قررت السلطات الفرنسية في الأسابيع الأخيرة إعادة إصدار التأشيرات إلى النسق الطبيعي للمواطنين التونسيين والجزائريين، لكن القرار استثنى المغرب، وذلك بعد نحو سنة من تشديد باريس ضغوطها تجاه الدول الثلاثة بإعلانها تخفيض عدد التأشيرات الممنوحة لمواطنيها ردًا على “رفض” هذه الدول إصدار التصاريح القنصلية اللازمة لاستعادة مهاجرين من مواطنيها وصلوا إلى فرنسا بشكل غير قانوني.
يؤكد القرار الفرنسي تواصل الأزمة بين باريس والرباط، وإن سعى مسؤولو البلدين إلى نفي وجودها في أكثر من مناسبة، أزمة تكشفها مؤشرات عدة، لكن السؤال المطروح الآن: ما الذي أوصل العلاقات بين البلدين إلى هذه النقطة، وقد عُرف عنهما تقارب كبير وتفاهم واسع في قضايا عديدة؟
مؤشرات كبيرة
فضلًا عن استثناء المملكة من قرار إعادة إصدار التأشيرات، استثنى حكام الإليزيه الرباط من الزيارات الدبلوماسية في الوقت الذي كثّفوا فيه زياراتهم إلى كل من تونس والجزائر، وقبل أيام زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الجزائر وجرى خلال الزيارة الاتفاق على العديد من القضايا الأمنية والاقتصادية والسياسية.
كما زار عدد من الوزراء الفرنسيين تونس، فيما زارت رئيسة الحكومة التونسية نجلاء بودن باريس قبل أسبوعين والتقت هناك برئيسة الوزراء الفرنسية إليزابيث بورن والعديد من المسؤولين الكبار للتباحث بشأن العديد من القضايا المشتركة، وقبل ذلك زار الرئيس قيس سعيد باريس.
من مؤشرات الأزمة أيضًا عدم حصول أي اتصال بين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والعاهل المغربي الملك محمد السادس رغم وجود الأخير في فرنسا لفترة طويلة في الأشهر الماضية لأسباب صحية وعائلية.
من أبرز أسباب الأزمة كذلك موقف فرنسا من قضية الصحراء الغربية، فماكرون صامت ولم يدل بموقف واضح من الملف
من المتعارف عليه بروتوكوليًا أن يتصل الرئيس الفرنسي بالملك المغربي عند إصابته بفيروس كورونا للاطمئنان على صحته، خاصة أنه ذهب إلى فرنسا للعلاج، لكن هذا لم يحدث، ليؤكد وجود أزمة صامتة بين البلدين.
الأزمة وصلت المجال الاقتصادي أيضًا، فقد تراجع رقم المعاملات بين البلدين، وقررت العديد من الشركات الفرنسية مغادرة الأراضي المغربية، ووفق وسائل إعلام محلية تستعد عدد من الشركات الفرنسية الكبرى لسحب استثماراتها ومغادرة المغرب، على رأسها شركة “ليديك” المكلفة بالتدبير المفوض للكهرباء والماء والتطهير السائل في مدينة الدار البيضاء.
وقبل ذلك، وقعت المجموعة البنكية الفرنسية “القرض الفلاحي” عقد تفويت حصة 78.7% من رأس مال فرعها بالمغرب “مصرف المغرب” إلى مجموعة هولماركوم المغربية، رغبة من المجموعة الفرنسية في الخروج من المملكة المغربية.
أسباب كثيرة
تُرجع أوساط مغربية وفرنسية عديدة الجمود الحاصل في العلاقات بين البلدين إلى مسألة التأشيرات والهجرة، فمنذ قرار باريس في سبتمبر/أيلول الماضي تخفيض عدد التأشيرات الممنوحة للمغاربة، عرفت العلاقات تراجعًا كبيرًا.
عادة كان المغاربة يحصلون سنويًا على نحو 300 ألف تأشيرة لدخول فرنسا (سياحة أو عمل)، إلا أن العدد تقلص كثيرًا بعد قرار تشديد منح التأشيرات، وفي السنة الأخيرة رفضت أكثر من 70% من طلبات تأشيرات المغاربة، فيهم الأطباء والمهندسون وأصحاب الأعمال.
إلى الآن لم يستسغ المغاربة القرار الفرنسي خاصة أن “المغرب كان دائمًا يتعامل مع مسألة الهجرة وتنقل الأشخاص بمنطق المسؤولية والتوازن اللازم بين تسهيل تنقل الأشخاص سواء طلبة أم رجال الأعمال، ومحاربة الهجرة السرية والتعامل الصارم حيال الأشخاص الذين هم في وضعية غير قانونية”، وفق وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة.
لحد الآن حتى واحد ما عارف سبب الأزمة مع فرنسا … كاين لي كايقول بسبب المهاجرين غير النظاميين لي رفض المغرب استقبالهم و لكن اظن المشكلة اعمق ذلك و حتى مسؤول ما خرج يعطي تفسير … على الأقل يكون رد بالمثل و فرض تأشيرات على الفرنسيين كما هم يرفضون اعطاء تأشيرات حتى لكبار الموظفين
— Enissay ⭐️⭐️⭐️ (@mr_enissay) August 17, 2022
إضافة إلى الهجرة، يعتبر ملف “التجسس” أحد أبرز الملفات العالقة بين البلدين، إذ اتهمت أوساط فرنسية في يوليو/تموز 2021 السلطات المغربية بالتجسس على الطبقة السياسية الفرنسية، ومنهم الرئيس ماكرون بواسطة برنامج بيغاسوس الإسرائيلي.
