف، ومع ذلك يبدي اقتناعه بأن قرار تدمير البشرية لا يمكن اتخاذه إلا من طرف الولايات المتحدة، وانضمام الناتو إلى الحرب إلى جانب أوكرانيا قد يشكّل نقطة اللاعودة، فعندما يسود الغضب سوف لن يتردد الغرب في تدمير روسيا بالأسلحة النووية، وحسبما يعتقد دوغين لا يمكن أن يسود السلام في العالم من دون روسيا.
منذ أن أخذت روسيا العالم على حين غرة عام 2014 بضمّها لشبه جزيرة القرم، والغرب يبذل الجهود للتبنؤ بسياسة روسيا وتصرفاتها، حيث حتى لو هدأت الحرب في أوكرانيا فمن المرجّح أن تظل الحكومات الروسية في المستقبل مصابة بجنون الارتياب حيال النواية الغربية داخل روسيا نفسها، أو على حدودها الخارجية.
والاحتمال الأسوأ هو أن تستمر هذه الحرب لسنوات، أو أن تنتقل إلى طور آخر يتجاوز ميدانها الحالي، خاصة أن هناك مؤشرات تنذر بأن الولايات المتحدة على حافة الحرب مع روسيا والصين، إذ عمدت إدارة جو بايدن إلى تسخين الجبهة مع بكين حول ملف تايوان، في الوقت الذي كان من المفروض تخفيف حدة التوتر.