تشهد العلاقات الجزائرية الموريتانية في السنوات الأخيرة تطورًا ملحوظًا على عدة مستويات سياسية واقتصادية وأمنية، وتبادل للزيارات والآراء بين مسؤولي البلدَين، ما قد يؤسّس لشراكة جديدة للجزائر على حدودها الغربية، ضمن استراتيجيتها الجديدة الهادفة لاستعادة ثقلها الأفريقي، والذي يعدّ جوارها الحدودي أساسه، خاصة أن مجالات الشراكة متعددة بعيدًا عن نطاق التنافس مع المغرب، الذي يحاول البعض حصر التعاون بين البلدَين فيه.
ووسّعت الجزائر في السنوات الأخيرة مجالات تعاونها مع نواكشوط، من خلال اللجنة الكبرى المشتركة الجزائرية-الموريتانية للتعاون، التي انعقدت يوم الأربعاء في ظرف إقليمي خاص، تحاول فيه الحكومة الجزائرية أن تزيد من صادراتها خارج المحروقات، وأن تحشد دعمًا دبلوماسيًّا أفريقيًّا وعربيًّا لمواقفها الأساسية المتعلقة بالاتحاد الأفريقي وقضايا الصحراء الغربية وفلسطين المحتلة ومالي وليبيا، والتي تعدّ نواكشوط عنصرًا أساسيًّا فيها حين يتعلق الأمر بالاتحاد المغاربي والأمن في منطقة الساحل الأفريقي.
زيارات متعددة
والثلاثاء الماضي، أدّى الوزير الأول الجزائري أيمن بن عبد الرحمان، زيارة عمل إلى نواكشوط، التقى خلالها مختلف مسؤولي البلاد في مقدمتهم الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، وسلّمه دعوة رسمية من الرئيس تبون لحضور القمة العربية المقبلة المقررة في الجزائر يومَي 1 و2 نوفمبر/ تشرين الثاني القادم.
وتسليم رسالة دعوة حضور القمة العربية من قبل الوزير الأول للرئيس الموريتاني، على عكس ما يتمّ مع باقي الدول العربية، يؤكد المكانة التي تعطيها الجزائر لنواكشوط على مختلف الأصعدة.
لكن الموضوع الرئيسي للزيارة، وفق ما جاء في بيان لمصالح الوزير الأول الجزائري، هو انعقاد الدورة الـ 19 للجنة الكبرى المشتركة الجزائرية-الموريتانية للتعاون، والتي حضرها بن عبد الرحمان رفقة 6 وزراء من حكومته، هم وزير الداخلية والجماعات المحلية والتهيئة العمرانية إبراهيم مراد، ووزير العدل عبد الرشيد طبي، ووزير التعليم العالي والبحث العلمي كمال بداري، ووزير التكوين والتعليم المهنيَّين ياسين مرابي، ووزير الأشغال العمومية والري والمنشآت القاعدية لخضر رخروخ، ووزير الصيد البحري والمنتجات الصيدية هشام سفيان صلواتشي.
وتنعقد اللجنة الكبرى المشتركة بالتناوب بين البلدَين، ويرأسها رئيسا حكومة البلدَين، بعدما كانت تتمّ سابقًا على مستوى وزاري فقط، وهي خطوة تشير إلى حرص الجارَين على تعزيز تعاونهما نحو مستوى استراتيجي في مختلف المجالات.
لتحقيق الانطلاقة الاستراتيجية في التعاون الجزائري الموريتاني، باشر البلدان جملة من المشاريع التي من شأنها أن تؤسّس لتعاون هامّ، بالخصوص في جانبه الاقتصادي.
وسبقت زيارة الوزير الأول الجزائري إلى نواكشوط زيارات متبادلة من الطرفَين، أبرزها زيارة الرئيس الموريتاني للجزائر نهاية العام الماضي، والتي عززت مجالات التعاون بين البلدَين الجارَين، فقد كُلِّلت بالتوقيع على عدة اتفاقات ومذكرات تفاهم تخصّ إنجاز طريق برّي يربط بين مدينتَي تندوف الجزائرية والزويرات الموريتانية على مسافة تقارب 800 كيلومتر، واتفاقية تعاون في مجال التعليم العالي والبحث العلمي، وبرنامج تنفيذي في القطاع نفسه لأعوام 2022-2024.
هذا بالإضافة إلى برتوكول اتفاق تعاون في مجال الصحة، ومذكرة تفاهم في مجال التكوين المهني، وأخرى تتصل بقطاع المؤسسات المصغّرة، وبروتوكول اتفاق بين الكونفدرالية الجزائرية لأرباب العمل المواطنين والاتحاد الوطني لأرباب العمل الموريتانيين، يتعلق بإنشاء مجلس الأعمال الجزائري-الموريتاني.