رغم نفي الرباط الاتهام، ورفعها في 28 من الشهر ذاته دعوى قضائية ضد كل من صحيفة “لوموند” وموقع “ميديا بارت” و”فرانس راديو” بتهمة التشهير، فإن تداعيات هذه القضية ما زالت تلقي بظلالها على العلاقات بين البلدين، ويستخدم برنامج “بيغاسوس” عادة للتنصت على ناشطين بمجال حقوق الإنسان وسياسيين وصحفيين عبر اختراق هواتفهم ومراقبة البريد الإلكتروني والتقاط صور وتسجيل محادثات.
من أبرز أسباب الأزمة كذلك موقف فرنسا من قضية الصحراء الغربية، فماكرون صامت ولم يدل بموقف واضح من الملف، ما جعل الملك لا يذكر فرنسا ضمن الدول الداعمة لبلاده في ملف الصحراء في خطابه الأخير يوم 21 أغسطس/آب الماضي.
في ذلك الخطاب، قال العاهل المغربي: “ننتظر من الدول التي تتبنى مواقف غير واضحة بخصوص مغربية الصحراء أن توضح مواقفها بشكل لا يقبل التأويل”، وأضاف “ملف الصحراء هو النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم، وهو المعيار الذي يقيس به صدق الصداقات ونجاعة الشراكات”.
كلا الطرفين خاسر والرابح الوحيد من هذا الأمر دون شك هي الجزائر التي تأمل في تواصل التوتر وأن يصل إلى مرحلة متقدمة لا يُمكن العودة بها
تعتبر قضية الصحراء الغربية المحدد الأبرز للسياسية الخارجية المغربية، باعتبارها القضية الوطنية الأولى للمغاربة، فرغم محاولة النظام التحرر شيئًا فشيئًا من ثقل هذه القضية لا سيما في تعاطي المملكة مع بعض الدول الإفريقية، تعيب الرباط على – حليفتها التاريخية – باريس عدم التعبير صراحة عن دعمها لطرحها بخصوص ملف الصحراء، خاصة بعد اعتراف الولايات المتحدة، في عهد إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، بسيادة المغرب على الصحراء الغربية المتنازع عليها مع جبهة البوليساريو، وظهور تطورات في مواقف شركاء أوروبيين على غرار إسبانيا وألمانيا وإسبانيا من الملف.
خسائر كبرى للفرنسيين
صحيح أن للمغرب خسائر كثيرة نتيجة هذا التوتر الذي يخيم على العلاقات، إلا أن الخاسر الأكبر هي فرنسا، ذلك أن خسارة حليف بقوة المغرب في شمال إفريقيا له أن يؤثر سلبًا على مكانتها في المنطقة وفي إفريقيا ككل.
يضم المغرب أكبر جالية فرنسية في الخارج، كما يستقبل أكثر من ألف شركة فرنسية، تتمتع بأفضلية كبيرة في السوق المغربية على باقي الشركات الأجنبية ما يجعل أرباحها كبيرة، وأي تدهور بالعلاقات سيعود بالسلب على هذه الشركات.
وعرفت مكانة فرنسا الاقتصادية في المغرب تراجعًا لصالح إسبانيا، رغم محاولات باريس ضخ استثمارات كبيرة في قطاعات أساسية كالصناعة والنقل والسياحة والخدمات، وتخشى فرنسا أن تتراجع مكانتها الاقتصادية أكثر.
خسائر فرنسا الاقتصادية لن تقتصر على السوق المغربي، بل ستمتد للسوق الإفريقي، ذلك أنه يُنظر للمغرب على أنه بوابة الغرب نحو إفريقيا، وفي حال توتر العلاقات أكثر بين باريس والرباط، فإن ذلك سيؤثر على الاستثمارات الفرنسية في إفريقيا.
سفارة فرنسا بالرباط ترفض تأشيرات للمغاربة. #المغرب #فرنسا #الهجرة #تاشيرات #القنصلية_الفرنسية #الرفض #فيزا #الاخبار #اكسبلور #n9ta pic.twitter.com/4uhFvryzML
— نقطة (@n9tanews) August 13, 2022
ليس هذا فحسب فتوتر العلاقات سيعطي دافعًا للمغرب للعمل في مناطق نفوذ فرنسا التقليدية، مثل غرب القارة، مستغلًا تنامي مشاعر العداء للوجود الفرنسي السابق، بالنظر إلى الماضي المخزي للمستعمر الفرنسي في دول القارة.
وتخشى فرنسا أن يتحالف المغرب مع قوى منافسة لها على غرار تركيا والولايات المتحدة الأمريكية ودول الخليج، ويعملون معًا في القارة الإفريقية، ما سيفقدها مكانتها ونفوذها السياسي والاقتصادي في منطقة عرفت تاريخيًا بتبعيتها لباريس.
خسائر باريس يمكن أن تمتد للجانب الأمني أيضًا، فتوتر العلاقات مع حليف مهم كالمغرب، سيُفقد باريس معلومات وتنسيق أمني واستخباراتي في إفريقيا والبحر المتوسط وأوروبا، هي في أمس الحاجة له للتصدي للإرهاب والهجرة غير النظامية.
لا يعني هذا أن المغرب سيربح من توتر العلاقات مع فرنسا، فكلا الطرفين خاسر، والرابح الوحيد من هذا الأمر دون شك هي الجزائر التي تأمل في تواصل التوتر وأن يصل إلى مرحلة متقدمة لا يُمكن العودة بها، وذلك تنفيذًا لتوجهاتها في المنطقة.