وتوالت بعد هذا الزيارات لعدة وزراء، أبرزها زيارة وزير الطاقة والمناجم محمد عرقاب لنواكشوط، والتي توّجت بتوقيع مذكرة تفاهم في مجال الطاقة والمعادن، والتي تقضي بمساهمة الجزائر بتجربتها في هذا المجال في تطوير قطاع الطاقة بموريتانيا.
وقد سبقت هذه الزيارات زيارة وزراء الصحة والداخلية والنقل من كلا البلدَين، والتي تصبّ كلها في التأسيس لشراكة متينة، من شأنها رفع التعاون بين البلدَين الذي يظل دون المستوى المطلوب.
خطوات فعّالة
لتحقيق هذه الانطلاقة الاستراتيجية في التعاون الجزائري الموريتاني، باشر البلدان جملة من المشاريع التي من شأنها أن تؤسّس لتعاون هامّ، بالخصوص في جانبه الاقتصادي.
ويأتي في مقدمة هذه المشاريع الطريق الرابط بين تندوف الجزائرية والزويرات الموريتانية على مسافة تقارب 800 كيلومتر، حيث أكدت هذا الأسبوع وزارة الأشغال العمومية والري والمنشآت القاعدية الجزائرية استعداد بلادها التام لإنجاز مشروع الطريق هذا.
وقالت مديرة الطرق السيارة بوزارة الأشغال العمومية والري والمنشآت القاعدية، صونيا أدافير، إن الطرفَين اتفقا على برتوكول تنفيذي لمذكرة التفاهم التي وُقّعت في ديسمبر/ كانون الأول المنصرم، الخاصة بإنجاز الطريق الرابط بين مدينتَي تندوف والزويرات، مضيفة أن الجزائر “على أتمّ الاستعداد لإنجاز هذا المشروع الحيوي، سواء فيما يتصل بالدراسات الخاصة به أو قائمة الشركات التي ستوكل إليها هذه المهمة”.
وستتكفل الجزائر بتمويل هذا الطريق ومتابعة إنجازه، إضافة إلى حق تسييره لمدة 10 سنوات حتى في الجانب الموجود بموريتانيا، وهو الذي سيمكّن من رفع حجم التبادل التجاري والاقتصادي بين البلدَين، وينشئ حركة اقتصادية وتنموية بالمناطق الحدودية، خاصة أنه سيسهّل دخول المنتجات الجزائرية إلى موريتانيا، ومنها إلى غرب أفريقيا، ما يجعل موريتانيا بلدًا محوريًّا في رواقَي القاهرة-دكار والجزائر-دكار، والتواصل البرّي مع 3 دول مغاربية هي الجزائر وتونس وليبيا.
وسيسمح هذا الطريق توفير حماية أمنية لرعايا البلدَين، بالخصوص التجّار الجزائريين، ومنقّبي المعادن الموريتانيين الذين يتعرضون بين فترة وأخرى إلى قصف ناري من طرف قوات مغربية من أراضي الصحراء الغربية المحتلة، حيث قُتل موريتانيان اثنان منقّبان عن الذهب الاثنين الماضي، وأُصيب آخر في قصف بطائرة مسيَّرة في المنطقة المتاخمة للأراضي الموريتانية من الصحراء الغربية، ومعلوم أن المغرب الذي اقتنى مسيّرات من الاحتلال الإسرائيلي هو الوحيد من يملك هذا النوع من السلاح، الذي لا تحوزه موريتانيا أو جبهة البوليساريو.
وفي 9 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، اتفقت الجزائر وموريتانيا على تأمين مواطني البلدَين خلال تنقلاتهم بين الجزائر وموريتانيا، وتكثيف الدوريات الأمنية على الشريط الحدودي، وذلك بعد الاعتداء المغربي على 3 تجّار جزائريين قرب الحدود الموريتانية، حيث تمّ استهداف شاحناتهم بالرصاص الحي وبطائرات مسيَّرة.
تأمل الجزائر من الخط البحري نحو موريتانيا تصدير العديد من السلع والمنتجات إلى نواكشوط وباقي دول غرب أفريقيا.
ومن المشاريع الرئيسية التي ستعزز التعاون بين البلدَين، هي تلك التي ستنفّذها الجزائر في مجال الطاقة بموريتانيا، وتتعلق بمذكرة جديدة تتضمّن سبل التعاون وفرص الشراكة بين سونلغاز الجزائرية وسوميلاك الموريتانية، في كل ما يتعلق بالربط الكهربائي وإمكانية بيع بعض المواد الخاصة بالكهرباء المصنَّعة بالجزائر.
وفي الزيارة التي أدّاها وزير الطاقة والمناجم، محمد عرقاب، إلى موريتانيا في يونيو/ حزيران الماضي، جرى التوقيع على اتفاقات مرتبطة بمجال الطاقة والمعادن، لترقية مجال التعاون العلمي والتقني والتكنولوجي والتشريعي والإداري والتجاري في مجالات المحروقات والطاقة والمعادن وتعزيز الاستثمارات في الطاقة والمعادن، ودراسة فرص الاستثمار وتبادل الخبرات والدعم الفني في مجال استكشاف المحروقات.
وتضمّنت الاتفاقية دراسة فرص التعاون في مجال استخدام غاز البترول المسال والغاز الطبيعي المضغوط كوقود للسيارات، ودراسة فرص تزويد السوق الموريتانية بالمحروقات والمواد البترولية والغاز المنزلي وتطوير الخدمات البترولية وفق شروط السوق الدولية، ودراسة فرص إعادة تأهيل وتوسعة مرافق تخزين غاز البترول المسال في موريتانيا، الذي ستتولى مهمته شركات الطاقة الجزائرية المعروفة كسوناطراك وسونلغاز.
ونصّت مذكرة التفاهم أيضًا على دراسة فرص الشراكة في مجال صناعة أسطوانات غاز البترول المسال، ودراسة فرص تطوير صناعة الأسمدة الفوسفاتية والآزوتية في موريتانيا، وتبادل الخبرات والدعم الفني في مجال التكرير وتحويل المحروقات، وتعزيز التعاون بين مجمع سوناطراك والشركة الموريتانية للمحروقات، والتنقيب الجيولوجي واستكشاف المواد الخام المعدنية، والتعاون التقني والدعم الفني في مجال المعادن.
ووقّع وقتها المدير العام لسوناطراك الجزائرية، توفيق حكار، والمدير العام للشركة الموريتانية للمحروقات، عبد الباقي التراد، على مذكرة تفاهم تهدف إلى تحديد مجالات ومبادئ التعاون بين الشركتَين في عدد من المجالات وترقية التعاون بين الطرفَين، من خلال تبادل الخبرات والتجارب.
وتشكّل موريتانيا بالنسبة إلى سوناطراك سوقًا خارجية جديدة تُضاف إلى كل من مالي وليبيا في المنطقة، أما بالنسبة إلى نواكشوط فهي فرصة هامة لتعزيز قدراتها في مجال المحروقات، في ظل التطورات التي تعرفها أسعار الطاقة عالميًّا.
ولتعزيز التبادل التجاري بين الطرفَين، سارعت الجزائر هذا العام في فبراير/ شباط الماضي إلى فتح خط بحري تجاري نحو موريتانيا، يربط بين ميناء العاصمة الجزائر وميناء نواكشوط، للقيام برحلات شهرية، حملت الباخرة في أولى رحلاتها حاويات مواد صيدلية، وهو القطاع الذي تريد الجزائر تطويره، فمنذ وصول الرئيس تبون إلى السلطة أنشأ وزارة للصناعة الصيدلانية، وتستهدف الجزائر في هذا الشأن السوق الأفريقية، حيث تعمل حاليًّا على تعاقدات مع عدة دول كموريتانيا والسنغال وإثيوبيا.
وتأمل الجزائر من الخط البحري نحو موريتانيا تصدير العديد من السلع والمنتجات الزراعية والمستلزمات المنزلية والتجهيزات الإلكترونية، ومواد غذائية وبلاستيكية، ومواد البناء ومواد الصيدلانية إلى نواكشوط وباقي دول غرب أفريقيا.
26 اتفاقية
وصفت وكالة الأنباء الجزائرية الرسمية العلاقات الجزائرية الموريتانية بـ”المتميزة التي تشهد ديناميكية قوية في التعاون بين البلدَين شملت مختلف المجالات”، وهو ما تمَّ تأكيده الأربعاء بعد أن توّجت أشغال اللجنة المشتركة الكبرى للتعاون بالتوقيع على 26 اتفاقية جديدة في مختلف العلاقات.
ووقّع البلدان اتفاقية تتعلق بالتعاون القضائي في المجال الجزائي، وأخرى في المجال المدني والتجاري، واتفاقية ثالثة تتعلق بتسليم المجرمين، إضافة إلى مشروع اتفاق تعاون في مجال الحكم المحلي واللامركزية والإدارة الترابية ومشروع برنامج تنفيذي لاتفاق التعاون في مجال الأوقاف والشؤون الإسلامية للأعوام 2023-2025.
كما وقّع الطرفان على مذكرة تفاهم في مجالات الكهرباء والطاقات الجديدة، ومذكرة تفاهم أخرى في مجال الطاقات المتجددة، ومذكرة تفاهم تتعلق بالرقمنة، وكذا برنامج تنفيذي لبروتوكول التعاون في قطاع الصيد البحري واتفاق تعاون في مجال النقل البحري، فضلًا عن بروتوكول تعاون في المجال الزراعي.
وضمّت الاتفاقات التوقيع على مشروع برنامج تنفيذي في المجال البيطري، ومشروع برنامج تنفيذي للتعاون في مجال التكوين المهني لعامَي 2023-2024، وبرنامج تنفيذي للتعاون في مجال التجارة الخارجية، ومشروع مذكرة تفاهم في ميدانَي الرقابة الاقتصادية وقمع الغش وحماية المستهلك، ومذكرة تفاهم في مجال الصناعات الصيدلانية.
وأيضًا مشروع مذكرة تفاهم في مجال الأشغال العمومية ومشروع اتفاقية تعاون في النقل البرّي، ومشروع بروتوكول تنفيذي في مجال الإعفاءات لإنشاء الطريق البرّي الرابط بين مدينتَي تندوف والزويرات، إضافة إلى اتفاقات أخرى تتعلق بالتعليم العالي والصيد البحري والتكنولوجيا والموارد البشرية.
وقال الوزير الأول الجزائري، أيمن بن عبد الرحمان: “سنعمل سويًا، وبكل جهد، على الرفع من المبادلات الاقتصادية والتجارية بين البلدَين، والتي عرفت تحسنًا لافتًا خلال الفترة الأخيرة، بفضل إنشاء المعبر الحدودي، وافتتاح خط بحري بين البلدَين، دون أن ننسى المشروع الاستراتيجي الهام المتمثل في الطريق الرابط بين تندوف الجزائرية والزويرات الموريتانية، والذي سيكون عن حق رواقًا اقتصاديًّا كفيلًا بتنشيط الحركية الاقتصادية بين البلدَين وفي المنطقة برمّتها، ونحن نفتخر بهذه المساهمة التي تقدمها الجزائر عن طريق هذا المشروع لتعزيز جهود الاتحاد الأفريقي في الدفع بالتكامل والاندماج بأفريقيا”.
ارتفعت قيمة الصادرات الجزائرية نحو موريتانيا إلى 205% خلال الثلث الأول من عام 2021، مقارنة بالفترة ذاتها من العام الذي سبقه
وبدوره، اعتبر الوزير الأول الموريتاني، محمد ولد بلال مسعود، أن أعمال هذه الدورة “كانت ناجحة لما تضمّنته من اتفاقيات ومذكرات تفاهم تمسّ جميع القطاعات الحيوية، وكذا نظرًا إلى ابتكار آلية جديدة لمتابعة تنفيذ الاتفاقيات، تتمثل في لجنة وزارية مشتركة”.
وبالنظر إلى عدد الاتفاقات الموقعة بين البلدَين، تظهر جدّية الجزائر في بناء علاقات استراتيجية مع موريتانيا، تتعدّى التنافس في النفوذ بين المغرب واستمالة طرف لصالحها على حساب الرباط، بالنظر إلى أن الشراكة الحالية توجّهت مباشرة إلى المجالات التي تسمح بتعاون حقيقي بين الطرفَين، كقطاعات الطاقة والأمن والصيد البحري وتنمية المناطق الحدودية.
وتظهر هذه الجدّية في ارتفاع قيمة الصادرات الجزائرية نحو موريتانيا بـ 205% خلال الثلث الأول من عام 2021، مقارنة بالفترة ذاتها من العام الذي سبقه.
وتحاول الجزائر عبر هذا الارتفاع تصحيح تدنّي التعاون بين البلدَين الذي سُجِّل في سنوات ماضية، فرغم أن الجزائر هي ثاني مموّن أفريقي لموريتانيا، حيث تستأثر بـ 20% من حصة الواردات الموريتانية من السوق الأفريقية، إلا أن قيمتها المالية تبقى هزيلة، حيث لم تتعدَّ في أعلى معدل لها حاجز 53 مليون دولار عام 2017، وهو الرقم الذي انخفض في السنوات التي تلت ذلك، لكن هذا التراجع عاود الانتعاش بارتفاع قيمة الصادرات الجزائرية نحو موريتانيا بنسبة 100% عام 2020.
من المؤكد أن بعث شراكة حقيقية كانت جامدة في السنوات الماضية ليس بالأمر السهل، إلا أن جدّية الجزائر وموريتانيا في الرقي بهذه الشراكة من شأنه الرفع من قيمة ومستوى التعاون بين البلدَين، ليصبحا نموذجًا في المنطقة المغاربية والأفريقية، والذي لن يتحقق إلا بالتنفيذ الكلّي والصادق للاتفاقات الموقعة، التي من شأنها جعل أي قراءة تربط هذه الشراكة بالتنافس مع المغرب تسقط في الماء، ولا تلقى أي آذان صاغية.